الرابعة إلا أربع دقائق فجراً..
كالعادة كل شيء ھادئ في الزمالك.. العمل ھنا يختلف تماماً عن عملي السابق في فرع المحل بوسط
البلد.. ھنا لا مجال لزحام میدان التحرير الخانق، خصوصا أنني أعمل في الفترة اللیلیة.. صحیح أن الطلبات
تزداد مع منتصف اللیل، ولكن الشوارع ھنا ھادئة تماما، أستطیع أن أتنقل فیھا بالدارجة النارية بسھولة.
الرابعة إلا ثلاث دقائق..
منذ عشر دقائق جاءت تلك المكالمة إلى المحل طالبة بعض البیتزا، أربع علب بیتزا مع أربع زجاجات كولا،
أما العنوان فھو شارع "حسن مظھر" في الزمالك.. دعوني أعترف أولا أنھا رابع لیلة لي فحسب منذ بدء
عملي في قسم توصیل الطلبات للمنازل بفرع الزمالك، اللیلة الرابعة فحسب، لذلك أعتمد على الخريطة
اعتمادا شبه كامل للوصول إلى الھدف المطلوب!
الرابعة إلا دقیقتین..
ثمة شيء غريب لمحته في عیني موظف الھاتف، وھو يكتب العنوان على الآلة الكاتبة قبل طبعه لي، ثمة
نظرة غیر مفھومة رأيتھا تتسلل من عینیه، تحولت لنظرة مملوءة بالغموض وھو يسلمني الطلب في كیس
مُلصق علیه ورقة بالعنوان والطلبات والحساب كالمعتاد.. ثم إنه قال تلك العبارة غیر المفھومة:
«! لا تنس!.. لا تدخل الشقة » –
ما الذي يقصده ھذا الأبله؟!..
ثم عاد يتطلع لي بنظرة من يودّع شخصاً ذاھباً إلى الحرب أو الموت.. ما الأمر؟ ھل بدأت ھلاوس العمل لیلاً
مبكراً ھكذا؟!
الرابعة إلا دقیقة واحدة..
يبدو أن ھذا ھو الشارع.. الھدوء وأضواء الكاشفات تأتي من وسط الأشجار الكثیفة، تمر درّاجتي مسرعة
وسط صفي السیارات الرابضة على جانبي الطريق.. كل شيء ھادئ ومريح!.. ثمة سؤال كنت أسأله
لنفسي دائما: لماذا ترك "حسام" زمیلي العمل ھنا وطلب نقله إلى فرع وسط البلد في فترة النھار؟!..
وھي أسخف مكان ووقت ممكن العمل فیه، لماذا يترك شاب عاقل الزمالك الھادئة من أجل وسط البلد؟!..
ربما كان ذلك لحسن حظي لا أكثر!
الرابعة تماماً.. إن الساعة تعلنھا في حیاء!
أصل للبرج السكني المطلوب.. عمارة كھذه لا بد أن تطلب بیتزا طبعاً.. البواب نائم -أو يبدو ھكذا- أمام
المدخل.. أركن الدراجة وأترجّل..
أتنحنح فیستیقظ وينظر لي متسائلاً.. أقول في آلیة:
– الشقة 44 .. الدور الرابع!
– إيه يا بیه؟
يبدو أنه لم يستیقظ بعد.. أبتسم له وأتجاوزه، بینما ھو لا يزال ينظر لي بعینین حائرتین.. ما الذي يفعله ھذا
الأبله ھنا؟.. لیذھب لیكمل نومه، ويدعني أؤدي عملي.
أتجه إلى المصعد.. ھذه میزة مھمة لو عملت في الزمالك، مصاعد الزمالك حديثة جمیلة لا تتعطل -على
عكس مصاعد وسط البلد القديمة المتعطلة دائماً- لو أردت أن تعمل في توصیل الطلبات، لا تختر أبداً وسط
البلد.. خذھا مني حكمة!
أتوقف في الطابق الرابع.. الشقق لیست كثیرة، فلیسمعنى أن الھدف ھو الشقة 44 أن تكون ھناك 43
شقة قبلھا.. لا طبعاً.. إنھا مجرد أرقام.. خبرتي تؤكد ذلك!
ثمة شيء غريب في مدخل ھذه الشقة.. المدخل يقع في ركن مظلم كئیب في نھاية الممر، لماذا لا يبتاع
صاحبھا مصباحاً يعلقه أمام باب الشقة؟!.. ھناك أيضاً نباتات الظل المفزعة ھذه.. تبّاً لھم!
أتجه إلى الشقة، وأقرع الجرس.. ما من صوت للجرس.. أقرعه مرة أخرى.. لا صوت أسمعه.. ھل الجرس
معطل أيضا؟.. جرس شقة معطل في برج فخم كھذا؟.. تباً لھم مرة أخرى!
حسناً.. لنجرب طرق الباب.. أطرق مرة.. مرة ثانیة.. ما من مجیب.. ھل اتصلوا بنا لیطلبوا البیتزا وناموا؟..
