تخطى إلى المحتوى

الأجل والرزق 2024

الأجل والرزق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

وبعدُ:
فعن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: حدَّثَنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – وهو الصادق المصدوق: ((إنَّ أحدَكُم يُجْمَعُ خلقُه في بطن أمِّه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مِثلَ ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسَل الملَكُ، فينفخ فيه الرُّوح، ويُؤْمَر بأربع كلمات: بِكَتْبِ رزقه، وأجلِه، وعملِه، وشقيٌّ أو سعيد))
[1]
.

في هذا الحديث أربعُ قضايا مِن أمور الغيب، يَجِبُ الإيمانُ بها، واليقين الجازم بِصِدْقِها، وسيقتصر حديثي على اثنين منها، وهما: الأَجَل والرِّزق.

لقد دلَّت نصوص الكتاب والسُّنَّة على أن الله كَتَب الآجالَ والأرزاق، فلا يَزيد فيهما حرصُ حريص، ولا يردُّهما كراهِيةُ كارِهٍ.

عن عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: ((كتب اللهُ مقاديرَ الخلائق قبل أن يَخلق السمواتِ والأرضَ بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء))[2].

وقد أكَّد – سبحانه وتعالى – هذه الحقيقةَ في آياتٍ كثيرة من كتابه؛ قال – تعالى -: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145].

وقال – تعالى -: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].

وقد ظنَّ بعضُ المنافقين أنَّ تأخُّرَهُم عنِ الجهاد في سبيل الله، وجبنَهم عن ملاقاة الأعداء، سيكون مانعًا لهم من الموت، فقطع الله تلك الآمالَ الكاذبة بقوله: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154]؛ ولهذا فإنَّ الوقائعَ تشهد بأنَّ الذين يُقْتَلُون مُدْبِرِينَ أكثرُ بأضعاف كثيرة مِن الَّذين يُقتلُون مُقبلِين، قال الشاعر:

تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ لِنَفْسِي حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا
ومثلُ الأجلِ الرِّزقُ، فإن ما كُتب للعَبْدِ مِنْهُ سينالُه لا محالة؛ قال – تعالى -: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]، وقال – تعالى -: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 22، 23].

عن أبي أمامة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن رُوح القدس نفَثَ في رُوعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلَها، وتستوعب رِزقَها، فاتَّقوا الله، وأجمِلوا في الطلب، ولا يحملَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزق أن يطلبه بمعصية؛ فإن الله – تعالى – لا يُنال ما عنده إلا بطاعته))[3].

فما كُتب للعبد من رِزق وأجل، فلا بد أن يستكمله قبل أن يموت؛ عن جابر – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَفِرُّ مِنَ المَوْتِ، لأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كما يُدْرِكُهُ المَوْتُ))[4].

وتأمَّل هذا الحديثَ في أدب الدعاء، وهو يؤكِّد هذه الحقيقة:
عن أم حبيبة – رضي الله عنها – أنها قالت: "اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بِزَوْجِي رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – وَبِأَبِي أبي سُفْيَانَ، وبِأَخِي مُعَاويةَ"، فقال لها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لقد سألْتِ اللهَ لآجالٍ مضروبة، وآثارٍ موطوءة، وأرزاقٍ مقسومة، لا يُعجِّل شيئًا منها قبل حِلِّه، ولا يؤخِّر منها شيئًا بعد حلِّه، ولو سألتِ الله أن يُعَافِيَكِ من عذابٍ في النار، وعذاب في القبر، لكان خيرًا لكِ))
[5]
.

ومما تَقَدَّمَ؛ يَتَبَيَّن ما يأتي:
أولاً: الإيمان بأن الآجال والأرزاق مقسومةٌ معلومة، لا يجلبهما حرصُ حريص، ولا يردُّهما كراهية كارهٍ.
ثانيًا: أن هذا لا يمنع فعْلَ الأسباب التي شرَعَ اللهُ لعباده الأخذَ بها؛ قال – تعالى -: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
ثالثًا: في حديث أبي أمامة المتقدِّم إشارةٌ إلى أمرين اثنين:
1- أن يسعى العبدُ في طَلَب الرِّزق الحلال، وأن يجتنبَ الحرامَ والأسبابَ المؤدِّية إليه.
2- ألاَّ يَطلب الرزقَ بجشعٍ وحرص، ولْيستحضر قولَه – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن كانت الآخرة همَّه، جَعَلَ اللَّهُ غِناهُ في قَلْبِه، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كانَتِ الدُّنيا هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بين عينيه، وفرَّق عليه شملَه، ولم يأتِه من الدنيا إلاَّ ما قُدِّر له))
[6]
.

رابعًا: الأسباب التي تُستجلَب بها الأرزاقُ، وتُستدفع بها المكارهُ – كثيرةٌ، وهذه إشارة إلى بعضها:
1- التوكُّل على الله:
عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لو أنكم تَتَوَكَّلُونَ على الله حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كما يَرْزُقُ الطَّيْرَ؛ تغدو خِماصًا، وتروح بِطانًا))
[7]
.

2- الاستقامة على شرع الله – عز وجل -:
قال – تعالى -: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]، وقال – تعالى -: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، وقال – تعالى -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].

3- المداوَمة على الاستغفار والتوبة:
قال – تعالى -: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10، 12].

4- صلة الأرحام:
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنَّ النَّبِيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((مَنْ أحبَّ أنْ يُبسَطَ لَهُ في رِزقه، وأن يُنْسَأَ له في أَثَرِه، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ))
[8]
.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

_______________________________
[1] "صحيح البخاري" (4/396)، برقم: (7454)، و"صحيح مسلم" (4/2036)، برقم: (2631).
[2]
"صحيح مسلم" (4/2044)، برقم: (2652).
[3]
"حلية الأولياء" (10/27)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير" (1/420)، برقم: (2085).
[4]
"حلية الأولياء" (7/90)، وصححه الألباني – رحمه الله – في "السلسلة الصحيحة" (1/672)، برقم: (752).
[5]
"صحيح مسلم" (4/2051)، برقم: (2663).
[6]
"سنن الترمذي" (4/642)، برقم: (2465)، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع الصغير" (2/1111)، برقم: (6516).
[7]
"مسند الإمام أحمد" (1/30).
[8] "صحيح مسلم" (4/1982)، برقم: (2557).

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.