وإفراد الله تعالى في العبادة
وأهمية ذلك (1)
لا جرم أن توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة هو لب الإسلام وأصله الأصيل ومرتكزه الركين، وبغير تحقيق التوحيد في العبادة لا يكون الإنسان مسلما، ولا يكون عمله مقبولا، إذ أن قبول العمل منوط بالإخلاص لله عز وجل والمتابعة للنبي – صلى الله عليه وسلم -، وتوحيد الألوهية وهو توحيد العبادة هو الذي عليه مدار الجزاء والحساب، وبه نزلت الكتب السماوية ومن أجله بعثت الرسل، وعليه جردت سيوف الجهاد.
وفيما يلي بعض النصوص الرعية المبينة لقيمة وأهمية توحيد العبادة في حياة الإنسان وأثره المصيري:
• في أن التوحيد مضمون رسالات الله كلها قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، وقال: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، وقال: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾ [النحل: 2].
وقال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]، ومن السنة حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد"[1].
فلقد اتفقت رسالات الله تعالى كلها على هذا المبدأ العظيم مبدأ التوحيد، مع اختلافها في الشرائع كما قال تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48] ويدل على أن دينهم كلهم واحد وهو الإسلام، الدي لا يقبل الله دينا غيره، قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقوله: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85] فجميع الملل والنحل غير دين الإسلام باطلة، ومن مات على غير دين الإسلام فهو من أصحاب النار قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 91].
• وعبادة الله وحده أعظم ما يجب على الخلق تجاه الخالق جل وعلا، وفيه يقول تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [الإسراء: 23]، وقال﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [النساء: 36] وقال: ﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 66] ويردد المسلم في اليوم أكثر من سبع عثرة مرة قوله" ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5].
فأعظم الحقوق على الإطلاق حق الله تعالى في أن يعبد فلا يشرك معه غيره، وفي حديث معاذ – رضي الله عنه – قال: كنت رديف النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: "يا معاذ" قلت: لبيك وسعديك، ثم قال مثله ثلاثا: "هل تدري ما حق الله على العباد"؟ قلت: لا. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا"، ثم سار ساعة فقال: "يا معاذ" قلت: لبيك وسعديك، قال "هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟: أن لا يعذبهم "[2].
• وتوحيد العبادة كما أنه أساس الدين، فإن نقيضه وهو الشرك يحبط العمل ويورث الوزر كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 65، 66].
ومن مات على الشرك فإنه خالد في النار غير مغفور له، قال الله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 116] وعليه فإن أعظم ذنب عصي الله له وأكبر الكبائر هو الشرك بالله، ولما قال عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال – صلى الله عليه وسلم -: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك"[3].
• وفي أن الجهاد إنما شرع لمقاصد جليلة من أعظمها تعبيد العباد لخالقهم وبارئهم، وإخراجهم من عبادة غير الله كائنا من كان، فإذا دفعوا الجزية مقابل حمايتهم أقروا على ملتهم، وان أبوا قوتلوا حتى يشهدوا شهادة الحق، على تفصيل ذكره الفقهاء في المشرك والكتابي وغيرهما، وفي هذا حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله "[4].
• وفي أن الجزاء الأخروي ومصير المكلف مرتهن بمدى تحقيقه للتوحيد يقول الله جل ذكره: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
ومن السنة حديث أبي ذر- رضي الله عنه – قال: عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: قال لي جبريل – صلى الله عليه وسلم -: "من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنه، أو لم يدخل النار" قال: "وإن زنى وإن سرق؟" قال:"وإن ""[5].
وفي حديث عتبان بن مالك الأنصاري – رضي الله عنه – قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -:"لا يوافي عبد يوم القيامة يقول لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله إلا حرم الله عليه النار"[6].
فتوحيد الله تعالى سبيل الفوز برضوانه وجناته، والنجاة من سخطه ونيرانه، وتوحيد العبادة وهو توحيد الألوهية أصل الدين ومرتكزه الأول الذي عليه وبه تقوم مبانيه العظام من عبادات ومعاملات وأخلاق.
