حكم الدعاء للكافرين
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الأول: الدُّعاء للكافرين في حياتهم.
المبحث الثاني: الدعاء للكافرين بعد موتِهم.
المبحث الأول
الدعاء للكافرين الأحياء:
من مقتضيات ملةِ إبراهيم -عليه السلام- بُغْضُ الكفَّار ومعاداتُهم، وبُغض ما هم عليه من الكفرِ، وهذا هو الأصلُ في معاملة الكافرين، لكن أحيانًا يُتلطَّفُ مع بعضهم بالقول أو بالفعل؛ رجاءَ هدايتهم ودخولهم في الإسلام، كما جاءت السنَّةُ بذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "وأيضًا فقد يدعو – يقصد النبيَّ صلى الله عليه وسلم – لبعض الكفَّار بأن يهديَه اللهُ، أو يرزقَه، فيهديَه أو يرزقه؛ كما دعا لأم أبي هريرة حتى هداها اللهُ، وكما دعا لدَوْسٍ فقال: ((اللهم اهدِ دوسًا وأْتِ بهم)) فهداهم الله.
وكما روى أبو داود أنه استسقى لبعض المشركين لَمَّا طلبوا منه أن يستسقيَ لهم، فاستسقى لهم، وكان ذلك إحسانًا منه إليهم يتألَّف به قلوبهم، كما كان يتألَّفُهم بغير ذلك"؛ قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (25)، تحقيق الشيخ عبدالقادر الأرناؤوط.
ثبت في الصحيحين أن أبا هريرة – رضي الله عنه – قال: قدِم طفيلُ بن عمرو الدَّوسيُّ وأصحابه، على النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: يا رسول الله، إن دوسًا عصَتْ وأبت، فادعُ اللهَ عليها، فقيل: هلكت دوسٌ، قال: ((اللهم اهدِ دوسًا وأتِ بهم))؛ رواه البخاري في الجهاد والسير، باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، ومسلم في: فضائل الصحابة، باب من فضائل غِفار وأسلمَ وجهينةَ وأشجع ومُزينة وتميم ودوسٍ وطيِّئ.
وفي صحيح مسلم أن أبا هريرة – رضي الله عنه – طلب من النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يدعوَ لأمِّه بالهداية للإسلام، فدعا لها وقال: ((اللهم اهدِ أمَّ أبي هريرة))، فاستجاب اللهُ دعوتَه؛ رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي هريرة الدَّوسي – رضي الله عنه.
وروى البخاري في صحيحه أن مسروقًا قال: أتيت ابن مسعود، فقال: إن قريشًا أبطؤوا عن الإسلام، فدعا عليهم النبي – صلى الله عليه وسلم – فأخذتهم سنَةٌ حتى هلكوا فيها، وأكلوا الميتةَ والعظام، فجاءه أبو سفيان، فقال: يا محمدُ، جئتَ تأمر بصلة الرَّحِم، وإن قومَك هلكوا، فادع اللهَ، فقرأ: ﴿ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ﴾ [الدخان: 10]، ثم عادوا إلى كفرهم؛ فذلك قوله – تعالى -: ﴿ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ﴾ [الدخان: 16] يوم بدرٍ، قال أبو عبدالله: وزاد أسباطٌ، عن منصور: فدعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فسُقوا الغيثَ، فأطبقت عليهم سبعًا، وشكا الناسُ كثرةَ المطر، قال: ((اللهم حوالَيْنا ولا علينا))، فانحدرت السحابة عن رأسه، فسُقُوا الناسُ حولَهم"؛ كتاب الاستسقاء، باب إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط.
ومن فقه الإمام البخاري – رحمه الله – أنه بوَّب في صحيحه بقوله: "باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألَّفهم"، قال ابن حجر – رحمه الله -: "وقوله: "ليتألفهم" من تفقُّه المصنف، إشارةً منه إلى الفرق بين المقامين، وأنه – صلى الله عليه وسلم – كان تارة يدعو عليهم، وتارة يدعو لهم؛ فالحالة الأُولى حيث تشتد شوكتُهم ويكثُر أذاهم … والحالة الثانية حيث تُؤمَن غائلتُهم، ويُرجى تألُّفُهم"؛ فتح الباري 6/ 126.
وقال: "وحكى ابن بطال أن الدعاءَ للمشركين ناسخٌ للدعاء على المشركين، ودليله قوله – تعالى -: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ﴾ [آل عمران: 128]، قال: والأكثر على أن لا نسخَ، وأن الدعاءَ على المشركين جائزٌ، وإنما النهيُ عن ذلك في حق من يُرجى تألُّفُهم ودخولُهم في الإسلام، ويحتمل في التوفيق بينهما: أن الجوازَ حيث يكون في الدعاء ما يقتضي زجرَهم عن تماديهم على الكفر، والمنعَ حيث يقع الدعاءُ عليهم بالهلاك على كفرهم"؛ 11/ 199.
