السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام، حروفُ الجرِّ موضوعٌ في النحو العربي، هناك حرفان من حروف الجرِّ و هناك حرفان من حروف العطف، حرفا العطف هما ثمَّ و الفاء، و الواو لمطلق العطف، أما ثم للترتيب و التراخي و الفاء للترتيب مع التعقيب، إذا قلنا دخل فلان ثم فلان، بينها ساعات طويلة، أما دخل فلان ففلان، دخل وراءه مباشرة، فالفاء للترتيب مع التعقيب و ثم للتعقيب مع التراخي.
من خلال هذه المقدِّمة في معنى حرفي العطف الفاء وثم، نقرأ قوله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾
الإنسان إلى أن يستقيم على أمر الله لا بدَّ من أن يعرف الله كثيرا، ولا بدَّ من أن يعرف أمره، فلابدَّ من وقت ثمين تعرف الله فيه، فأيُّ إنسان يجلس في مجلس علم أو يحضر خطبةً تُلقَى عليه الأوامر و النواهي فلا يطبِّقها رأسًا، فلابد من أن يعرف الآمرَ و لا بدَّ من أن يعظِّم الآمرَ و لا بد من أن يعرف ما عنده من خير و ما ينتظره من عقاب إذا عصاه، لابد من أن تؤمن بوجوده و بكماله ووحدانيته و أن تؤمن بوعده ووعيده و جنَّته و ناره، ولا بدَّ أن عرف منهجه، أمره و نهيه، فحتَّى يستقيم الإنسان يستقيم يحتاج إلى حقائق كثيرة و إلى مجالس علم كثيرة، و يحتاج إلى معرفة كثيرة، قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾
كلمة قالوا ربنا الله ليس لها أيَّ معنى، لأن الله موجود، وإن قلت إنه موجود أو لم تقل إنه موجود، هو موجود، كلامك تحصيل حاصل، إن كان مطابقا للحقيقة فهو تحصيل حاصل و إن كان مخالفا للحقيقة فلا معنى له، و ما زدتَ على الحقيقة شيئا، فلو قلت الشمس ليست ساطعة وهي ساطعة، لاتُّهِم الإنسان في عقله، و إذ قلتَ ساطعة و أنت في أمسِّ الحاجة إلى أشعتها و لم تعِرّض جسمك إلى أشعتها فكلمة ساطعة لا معنى لها، فالإنسان يوفِّر وقته، يقول: أنا مؤمن، و ماذا فعلتَ ؟ و ماذا أعطيتَ ؟ و هل منعت و هل أعطيت هل سالمتَ و هل قطعتَ و هل وصلتَ و هل غضبتَ ؟ أنا أريد الموقفَ العملي، الحركة اليومية التي تُبنَى على معرفة الله عز وجل، قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾
فعلامة صحة قولهم استقامتهم و علامة صدقهم في اعتقادهم استقامتُهم، و علامة إخلاصهم فيما يعتقد من استقامتم و علامة علمهم العميق استقامتهم، وعلامة وعيهم استقامتهم، قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾
والإنسان أحيانا يتوهَّم إذا استقام لا يجد شيئا وهذا من الشيطان، أنه إذا استقمت فقد حرمتَ نفسك المناظر المبهجة من النساء الغاديات الرائحات وحرمت نفسك السهرات، والاختِلاط والنُّزهات، فهذه المباهج التي يتوهَّمُها الإنسان في المعاصي يظنُّ أنَّهُ يُحْرمُ منها، قال تعالى
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾
من لوازِم إيمانهم بِرَبِّهم استِقامتهم، ومن لوازم اسْتِقامتهم تنزُّل الملائكة عليهم أن لا تخافوا ولا تحْزنوا.