إن الولد جوهرة نفيسة عند والديه، فهو نواة الأسرة والمجتمع، وأمل الغد والمستقبل، وموئل الإسلام بعد الله تعالى، فتربيته على عقيدة التوحيد أساس تربوي وطيد، بل لا تصح التربية ولا تستقيم بغير عقيدة التوحيد الذي هو أساس الإسلام وأصله الأصيل.
[1] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الأنبياء (3442)، ومسلم في كتاب الفضائل (2365).
[2] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الاستئذان (6267) واللفظ له، ومسلم في كتاب الإيمان (30).
[3] متفق عليه رواه البخاري في كتاب الحدود (6811)، ومسلم في كتاب الإيمان (86)
[4] متفق عليه رواه البخاري في كتاب الإيمان (25)، ومسلم في كتاب الإيمان (22).
[5] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب بدء الخلق (3222)، ومسلم في كتاب الإيمان (94).
[6] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الرقاث (6422)، ومسلم في كتاب الإيمان (33).
يتبع
تنشئة الأولاد على عقيدة التوحيد
وإفراد الله تعالى في العبادة
وأهمية ذلك (2)
بعد التقديم المهم الذي تحدثنا عنه خلال المقالة السابقة عن أهمية عقيدة التوحيد وأثرها في تقرير المصير.
أورد فيما يلي معالم "تربية الأولاد على عقيدة التوحيد" مع ضرب الأمثلة من الكتاب والسنة على ذلك فأقول وبالله تعالى التوفيق ومنه التسديد:
أ- تصحيح النية فالنية الصالحة بداية كل خير وسبب كل رشد بعد توفيق الباري، وطلب الذرية الصالحة التي توحد الله تعالى مطلب أسنى يتوخاه المسلمون بالإكثار من الدعاء والابتهال إلى الله تعالى كما في دعوة عباد الرحمن: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74]، وبالسعي إلى تحصيل هذه الغاية، كما يلاحظه المتأمل في حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، لما آداه الكفار وأرسل الله إليه ملك الحبال فقال: "إن شئت أطبق عليهم الأخشبين" قال – صلى الله عليه وسلم -: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا"[1].
فطلب الذرية الصالحة التي تعبد الله وحده أمنية عزيزة يسعى إليها المسلمون لا يعدلون بها شيئا، وأي شيء أعز وأنفس من عبد لله يوحده ويمجده ويدعو الناس إلى توحيده وتجنب الشرك به سبحانه وتعالى.
ب- الاجتهاد في الدعاء بأن يهدي الله الولد إلى صراطه المستقيم وهديه القويم، فيوحد الله ولا يشرك له شيئا، وهذا منهج النبيين فهذا إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم قال الله تعالى عنه: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35].
ودعاء الوالدين من جملة الأسباب التي يؤمر بها المسلم لطلب صلاح الأولاد.
ج- تلقين الولد مبادئ التوحيد إذا بلغ سن التمييز، بتدريبه على نطق الشهادتين، وإفهامه معناهما بحسب مداركه العقلية وقدراته الفكرية، ويبصر بالأصول الثلاثة وهي معرفة العبد ربه ودينه ونبيه – صلى الله عليه وسلم – في الوقت المناسب وبالأسلوب المناسب الملائم إلى عقله ونفسه، وتكرار ذلك بغير إملال، كي ينطبع ذلك في فؤاده وينغرس في قلبه الغض فيشب سليم الفطرة قويم العقيدة. وتأمل كيف طفق النبي – صلى الله عليه وسلم – يعلم ربيبه عمر بن أبي سلمة – صلى الله عليه وسلم – لما كان صبيا تطيش يده في الصحفة، لقد قال له: "يا غلام سم الذ وكل بيمينك وكل مما يليك"[2] فهو يعلمه اسم الله قائلا: "يا غلام سم الله" واسم الله تبارك وتعالى أجل ما يتعلمه الولد منذ الصبا، وإذا تعلمه تعلم معه لوازمه وهو معرفة الدين والنبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا أمر بدهي.
