تخطى إلى المحتوى

رعاية الاسلام لذوي الإحتياجات الخاصة 2024

عن أنس (رضي الله عنه) أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة. فَقَالَ: "يَا أُمَّ فُلاَنٍ، انظري أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ، حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ"، فخلا معها في بعض الطرق، حتى فرغت من حاجتها. وهذا من حِلْمه وتواضعه صلى الله عليه وسلم، وصبره على قضاء حوائج ذوي الاحتياجات الخاصة.

وفي هذا دلالة شرعية على وجوب تكفل الحاكم برعاية ذوي الاحتياجات الخاصة صحيًّا، واجتماعيًّا، واقتصاديًّا، ونفسيًّا، والعمل على قضاء حوائجهم، وسدِّ احتياجاتهم.

الونشريس

ومن صور هذه الرعاية:

– العلاج والكشف الدوري لهم.
– تأهيلهم وتعليمهم بالقدر الذي تسمح به قدراتهم ومستوياتهم.
– توظيف مَن يقوم على رعايتهم وخدمتهم.ولقد استجاب الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) لهذا المنهج النبوي السمح، فأصدر قرارًا إلى الولايات: "أن ارفعوا إليَّ كُلَّ أعمى في الديوان، أو مُقعَد، أو مَن به فالج، أو مَن به زَمَانة تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة". فرُفعوا إليه، وأمر لكل كفيف بموظف يقوده ويرعاه، وأمر لكل اثنين من الزَّمْنَى – من ذوي الاحتياجات – بخادمٍ يخدمه ويرعاه.
وعلى نفس الدرب سار الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (رحمه الله تعالى)، فهو صاحب فكرة إنشاء معاهد أو مراكز رعاية لذوي الاحتياجات الخاصة، فأنشأ (عام 88هـ/ 707م) مؤسسة متخصصة في رعايتهم، وظَّف فيها الأطباء والخدام، وأجرى لهم الرواتب، ومنح راتبًا دوريًّا لذوي الاحتياجات الخاصة، وقال لهم: "لا تسألوا الناس". وبذلك أغناهم عن سؤال الناس، وعيَّن موظفًا لخدمة كل مقعد، أو كسيح، أو ضرير.

الونشريس

الأولوية في الرعاية وقضاء احتياجاته

وإذا كان الإسلام قد قرر الرعاية الكاملة لذوي الاحتياجات الخاصة، والعمل على قضاء حوائجهم، فقد قرر أيضًا أولوية هذه الفئة في التمتع بكافة هذه الحقوق، فقضاء حوائجهم مُقدَّم على قضاء حوائج الأصحاء، ورعايتهم مقدمة على رعاية الأكفاء؛ ففي حادثة مشهورة أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عبس في وجه رجل أعمى – هو عبد الله ابن أم مكتوم رضي الله عنه – جاءه يسأله عن أمرٍ من أمور الشرع، وكان يجلس إلى رجالٍ من الوجهاء وعِلْية القوم، يستميلهم إلى الإسلام، ورغم أن الأعمى لم يرَ عبوسه، ولم يفطن إليه، فإن المولى تبارك وتعالى أَبَى إلا أن يضع الأمور في نصابها، والأولويات في محلها، فأنزل سبحانه آيات بينات تعاتب النبي الرحيم صلى الله عليه وسلم عتابًا شديدًا:
يقول الله فيها: {عَبَسَ وَتَوَلَّى(1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى(2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 1- 4].

الونشريس

يقول الباحث الإنجليزي (لايتنر) معلقًا على هذا الحادث:

"… مرةً أوحى الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحيًا شديدَ المؤاخذة؛ لأنه أدار وجهه عن رجل فقير أعمى ليخاطب رجلاً غنيًّا من ذوي النفوذ، وقد نُشِر ذاك الوحي، فلو كان صلى الله عليه وسلم كما يقول أغبياء النصارى بحقِّه؛ لما كان لذاك الوحي من وجود!".

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك – يقابل هذا الرجل الضرير، فيهُشُّ له ويبشُّ، ويبسط له الفراش، ويقول له: "مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي!".

ففي هذه القصة نرى علة المعاتبة؛ لكونه صلى الله عليه وسلم انشغل بدعوة الوجهاء عن قضاء حاجة هذا الكفيف، وكان الأولى أن تُقضى حاجته، وتقدم على حاجات من سواه من الناس. وفي هذه القصة دلالة شرعية على تقديم حاجات ذوي الاحتياجات الخاصة على حاجات من سواهم.

