ونشوف مدى مكانة هذا الامام الجليل فى خدمة الاسلام وحبه الشديد للاسلام و حرصه عليه
"يا هذه ، قد رد الله على ابنك بصره لكثرة دعائك " . اللهم اجعلها بشرى خير ، اللهم استجب دعائي ، ورد على ولدى الصغير بصره .
وسارت الأسم الصالحة إلى حجرة ولدها ، وهى تحرك قدميها بصعوبة بالغة ، وعندما وصلت إلى فراشه همت أن توقظه لكنها ترددت كثيرًا ، فقد كان قلبها المكلوم يرتجف بشدة ، فأخذت تمسح بيديها المرتعشتين على رأسه بحنان وعطف، وهى ما زالت تدعو الله أن يستجيب لها ويشفى ولدها ، فاستيقظ الصغير من نومه ، وأخذ ينظر في دهشة وهو يحرك
جفونه باضطراب ، ويقول بصوت متقطع :
الحمد لله .. الحمد لله .. لقد رد الله إلىَّ بصري !!!
أحست الأم من فرحتها أنها في حلم جميل ، لكنها ما لبثت أن عادت إلى وعيها بعد
الحمد لله .. الحمد لله القادرعلى كل شيء .
وذات صباح كانت الأم ترتب منزلها فوقعت يدها على بعض الأوراق المدونة عليها أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فتذكرت زوجها الحبيب "إسماعيل" وقالت في حزن وألم ، وهى تمسح دمعة حارة قد انحدرت على وجنتيها : يرحمك الله يا أبا "محمد" لقد كنت رجلاً تقيًّا ورعًا ، وكم كنت تتمنى أن يكون ولدك "محمد" من رجال العلم ، وإنني أعاهدك أن أبذل كل ما في وسعى لكي أحقق لك أمنيتك الغالية إن شاء الله ،ثم نادت على ولدها في حب ، فأقبل الصغيرمسرعًا في أدب فقالت له : لقد آن لك يا بنى أن تطلب العلم وتنفع نفسك وتنفع الناس من حولك ، وسوف أرسلك غدًا إلى الكتاب لكي تحفظ القرآن ، وتتعلم الحديث النبوي الشريف ، وتدرس اللغة العربية لتصبح عالمًا جليلاً كما كان أبوك "إسماعيل" – يرحمه الله .
فقالت الأم : نعم يا بنى ؛ فقال "محمد" في أدب : أعدك يا أمي أن أسير على نهجه وأسلك طريقه بجد واجتهاد بإذن الله .
كانت مدينة "بخارى" (تقع الآن في دولة أوزبكستان الإسلامية ) من أعظم مدن بلاد "ما وراء النهر" حينئذ ، وكانت الكتاتيب التي تعلم اللغة العربية والقرآن الكريم والتاريخ والفقه منتشرة بصورة واسعة في أرجاء المدينة ، فانطلق الصغير "محمد بن إسماعيل البخاري" ينهل العلم من تلك الموارد العذبة ، فظهر عليه نبوغ مبكر أذهل كل من حوله ، فقد كان يملك ذهنًا وقَّادًا ، وقلبًا واعيًا ، وذاكرة مدهشة، وقدرة فائقة على الحفظ ، حتى إنه أتم حفظ القرآن الكريم ، وأتقن اللغة العربية ، وألم بكثير من الفقه وحفظ الحديث النبوي ، ولم يكن قد جاوز العاشرة من عمره ، وكانت الأم الصالحة دائمًا ما تشجع ولدها ، وتهيئ له البيئة الصالحة لطلب العلم ، وبعد أن أتم "البخاري" دراسته في الكتاب رأت أمه الواعية أن ترسله إلى حلقات العلم المعروفة في "بخارى" "سمرقند" و"بيكند" و"مرو" و"نيسابور" ، وذاعت شهرته بين العلماء حتى صار يناقش أساتذته، بل ويصحح لهم في بعض الأحيان !!
فكان الإمام "البيكندى" يقول في فخر واعتزاز بتلميذه النجيب : هذا الذي ليس له مثيل !!
وكثيرًا ما كان الإمام "البيكندى" يحدث زملاءه عن تلميذه "البخاري" الذي يحفظ سبعين ألف حديث ، وليس ذلك فحسب بل إنه لا يحدث بحديث عن الصحابة أو التابعين إلا وكان يعرف متى وأين ولدوا ؟ وأين عاشوا ؟ ومتى كانت وفاتهم؟!!
