الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم
الإعجاز معناه سبق الشيء لغيره سبقاً بالغاً، بحيث يصير المسبوق عاجزاً عن إدراكه لحاقاً به، أو سباقاً له، ومنه «معجزات» الأنبياء عليهم السلام، التي يظهرها الله تعالى بقدرته المطلقة، خارقة للعادة، فتعجز المخلوقات جميعا عن الإتيان بمثلها، فإذا تعلق الأمر بالتشريع أو اختيار المنهاج الصحيح للبشر كان الإعجاز أظهر وأغلب، رغم الجدل البشري العقيم طوال التاريخ! وهذا إجمال يحتاج إلى بيان، وقد فصله القرآن الكريم تفصيلاً بديعاً واسعاً، نذكر بعضه فيما يلي:.
أولاً: الخلق والهداية الإلهية :
فقد خلق الله عز وجل كل شيء وقدره تقديراً، وهدى كل مخلوق إلى وظيفته النوعية، وإلى غايته العامة، وجعل لذلك سبلاً كثيرة، منها الفطرة التي فطر الأشياء والأحياء عليها، ومنها الوحي الإلهي، ومنها التعليم والتجارب، قال تعالى {سبح اسم ربك الأعلى. الذى خلق فسوى. والذي قدر فهدى} (الأعلى:1-3).
ولذلك كان الوحي الإلهي بالنسبة للإنسان ضرورة لازمة، ونعمة سابغة؛،لأنه يعلمه حكمة حياته، ومهمة وجوده، وغاية خلقه، ومنتهى مصيره، ويصونه عن عبثية الخلق، وبطلانه!
ثانياً: النبوة من البداية إلى النهاية
وقد جعل الله تعالى النبوة مفتاح الوحي الإلهي، وطريق البلاغ المبين لهذه النعمة الإلهية، منذ فجر التاريخ البشري، ثم في كل مراحله التالية، ثم في ختامه إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
وقد كانت النبوة الأولى مقترنة بخلق الإنسان، فاصطفى الله تعالى آدم عليه السلام لهذه النبوة، وعلمه الأسماء كلها، وبعثه بدينه وشريعته إلى أولاده وأحفاده، وجعل ذلك ناموس الحياة البشرية وقانونها الدائم.
ثم جاءت النبوة الوسيطة ابتداء من إبراهيم عليه السلام، لأن البشرية كانت قد تطورت إلى مرحلة الدولة والحكومات المنظمة في العراق، ومصر، والشام، وغيرها من أقطار الأرض، فبعث الله تعالى لهم الرسل.
ثم أتم الله الأمر لعباده بالنبوة الخاتمة على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، لتمتد دعوته ورسالته إلى العالمين جميعاً، وإلى يوم القيامة.
ثالثاً: معجزات الأنبياء :
النبوة: محض هبة من الله تعالى، لا تنال بالكسب الذاتي مهما اجتهد الإنسان، وهي حجة الله على الناس؛ ولذلك حماها الله عز وجل من الدجالين والكذابين، بأن جعل لكل نبي آية معجزة يظهرها على يديه، تصديقاً له في نبوته، وكأنه تعالى يقول حينئذ: «صدق عبدي فيما يبلّغه عني ».
والمعجزة لا تكون إلا من الله تعالى، ولا تكون قابلة للتكرار إلا بإذن الله تعالى وبأمره، قال تعالى {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط…} (الحديد- 25).
وهذا يؤهلها لمعنى السبق الفائق الذي لا يلحق ولا يسبق في بابه، مما يؤدي إلى العجز التام عن مواجهتها، فيكون العجز أبلغ دليل على إعجازها.
رابعاً: المعجزات الحسية والمعنوية:
أخبر الله تعالى في كتابه الكريم بالكثير من معجزات الأنبياء عليهم السلام بأعيانها وأوصافها، وهي نوعان:
1-المعجزات الحسية:
وهي الخوارق التي ترى بالأبصار، أو تلمس بالأيدي، أو تدرك بالحواس؛ لتكون بينة ظاهرة، لا يماري فيه إلا المبطلون المجادلون، وذلك مثل ناقة صالح ، وعصا موسى عليهما السلام.