الدعاء للكافرين الأموات:
الدعاء للكافرين الأموات بالمغفرة والرحمة لا يجوزُ باتفاق العلماء، وقد نقل ذلك شيخُ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – فقال: "فإن الاستغفارَ للكفار لا يجوز، بالكتاب والسنَّة والإجماع"، وذكر أن الإمام أحمد – رحمه الله – دعا للخليفة وغيرِه ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحلَّلهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفرٌ، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجُز الاستغفارُ لهم"؛ مجموع الفتاوى 6/ 642.
فمما ورد في القرآن من النهي عن ذلك قولُه – تعالى -: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ﴾ [التوبة: 113، 114]، وقوله – سبحانه -: ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [التوبة: 84]، فهذه الآية نصَّتْ على بيان العلة التي توجب عدمَ جواز الاستغفار للكفار، وهي ما قام بهم من الكفر بالله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "فلما نهى اللهُ نبيَّه – صلى الله عليه وسلم – عن الصلاة عليهم والقيامِ على قبورهم – لأجل كفرهم – دلَّ ذلك بطريق التعليل والمفهوم على أن المؤمنَ يصلَّى عليه، ويقامُ على قبره"؛ اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 771.
وقال في موضع آخر: "وقد كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يأتي قبورَ أهل البقيع والشهداء للدعاء لهم والاستغفار، فهذا المعنى يختص بالمسلمين دون الكافرين"؛ اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 670.
ومما ورد في السنَّة من النهي عن ذلك ما جاء في الصحيح عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: "لَمَّا حضرت أبا طالب الوفاةُ، جاءه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فوجد عنده أبا جهل، وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرةِ، فقال: ((أيْ عمِّ، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله)) فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبدالمطلب؟ فلم يزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعرِضُها عليه، ويعيدانِه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخِرَ ما كلمهم: على ملة عبدالمطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك))، فأنزل الله: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 113]، وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56]"؛ رواه البخاري في التفسير، باب: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56].
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((استأذنتُ ربي أن أستغفرَ لأمِّي، فلم يأذنْ لي، واستأذنته أن أزورَ قبرها، فأذِن لي))؛ رواه مسلم في الجنائز، باب استئذان النبي – صلى الله عليه وسلم – ربَّه – عز وجل – في زيارة قبر أمِّه.
وأختم هذه المسألة بما أورده شيخ الإسلام – رحمه الله – في كتابه المسمَّى: "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة": "وأما الشفاعة والدعاء، فانتفاعُ العباد به موقوفٌ على شروط، وله موانع، فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر – لا تنفعُهم، ولو كان الشفيعُ أعظمَ الشفعاء جاهًا، فلا شفيع أعظمُ من محمد – صلى الله عليه وسلم – ثم الخليل إبراهيم، وقد دعا الخليل إبراهيمُ لأبيه واستغفر له كما قال – تعالى – عنه: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41]، وقد كان – صلى الله عليه وسلم – أراد أن يستغفرَ لأبي طالب اقتداءً بإبراهيم، وأراد بعض المسلمين أن يستغفرَ لبعض أقاربه، فأنزل الله – تعالى -: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113]، ثم ذكر اللهُ عُذْرَ إبراهيم فقال: ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ﴾ [التوبة: 114، 115].
وثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((يلقى إبراهيمُ أباه آزرَ يوم القيامة، وعلى وجه آزرَ قَتَرةٌ وغَبَرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقلْ لك: لا تعصِني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا ربِّ، أنت وعدتَني ألا تُخزني يوم يبعثون، وأيُّ خزي أخزى من أبِي الأبعدِ؟ فيقول الله – عز وجل -: إني حرَّمتُ الجنةَ على الكافرين، ثم يقال: انظر ما تحت رجليك فينظر، فإذا هو بذِيخٍ متلطخٍ، فيُؤخذ بقوائمه فيلقى في النار)).
فهذا لَمَّا مات مشركًا لم ينفعه استغفارُ إبراهيمَ مع عِظَم جاهه وقدره، وقد قال – تعالى – للمؤمنين : ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الممتحنة: 4، 5]، فقد أمر اللهُ – تعالى – المؤمنين بأن يتأسَّوا بإبراهيم ومن اتبعه، إلا في قول إبراهيم لأبيه: "لأستغفرنَّ لك"، فإن اللهَ لا يغفر أن يشركَ به…" إلى آخر كلامه – رحمه الله.
والحمد لله رب العالمين