ومرت السنون ، وأصبح "محمد بن إسماعيل" في السادسة عشرة من عمره فأحس أنه في حاجة ماسة إلى أن يطلب العلم في ربوع الدنيا ؛ حتى يشبع نهمه ويروى ظمأه ، فتوجه إلى "مكة المكرمة" في صحبة أمه وأخيه الكبير "أحمد" سنة
(210 ﻫ) للحج وطلب العلم ، وبعد انقضاء موسم الحج عادت الأم وولدها "أحمد" إلى "بخارى" ، وبقى "البخاري" بمكة يتنقل بين مناراتها العلمية شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا ، فلم تمرعليه سنتان في تلك البلدة الطاهرة حتى بدأ في تأليف كتاب "قضايا الصحابة والتابعين " الذي يعد أول مؤلفاته الخالدة .
وكان دائمًا ما يحلو للبخاري أن يذهب إلى "المدينة المنورة" ، وكان من ثمار هذا المكان وبركته أن ألف "البخاري" كتاب "التاريخ الكبير" الذي يعد أول كتاب جامع لأسماء رواة الحديث النبوي الشريف وأحوالهم.
وزار "البصرة" ونزل ببغداد ، وكانت حينئذ عاصمة للخلافة العباسية . وقد استفاد "البخاري" من تلك الرحلات العلمية أعظم استفادة ، وقرت عينه بمقابلة معظم رجالالحديث في زمانه فجلس إليهم واستمع منهم وحفظ عنهم العلم
فقد رأى نفسه وهو واقف أمام رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وهو يمسك في يده مروحة يدفع بها الأذى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فأصابته الحيرة وأخذته الدهشة فذهب إلى شيوخه ليسألهم عن تفسيرهذه الرؤية فقالوا له في فرحة: إنك إن شاء الله سوف تدفع الكذب والافتراء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم
– وهنا تذكر "البخاري" شيخه "إسحاق بن راهويه" عالم "خراسان" الكبير عندما قال لتلاميذه : "لو أنكم جمعتم كتاباً مختصراً في الصحيح من سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم" .
فوقع ذلك القول في قلب "البخاري" ، وتذكر ذلك الحلم الذي كان يلح عليه منذ بدأ يطلب الحديث النبوي الشريف ، فشمر من فوره عن ساعد الجد ، وخاض غمار رحلته الطويلة في تأليف ذلك الكتاب العظيم سنة (217 ﻫ) ، وكان عمره حينئذٍ ثلاثة وعشرين عامًا.
وقد أخذ "البخاري" شرطًا على نفسه ألا يكتب حديثًا عن راوٍ من رواة الحديث إلا بعد أن يلتقي به بنفسه ، ويسمع منه الحديث بأذنه ، وكان لا يأخذ حديثًا إلا ممن يتصفون بالأمانة والإتقان والدقة والورع وقوة الحفظ ، وبعد كل ذلك كان يغتسل ويصلى ركعتين لله- عز وجل – ثم يضع الحديث الذي تكتمل كل شروطه في كتابه .
(600.000) حديث من الصحيح وغير الصحيح ، وقد ترك "البخاري" كثيرًا من الأحاديث الصحيحة حتى لا يطول الكتاب ، واختار الإمام اسم "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسننه وأيامه" ليكون عنوانًا لأصح كتاب بعد كتاب الله – عز وجل المعروف (بصحيح البخارى
)
.
وتشاء رحمة الله بالإمام ألا يقبضه إليه قبل أن تطمئن نفسه ، وتعود الفرحة إلى قلبه ، فى أحد الأيام أرسل إليه أهل "سمرقند" يطلبونه ، فأجابهم الإمام إلى طلبهم ، واستعد للرحيل إليهم في سعادة بالغة ، فلما مشى إلى دابته قليلاً قال : "أعيدوني فقد ضعفت واشتد على المرض" فلما أعادوه إلى بيته دعا بدعوات ، ثم اضطجع على سريره ، وسال منه عرق غزير ، ثم صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها ، وكانت وفاته – رضى الله عنه – ليلة السبت ، أول شهر شوال سنة (256 ﻫ = 870 م) ، وكان عمره حينئذ اثنين وستين عامًا ، ودفن الإمام بقرية "خرتنك" ، وهى تعرف الآن بقرية "خواجة صاحب" ، فرضى الله عنه، وأسكنه فسيح جناته آمين .
نورتينى واتمنى تكونى استفدتى يا رب