د- العمل التربوي الدائب في تعليم الولد وتلقينه وتبصيره بتوحيد الله تعالى، بمختلف الوسائل والأساليب المشروعة.
وفيما يلي أربعة نماذج في هذا الباب وهي غيض من فيض مما تزخر به قصص القرآن العظيم والسنة النبوية الشريفة:
• في قصة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل- عليه وعلى نبينا صلوات الله وتسليماته – الذي أقام قواعد البيت بأمر الله عز وجل على أساس التوحيد، إذ قال في شأنه الباري تقدست أسماؤه: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26].
وحرص إبراهيم عليه السلام كل الحرص على تربية أبنائه على هذا المبدأ العظيم مبدأ التوحيد يتجلى ذلك في دعواته: ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35]، وفي موضع آخر: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ﴾ [البقرة: 128] والإسلام أساسه التوحيد وبغير التوحيد لا يكون الإنسان مسلما.
وامتد هدا الأسلوب التربوي وتلك الوصية الميمونة في عقبه ونسله، في ابنيه إسماعيل وإسحاق، ومن بعدهما أولادهما… فكل واحد منهم كان موحدا يعبد الله ويربي على ذلك ولده ويحذرهم من الشرك بالله ومغبته، ولنتأمل سيرة يعقوب ابن إسحاق عليهما السلام وهو في سياق الموت، لقد جمع أولاده الاثني عشر وراح يوصيهم وهو على فراش الموت بهذه الوصية الخالدة الجليلة، قال الله تعالى: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133]. وسرت هذه التربية المباركة بعد ذلك في جيل أبناء الأحفاد، فهذا يوسف ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وهو "الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم" كما في حديث ابن عمر مرفوعا [3] يدعو قومه إلى توحيد العبادة لله تعالى، حتى وهو في السجن، لقد قال: ﴿ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 37 – 40].
وهكذا فإن تربية الأولاد على الإيمان بالله تعالى وعلى إفراده جل وعز في العبادة دأب المرسلين، وإلى ذلك دعوا أممهم وأقوامهم وعليه ربوا أولادهم وأهليهم ومن أجل نشره بين الناس جاهدوا وصبروا وصابروا حتى الرمق الأخير، ونهج الأنبياء هو النهج القويم والصراط المستقيم.
• وفي قصة لقمان ووصيته لابنه يقول الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 13 – 16].
فلقمان عليه السلام في الوصية الجليلة يحذر ابنه من الشرك ويصفه بأنه ظلم عظيم فهو أعظم ذنب عصي الله به وهو أكبر الكبائر ومن مات عليه خلد في النار والعياذ بالله، ثم طفق يذكره بحقوق الوالدين وأن حقهما بعد حق الله وطاعتهما من طاعة الله إلا إن أمرا بالشرك بالله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وراح يبين له عظمة الخالق في خلقه وملكه وقدرته وعلمه، فلا يعزب عنه مثقال ذرة ولا تخفى عليه خافية، كل هذه المضامين الإيمانية الجليلة وصى بها لقمان ابنه وغرسها في عقله وقلبه، وهي أجل وأعظم ما يزجيه والد لولده ويربيه عليه ويوصيه به ويتعاهده عليه.
• ومن النماذج المحببة إلى الأطفال أسلوب القصة، إذ تشد فيهم الرغبة إلى معرفة النتيجة أو ما يسمى بعقدة القصة، والقرآن العظيم حافل بالقصص التي تتضمن معاني ومستلزمات التوحيد، بل قصص القرآن كلها ترتكز على ركيزة الإيمان بالله ووحدانيته جل وعلا، وأيضا القصص القرآن إلى عقل الطفل وقلبه ومشاعره وأحاسيسه وميوله كالقصص التي تتضمن عنصرا من الحيوانات أو الطيور، ولنختر منها قصة الهدهد الذي رأى الشرك بالله وشاهد أهل سبأ يسجدون للشمس ويعبدونها من دون الله فغضب وهو طائر من الطيور التي كانت في مملكة سليمان وجاء إلى سيده نبي الله سليمان عليه السلام يقص عليه ما شاهد وعاين فكانت بداية للدعوة الإسلامية التي وجهها سليمان إلى قوم بلقيس وانتهت إلى إيمان ملكتهم ودخولها في دين الإسلام وتركها الشرك وأسبابه.