2 – المعجزات المعنوية :
كالإخبار بالغيوب، وتعليم الشرائع الحكيمة التي لا يستطيعها البشر، وإقامة الحجج والبراهين القاطعة على صحة الحق، وإبطال الباطل، في مناقشة الأفكار، ومحاورة الناس… الخ.
وهذا لم يقع مجتمعاً في كتاب واحد – يتحدى الكفار، ويصدق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) – إلا في القرآن العظيم، فهو الآية الكبرى، والمعجزة العظمى التي تحمل للناس جوامع الآيات والمعجزات، قال تعالى {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين. أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم…} (العنكبوت: 50- 51)، ويقول سبحانه وتعالى {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً} (الرعد: 31) وجواب لو محذوف يدل عليه المقام، والمعنى: لكان هذا القرآن.
وقد كذّب الكفار الأولون والآخِرون بالمعجزات الحسية جهلاً وعناداً، وجاءت معجزة القرآن كافية شافية فكان لها من الآثار والأسرار، والإقناع والإبلاغ، ما لا نظير له في العالمين.
سر الإعجاز في القرآن العظيم
لقد أدرك المسلمون الأولون ذلك بسليقتهم العربية، وفطرتهم الإيمانية، فآمنوا بذلك إيماناً وثيقاً بلغ بهم ذروة اليقين، حتى خرجوا بسبب هذا الإيمان جهاداً في سبيل الله، وابتغاء مرضاة الله، وبذلوا أرواحهم وأموالهم ليكون هذا الحق باطنهم وظاهرهم، وواقع حياتهم، ثم أنفق العلماء من بعدهم أعمارهم وجهودهم، ليستخرجوا للناس الجواب عن أسرار الإعجاز الجليل في القرآن العظيم، فقالوا خيراً كثيراً، وهو بإيجاز:
الوجه الأول: الإعجاز البلاغي البياني: ويدخل فيه فصاحة الألفاظ، وجودة المعاني، وبراعة الأسلوب، وسائر ما يتصل بهذا الباب.
الوجه الثاني: الإعجاز الخبري الغيبي: ويدخل فيه كل إخبار بالغيب ورد في القرآن الكريم.
الوجه الثالث: الإعجاز التشريعي: ومن أوضح إشاراته قول الإمام الخطّابي (توفي 388 هـ) في كتابه «بيان إعجاز القرآن»: « إن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف؛ مضمّنا أصح المعاني من توحيد الله تعالى، وتنزيهه في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان لمنهاج عبادته في تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساويها، واضعاً كل شيء منها موضعه الذي لا يُرى شيء أولى منه، ولا يُرى في صورة العقل أمر أليق به منه…».
إعجاز الشريعة الإلهية في كل العصور
ويتضح مما سبق أن الإعجاز صفة ذاتية ثابتة لشريعة الله تعالى في كل العصور لأن الله تعالى هو الذي شرعها ابتداء، فهي كما قال تعالى: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} (النمل- 88).
ولأنه سبحانه وتعالى متصف بالعلم المحيط؛ لذلك يشرع على غاية الحكمة وحسن الاختيار، فهو لا يأمر فيها إلا بكل خير، ولا ينهى فيها إلا عن كل شر، ولا يحيط الشارعون من دون الله تعالى بهذه الأسرار، ومن ثم يتخبطون في الضلال.
والفارق بين النبوة الخاتمة وما قبلها يتضح فيما يلي :
أن الرسل السابقين بعثوا بمعجزات حسية، وقع بها التحدي لإثبات دين الله وشريعته، ولم يقع التحدي بالكتب السابقة، ولا بالشريعة الهادية مع أنها معجزة في ذاتها.
وفي النبوة الخاتمة جمع الله تعالى بين الدليل والمدلول عليه، وجعل الشريعة في ذات الكتاب الذي هو معجزة التحدي وإثبات الرسالة، فصار الإعجاز مركّباً، ترادفت فيه معجزة الشريعة بمصدرها وبذاتها، ومعجزة القرآن بمصدره الأعلى، وفي ذاته، ومعجزة الرسول الأمي الذي جاء به، ومعجزة الحفظ والصيانة والاستمرار في حاضر نزوله، وفي مستقبل زمانه إلى يوم الدين.