الونشريس

عفوه صلَّى الله عليه وسلمَّ عن سفهائهم وجهلائهم

وتجلت رحمة الحبيب صلى الله عليه وسلم بذوي الاحتياجات الخاصة في عفوه عن جاهلهم، وحلمه على سفيههم؛ ففي معركة أُحُد (شوال 3هـ = إبريل 624م)، لما توجه الرسول صلى الله عليه وسلم بجيشه صوب أحد، وعزم على المرور بمزرعة لرجل منافق ضرير، أخذ هذا الأخير يسبُّ النبي صلى الله عليه وسلم، وينال منه، وأخذ في يده حفنة من تراب، وقال – في وقاحة – للنبي صلى الله عليه وسلم: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك، لرميتك بها. حَتى همَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بقتل هذا الأعمى المجرم، فأَبَى عليهم نبي الرحمة، وقال: "دعوه!".

ولم ينتهز رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعف هذا الضرير، فلم يأمر بقتله أو حتى بأذيته، رغم أن الجيش الإسلامي في طريقه لقتال، والوضع متأزم، والأعصاب متوترة، ومع ذلك لما وقف هذا الضرير المنافق في طريق الجيش، وقال ما قال، وفعل وما فعل، أَبَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا العفو عنه، فليس من شيم المقاتلين المسلمين الاعتداء على أصحاب العاهات أو النيل من أصحاب الإعاقات، بل كانت سُنَّته معهم الرفق بهم، والاتعاظ بحالهم، وسؤال الله أن يشفيهم ويعافينا مما ابتلاهم.

الونشريس

تكريمه ومواساته صلى الله عليه وسلم لهم

عن عائشة (رضي الله عنه) أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل أوحى إليَّ أنه من سلك مسلكًا في طلب العلم، سهلت له طريق الجنة، ومن سلبت كريمتيه (يعني عينيه) أثَبْته عليهما الجنة…".

وعن العرباض بن سارية (رضي الله عنه)، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن ربِّ العزة قال: "إذا سلبت من عبدي كريمتيه وهو بهما ضنين، لم أرضَ له ثوابًا دون الجنة، إذا حمدني عليهما". ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لكل أصحاب الإصابات والإعاقات: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلاَّ كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ".

ففي مثل هذه النصوص النبوية والأحاديث القدسية، مواساةٌ وبشارة لكل صاحب إعاقة بأنه إذا صبر على مصيبته، راضيًا لله ببلوته، واحتسب على الله إعاقته، فلا جزاءَ له عند الله إلا الجنة.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن عمرو بن الجموح (رضي الله عنه)؛ تكريمًا وتشريفًا له: "سيِّدُكم الأبيض الجعد عمرو بن الجموح"، وكان أعرجَ. وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم: "كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة". وكان (رضي الله عنه) يُولِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج.

وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين، يصلي بهم وهو أعمى.

وعن عائشة (رضي الله عنها) أن ابن أم مكتوم كان مؤذنًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أعمى.

وعن سعيد بن المسيب (رحمه الله): أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم، وكانوا يسلمون إليهم مفاتيح أبوابهم، ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا.

وعن الحسن بن محمد قال: "دخلت على أبي زيد الأنصاري فأذَّن وأقام وهو جالس. قال: وتقدم رجلٌ فصلَّى بنا، وكان أعرجَ، أصيبت رجله في سبيل الله تعالى".

وهكذا كان المجتمع النبوي، يتضافر في مواساة ذوي الاحتياجات الخاصة، ويتعاون في تكريمهم، ويتحد في تشريفهم، وكل ذلك اقتداءً بمنهج نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم مع ذوي الاحتياجات الخاصة.
زيارته صلَّى الله عليه وسلَّم لهم

وشرع الإسلام عيادة المرضى عامة، وأصحاب الإعاقات خاصة؛ وذلك للتخفيف من معاناتهم، فالشخص المعاق أقرب إلى الانطواء والعزلة والنظرة التشاؤمية، وأقرب من الأمراض النفسية بخلاف الصحيح، ومن الخطأ إهمال المعاقين في المناسبات الاجتماعية، كالزيارات والزواج.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعُودُ المرضى، فيدعو لهم، ويطيب خاطرهم، ويبث في نفوسهم الثقةَ، وينشر في قلوبهم الفرحَ، ويرسم على وجوههم البهجة. وتجده ذات مرة يذهب إلى أحدهم في أطراف المدينة خصِّيصًا ليقضي له حاجة بسيطة، أو أن يصلي ركعات في بيت المبتلى تلبية لرغبته؛ فهذا عِتْبَان بْن مَالِكٍ (رضي الله عنه) – وكان رجلاً كفيفًا من الأنصار – يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: وددتُ – يا رسول الله – أنك تأتيني فتصلي في بيتي، فأتخذه مصلى. فوعده صلى الله عليه وسلم بزيارة وصلاة في بيته قائًلا – في تواضع جم -: "سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ".

قال عتبان: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذنتُ له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: "أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟" فأشرتُ له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبَّر فقمنا، فصفنا، فصلى ركعتين، ثم سلم.