قال تعالى: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [النمل: 20 – 26].
• ومن السنة النبوية الشريفة، ما دأب عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – كغيره من الأنبياء الذين سبقوه، من الدعوة إلى عبادة الله وحده وترك كافة صور وأشكال الشرك وأسبابه، وكان صلوات الله عليه يدعو إلى التوحيد قومه رجالهم ونساءهم وصغارهم وكبارهم، كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2] فتلاوة الآيات أي قراءتها والعمل بها، وتزكية النفس بصنوف العبادات والقربات، وأيضا علم الكتاب والحكمة، كما أنها أسس التربية الإسلامية ومنابعها، فهي إنما تؤسس على أصل التوحيد، وتقوم شجرتها على جذور التوحيد، كي تينع وتورق وتثمر ثمراتها المباركة.
ومن الأمثلة على تربية الأولاد على مبدأ التوحيد حديث معاذ – رضي الله عنه – قال: كنت رديف النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: "يا معاذ" قلت: لبيك وسعديك، ثم قال مثله ثلاثا: "هل تدري ما حق الله على العباد"؟ قلت" لا. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا". ثم سار ساعة فقال: "يا معاذ" قلت: لبيك وسعديك، قال: "هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟: أن لا يعذبهم "[4].
ومثل آخر يتبين من خلاله كيف كان صلوات الله عليه يغرس التوحيد ولوازمه في عقول وقلوب الناشئة، ويربيهم عليه، ويتعاهدهم به.
فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: "كنت رديف النبي – صلى الله عليه وسلم – يوما فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"[5].
وعلى هذا المنوال فالتوحيد يقوي اليقين بالله ويجعل القلوب تتعلق بخالقها وبارئها وحده، ترجو رحمته وتخشى عذابه، وتهون الدنيا كلها في ذات الله، فلا يملك أحد ضرا ولا نفعا إلا بإذن الله وعلى ما جرت به مشيئته وأقداره.
هذا ومن لوازم توحيد الألوهية وهو (توحيد العبادة) مما ينبغي للآباء والمربين غرسه في قلوب الناشئة:
•تجنب كل ما ينافيه من الأعمال الشركية كالحلف بغير الله، والاستعانة والاستغاثة بغير الله، والذبح والنذر والتوكل وطلب المدد واعتقاد أن غير الله يتصرف في الكون كائنا من كان ملكا أو نبيا أو وليا، وكل ما هو من خصائص الألوهية مما يدخل في مسمى العبادة لا يصرف إلا لله وحده لا شريك له، لا إله غيره ولا رب سواه، ولا معبود بحق إلا هو، بيده ملكوت كل شيء وهو الواحد القهار.
• التلازم بين الربوبية والألوهية، فاعتقاد أن توحيد الله تعالى هو الإيمان بأنه الخالق الرازق المحيي المميت، والاقتصار على ذلك اعتقاد غير صائب لأنه إيمان بالربوبية فقط، ولا ينتفع بالإيمان بها الإنسان إن لم يكن معها إيمان بالألوهية لأن المشركين يقرون بالربوبية ولم يدخلهم ذلك في مسمى الإيمان كما قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [لقمان: 25].
ولقد شذ بعض المنتسبين إلى الدعوة وفهموا هذا الفهم السقيم فالتوحيد عندهم اعتقاد أن الله هو الخالق الرازق المبدئ المعيد، دون الاعتقاد أن العبادة لا تصرف إلا له عز وجل، وهو مفهوم خاطئ كما ترى، ولا ينتفع به صاحبه ما لم يأت بتوحيد الألوهية.