مرة ثالثة!
حین رفعت قبضتي بالضربة الرابعة شعرت بالباب يفتح، كلا لم أشعر بأن أحداً قد فتحه، بل بدا كأنه كان
مفتوحاً منذ البداية..
ھل أنا أحمق أم ماذا؟.. بعد كل ھذه الطرقات كان الباب مفتوحاً؟!
على أية حال سأدخل.. لن أرجع بالطلب بخفَيْ حنین.. أدفع الباب وأدخل، المدخل مظلم، ورائحة قوية تملأ
المكان، رائحة أقوى من أن تمیز إن كانت ذكیة أم خبیثة، أتنحنح محاولا جذب الانتباه، ولا أحد يجیب..
لحظة.. ھناك ضوء في تلك الغرفة.. وضعھا يؤكد أنھا غرفة نوم.. ھل أدخل؟!
نعم.. لا بد أن من فَتَح الباب أسرع إلیھا.. ھل ھناك من فَتَح الباب أصلا؟!..
على أي حال سأتقدم.. قلت إنني لن أرجع بالطلب ثانیة.. مستحیل!.
ھنا خرج لي ذلك الرجل مندفعا بشدة.. وقف في الصالة شبه المظلمة، يتطلع فیما حوله، وتجاوزتني
عیناه كأنه لم يرني أصلا..
يتجه نحو المائدة البیضاوية، وينتزع منھا – يا نھار أسود- مسدسا!
يا باشا order – ال
وكأنه لم يسمع، يتجه إلى غرفة النوم، فیتعالى صوت صیاح من الداخل، لا بد أن ثمة مشاجرة ھناك مع
زوجته، ماشأني أنا؟.. أنا أريد حسابي، لأنصرف تاركا لھم الشقة يتشاجران فیھا كما شاءا.. ما ھذه
الورطة؟
الرابعة وأربع دقائق.. اللعنة!
صراخ المرأة يتعالى.. تستغیث.. تصرخ أكثر.. لن أدخل ھذه الغرفة أبدا.. من أدراني أنھم لا يريدون
استدراجي ھناك ومن ثم يتم قتلي أوسرقتي؟
ھاھا..سرقتي أنا؟!.. ھل من يسكن في شقة كھذه يفكر في سرقة عامل توصیل طلبات مثلي؟
ھنا خرجت امرأة عدْواً من الغرفة بقمیص النوم.. تعثرت وسقطت وسط الصالة، ظھر الرجل من غرفة
النوم، ورفع مسدسه.. ماذا يفعل ھذا المجنون؟
طاخ! طاخ! طاخ! طاخ!
أربع طلقات نارية دوّت.. المرأة سقطت على ظھرھا، والدماء تتفجر من صدرھا.. اللعنة! ماذا يحدث
بالضبط؟!!
تسقط علب البیتزا مني، وأنا أركض خارج الشقة.. أصرخ.. النجدة! النجدة! أصرخ بكل ما أوتیت من قوة..
تدوي طلقات أخرى من الداخل.. طاخ! طاخ! طاخ! طاخ! ثم صوت ارتطام بالأرض، وبعدھا عاد الھدوء، ماذا
حدث؟!!
أعود لألقي نظرة.. الرجل ملقى أرضاً، والدماء تسیل من رأسه، والمسدس في يده.. انتحر! يا للكارثة!
أخرج وأصرخ.. أسقط أرضا وأصرخ.. لم أعد قادراً على الاحتمال.. أصرخ!
لم أسكت إلا والجیران حولي.. كنت ساقطاً أمام باب الشقة، وما زلت أصرخ.. لم أرَ الھلع في عیون من
حولي.. فقط تلك النظرات المتعاطفة إياھا.. أنا لست مجنونا!.. أنا شاھد على جريمة قتل ياسادة!
والبواب يمسك بیدي، ويناولني كوب ماء ويقول:
– طب كنت قولي يا بیه.. كنت قل لي.. إنت باين علیك جديد ھنا!..
أنظر لباب الشقة خلفي فأجده مغلقاً.. الباب مغلق.. كیف؟
– كل زمايلك اللي كانوا بییجوا ھنا عارفین.. من ساعة ما الباشا الدكتور قتل مراته وانتحر، وكل لیلة
ده بیحصل.. قصدي يعني "بسم الله الرحمن الرحیم" بتاعھم بیعمل كده.. وعلى طول كانوا
متعودين يطلبوا بیتزا الفجر، وكل واحد من زمايلك عارف كويس إنه بییجي ياخد الفلوس ويسیب
البیتزا من على باب الشقة ويمشي وخلاص ومالوش دعوة.. إنت إيه إللي دخّلك؟!
عادى بسم الله الرحمن الرحيم بتاعهم بيطلع كل يوم
ناس غريبه هههه
يسلمووو ع الرعب ده يا قمر