أيها الإخوة الكرام، صدِّقوني ما مِن نعمةٍ أثْمَن في الأرض مِن نعْمة الأمْن وأن تكون مُطمئنًّا، وأن تكون واثقا من الله عز وجل، وأن يكون المستقبل لِصالِحِك، فهناك مَن ينْجح نجاحًا كبيرًا إلا أنَّ الزَّمَن ليس في صالِحِه، ماذا يعني الزَّمَن ؟ مُضِيّ الأيَّام والأسابيع، والأشْهر، والسَّنوات كان صحيحًا فأصْبح مريضًا، سكَّر وضَغط، فماذا يخبئ الزَّمن للناس ؟ أشياء لا نعلمها، يخبئ تراجع في الصِّحة، وتقاعُدِيَّة انتقال من بؤْرة النَّشا إلى هامش الحياة، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ * ))
لو أنَّ الدنيا غاية علمنا ومَبلغُ علمنا، ومحطّ رحالنا، ومنتهى آمالنا، فماذا ننتظر منها ؟ كلامٌ واقعي، كساد فضيع وبِضاعة مكدَّسة، والشِّراء قليل، والدخْل قليل، والمصروف كثير، فهل ننتظر إلا فقْرًا مُنْسِيًا أو غِنًى مُطْغيًا، فهذا دَخَل له دخل كبير فاشْتهى المعاصي والآثام فالفقْر المنْسي مُصيبة والغِنى المُطغي مُصيبة، أو مرضًا مُفْسِدًا يُفسِدُ عليه حياته، أو هرمًا مُفنِّدًا تضْعفُ فيه ذاكرته فَيُعيد الكلام مائة مرَّة، أو موتًا أو الدَّجال، فشَرُّ غائبٍ يُنتظر، أو الساعة والساعة أدْهى وأمَرّ، فَمِن لوازم إيمانك بالله تعالى اسْتِقامتك على أمره، ومن لوازم اسْتِقامتك تنزلّ الملائكة عليك أن لا تخاف ولا تحْزن، فقوله تخاف وتحزن تُغطِّي الماضي والمستقبل، فلا تخفْ مِمَّا سيَكون، ولا تحزن على ما كان، فهناك من يحْترق قلبهُ على الماضي ويقول لك: ذَهَب شبابي ! وضَعفَتْ قوَّتي، وكنتُ وكنتُ !! أما المؤمن فالماضي مُغْلَق، ومُغطَّى بِعَدم الحُزن، والمستقبل مُغطَّى بِعَدم الخوف، وقد كانت لي قريبة برَكتْ، وهي في حالٍ من الغِنى غير معقول، أوَّل أسبوعَين خُدِمَت خِدمة تفوق حدَّ الخيال، وكلَّما يمضي أسبوع كانت تنزل مستوى الخدمة، وبعد أيَّام أصبح أقربُ الناس يتمنَّى موتها ! بقيَتْ سنتين أو ثلاثة ! وهناك آية تُطَمئِن، وهي قوله تعالى:
﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(51)﴾
لنا للتَّمَلُّك، تقول: هذه الجوهرة لِمَن ؟ تقول له: لي، أما المخالفة تقول: هذه المخالفة على مَن ؟ فالعِقاب دائِمًا على، أنا الثَّواب فهي تَمَلُّك ؛ لي، قال تعالى:
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
فلذلك كما قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾
ربّنا عز وجل يُكَمنُهم، ويُلْقي في روعِهم، ويُطَمْئِنُهم على لِسان الدُّعاة إلى الله، وعلى لِسان الملائكة، وعلى لسان الأنبياء، والرؤى الصالحة، قال تعالى:
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)﴾
نظام الحياة الدنيا مَبني على الكَدح، وبَذْل الجهْد واتِّخاذ الأسباب، أما نِظام الآخرة فَمَبني على الطَّلَب، فَمِن أجْل أن تُحَقِّق شيء تَبذل جهْدًا غير معقول، فَمِن أجل أن تتناوَل طعام الغذاء تذْهب إلى السوق، وتشتري الخضار، وتحملها، والزَّوجة تغسل، وتجهِّز الأكل فَمِن الساعة تسعة إلى الساعة الثانية مساءً حتَّى تكل صَحن خِلال عشر دقائق، ولكي تُؤسسٍّ عمل تِجاري تحتاج لِسَنوات طويلة، فالحياة مَبْنِيَّة على الكَدْح، ولكن تتزوَّج، ولكن تشتري بيتًا، أما الآخرة فلهم فيها ما يشاءون فأيُّ خاطِرٍ يأتي إلى ذهنك يُحقَّق لهم فوْرًا، قال تعالى:
﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)﴾
هذه الآية كان النبي عليه الصلاة والسلام يُكثرُ قراءَتها، قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾
قال تعالى:
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81)﴾
فالإنسان من طبيعته لا يستطيع تنْفيذ شيءٍ إلا بعد أن يعرف المُتكلِّم، فالذين قالوا ربُّنا الله وتعرَّفوا إليه موجودًا وواحِدًا، وكامِلاً، ولى منْهَجِهِ وأحقِّيَّة منهجه، وإلى القدوة والأُسْوَة، عندها تسْتقيم، عندئِذٍ قال تعالى:
﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾
والحمد لله رب العالمين
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا الى النار مسيرنا واجعل الجنة هيا دارنا وقرارنا يا رب العالمين
ولكى احلى تقيم