خامساً: أسباب الإعجاز التشريعي القرآني
لهذه الشريعة القرآنية أسباب بالغة، وأسرار جامعة متعددة، جعلتها ذروة في الإعجاز والامتياز منها:
أولاً: الأسباب الخارجية :
ويعنى بها الأسباب الخارجة عن ذوات النصوص التشريعية، وإن كان لها أبلغ التأثير في إعجازها.
وأولها: مصدر الشريعة وهو الله رب العالمين، المتصف بكل صفات الكمال والجلال، والمنزه عن كل نقص وقصور، الذي ليس كمثله شيء في ذاته، وصفاته وأفعاله، فمن بدهيات اليقين أن تكون شريعتة على أوفى ذروة من الكمال، والموازنة، والصدق، والحق، والعدل، كما قال تعالى {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً} (الأنعام- 115) أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام.
وثانيها: رسولها المبلغ الذي بعث بها ، وهو الرجل الأمى ، في أمة أمية ، لم يجلس إلى معلم ، ولبث في قومه طويلاً ولم يشتهر بخطابة ولا شعر ، فيكون بحاله ومقاله أبلغ دليل على هذا الإعجاز المبين.
ثانياً: الأسباب الذاتية الداخلية :
ونعني بها أسباب الإعجاز التي ترجع إلى ذات النصوص التشريعية، وتتصل بصميم ألفاظها ومعانيها، وإحاطتها وصياغتها، وتفردها بالسبق في كل موطن توضع فيه موضع المقارنة والموازنة، أو تقاس فيه بمقاييس الصلاحية، وجليل الآثار.
وهذا باب واسع جداً لم يعطه الباحثون حقه من التأصيل والتفصيل، ولا يتسع له مقال مهما طال، وحسبنا هنا أن نذكر بعض جوامعها التي هيأ الله تعالى بها هذه الشريعة للإعجاز والتفوق، خاصة في نسختها القرآنية الخاتمة، ومن ذلك:
الشمول التشريعي
والمراد بالشمول: العموم والاستيعاب والإحاطة، والمعنى: أن شريعة الله تعالى لعباده هي شريعة كلية، وليست قاصرة على جانب دون غيره من جوانب الحياة البشرية، بل تستوعب شؤون الحياة جميعاً، الظاهرة والباطنة، المادية والمعنوية، القولية والفعلية، بل تمتد إلى أغوار النفس البشرية؛ لتنظيم النيات والضمائر التي هي بواعث السلوك الإنساني العجيب.
وقد قام هذا الشمول التشريعي على أربع شعب رئيسية،
تستوعب الوجود الإنساني من كل أطرافه، وهي:
أولا: شعبة الإيمان
ثانياً: شعبة الأخلاق
ثالثاً: شعبة العبادات
رابعاً: شعبة المعاملات
فإذا استصحبنا هذه الأصول دائماً وهي: ربانية المصدر، وشمول الشريعة التي أنزلها بشُعبها الجامعة، وشهادته سبحانه وتعالى في ختامها بإكمالها، وإتمامها، ورضاه عنها، لكان ذلك تأكيداً جامعاً، وبرهاناً قاطعاً، وحجة بالغة على تفرد هذه الشريعة بكل ضروب السبق، والامتياز، والإعجاز.
أعجوبة الدهر
تمتلأ الأرض بالعجائب، ولكن أم العجائب والغرائب جميعاً هو ما عليه المسلمون الآن، من إهدار لهذه المعجزة الربانية الباهرة، واتخاذهم القرآن المعجز مهجوراً، واستجلابهم قوانين الشرق والغرب المظلمة، التي جلبت عليهم خزي الدنيا وضنك الحياة:
ومن العجائب والعجائب جمة
قرب الخلاص وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
والماء فوق ظهورها محمول
المصدر : مقال لــ الدكتور عبد الستار سعيد
أحد علماء الأزهر الشريف
بــ إحدي المجلات الإسلامية