• تأسيس كل مجريات الحياة على هذا الأساس الإيماني الوطيد من عبادات ومعاملات وأخلاق، فمن لوازم التوحيد إقامة كافة أنساق الحياة وفق أركان الإيمان وأركان الإسلام والإحسان، فالإيمان اعتقاد وعمل، والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والمسلم لا يكفر بارتكاب الكبائر بل يفسق إن لم يتب منها. وجدير بالتنويه والإشادة هنا ما يحظى به الناشئة في المملكة العربية السعودية من اهتمام بالغ بأمور العقيدة منذ المرحلة الابتدائية، إذ يلقن الأصول الثلاثة التي لا يسع المسلم جهلها، ويكرر ذلك على مسامعه ومداركه العقلية في السنوات التالية بصورة أو في تتناسب مع قدراته الاستيعابية، فينشا – بإذن الله – سليم العقيدة بعيدا عن الخرافات والبدع التي تعاني منها المجتمعات التي لا تهتم بالعقيدة هذا الاهتمام البالغ الضروري، وأثمر ذلك بفضل الله منذ أن صدع بالدعوة إلى تصحيح المفاهيم العقدية الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وآزره الإمام محمد بن سعود – رحمهما الله رحمة واسعة -، وانتهج ملوك آل سعود – وفقهم الله وأعزهم بالإسلام – نهج العقيدة السلفية الصافية، فليس في المملكة بحمد الله مظاهر شركية لا قبور يطاف حولها، ولا مزارات ومشاهد تشد إليها الرحال، ولا معابد تعبد من دون الله عز وجل، وتلكم نعمة لا يعرفها إلا العالمون، ولا ينكرها إلا الجاهلون والجاحدون.
والاهتمام بأمور العقيدة في المجالات التربوية وفي كل شؤون الحياة على المستوى الشعبي والرسمي ميزة انفردت بها في هذه الحقبة من تاريخ المسلمين بلاد الحرمين الشريفين، وهو أمر ينبغي أن يذكر فيشكر وأن يعرف الفصل لأهله فلا ينكر.
وهذه منة من الله بها على المسلمين قاطبة إذ أقام لهم في بلاد الحرمين الحجة البالغة لمن أراد الرشاد وطلب السداد في معرفة صحيح الاعتقاد.
وإن تعليم وتذكير الأولاد بهذه النعمة الجليلة وتلك الخصلة الفريدة كما أنه أداء لواجب الشكر عملا بقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله"- رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – [6] هو أيضا حماية لفلذات الأكباد من الفتن التي تتماوج هنا وهناك، بينما يرفل أبناؤنا وبناتنا في واحة الأمن الفكري والأمن العقدي وكل ثمرات العقيدة كالأمن الغذائي والأمن العام وهو واقع نعيشه ونشهده لا ينكره إلا جاهل أو جاحد.
نسأل الله أن يكتب هذه النعمة التي يعيشها جيلنا والتي عاشتها الأجيال من قبلنا وسيعيشها من بعدنا إن شاء الله في موازين حسنات ولاة أمرنا، وأن يثبتنا على ذلك حتى الممات إنه سميع مجيب.
________________________________
[1] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب بدء الخلق (3231)، ومسلم في كتاب الجهاد (1795).
[2] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الأطعمة (5376)؟ ومسلم في كتاب الأشربة (2022).
[3] رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء حديث (3390)، وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة، حديث (5454).
[4] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الاستئذان (6261) واللفظ له، ومسلم في كتاب الإيمان (30).
[5] رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة حديث (2516)، وأحمد في مسند بني هاشم حديث رقم (2537).
[6] رواه الترمذي في كتاب البر والصلة حديث رقم (1954) وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود في كتاب الأدب حديث رقم (4811)، وأحمد في مسند المكثرين حديث رقم (7191) واللفظ للترمذي وأحمد.
منقوووووووول