الونشريس

الدعاء لهم:

وتتجلى – أيضًا – رحمة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم بالفئات الخاصة من ذوي الاحتياجات، عندما شرع الدعاء لهم، تثبيتًا لهم، وتحميسًا لهم على تحمل البلاء؛ ليصنع الإرادة في نفوسهم، ويبني العزم في وجدانهم. فذات مرة، جاء رجل ضرير البصرِ إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقَالَ الضرير: ادعُ اللَّهَ أنْ يُعافيني. قَالَ الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم: "إنْ شِئتَ دَعوتُ، وإنْ شِئتَ صبرتَ فهوَ خيرٌ لك". قَالَ: فادعُهْ. فأمرَهُ أنْ يتوضَّأ فيُحسنَ وُضُوءَهُ، ويدعو بهذا الدعاء: "الَّلهُمَّ إنِّي أسألكَ وأتوجَّهُ إليكَ بنبيِّكَ مُحَمَّد نبيِّ الرَّحمةِ، إنِّي توجَّهتُ بكَ إِلى رَبِّي في حاجتي هذِهِ لتُقْضَى لي، الَّلهُمَّ فَشَفِّعْهُ فيَّ".

وأَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم امرأة تُصرع، فقالت: إني أُصْرَعُ، وإني أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي. فقَال النبيَ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ". فقالت: أَصْبِرُ. ثم قالت: إِنِّي أَتَكَشَّفُ! فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لا أَتَكَشَّفَ. فَدَعَا لَهَا صلى الله عليه وسلم.
وهكذا المجتمع الإسلامي، يدعو على بكرة أبيه لأصحاب الإعاقات والعاهات، وما رأينا مجتمعًا على وجه الأرض يدعو بالشفاء والرحمة لأصحاب الاحتياجات الخاصة، غير مجتمع المسلمين، ممن تربوا على منهج نبي الإسلام.

الونشريس

تحريم السخرية منهم

كان ذوو الاحتياجات الخاصة في المجتمعات الأوربية الجاهلية، مادةً للسخرية، والتسلية والفكاهة، فيجد المعاق نفسه بين نارين: نار الإقصاء والإبعاد، ونار السخرية والشماتة؛ ومن ثَمَّ يتحول المجتمع – في وجدان أصحاب الإعاقات – إلى دار غُربة، واضطهاد، وفرقة.

فجاء الشرع الإسلامي السمح؛ ليحرّم السخرية من الناس عامة، ومن أصحاب البلوى خاصةً، ورفع شعار "لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك". وأنزل الله تعالى آيات بينات تؤكد تحريم هذه الخصلة الجاهلية، فقال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].

كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الكِبْر بطر الحق، وغَمْط الناس". وغمط الناس: احتقارهم والاستخفاف بهم، وهذا حرام؛ فإنه قد يكون المبتلى أعظم قدرًا عند الله، أو أكبر فضلاً عند الناس علمًا، وجهادًا، وتقوًى، وعفةً، وأدبًا؛ وحَسْبُكَ بالقاعدة النبوية العامة الفاصلة: "فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ".

ولقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحذير من تضليل الكفيف عن طريقه، أو إيذائه، عبسًا وسخرية، فقال: "مَلْعُونٌ مَنْ كَمِهَ أَعْمَى عَنْ طَرِيقٍ".

فهذا وعيد شديد، لمن اتخذ العيوب الخَلْقيّة سببًا للتندر أو التلهي أو السخرية، أو التقليل من شأن أصحابها، فصاحب الإعاقة هو أخ أو أب أو ابن امتحنه الله؛ ليكون فينا واعظًا، وشاهدًا على قدرة الله، لا أن نجعله مادة للتلهي أو التسلي.

الونشريس

رفع العزلة والمقاطعة عنهم

لقد كان المجتمع الجاهلي القديم يقاطع ذوي الاحتياجات الخاصة ويعزلهم، ويمنعهم من ممارسة حياتهم الطبيعية، كحقهم في الزواج، والاختلاط بالناس؛ فقد كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعرج، ولا أعمى، ولا مريض، وكان الناس يظنون بهم التقذُّر والتقزُّز.

فأنزل الله تعالى:
{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61].

أي: ليس عليكم حرج في مؤاكلة المريض والأعمى والأعرج، فهؤلاء بشر مثلكم، لهم كافة الحقوق مثلكم، فلا تقاطعوهم، ولا تعزلوهم، ولا تهجروهم، فأكرمكم عند الله أتقاكم، "والله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أشكالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم".

وهكذا نزل القرآن رحمةً لذوي الاحتياجات الخاصة، يواسيهم، ويساندهم نفسيًّا، ويخفف عنهم، وينقذهم من أخطر الأمراض النفسية التي تصيب المعاقين، جَرَّاء عزلتهم أو فصلهم عن الحياة الاجتماعية.
وبعكس ما فعلت الأمم الجاهلية، فلقد أحل الإسلام لذوي الاحتياجات الخاصة الزواج، فهم – والله – أصحاب قلوب مرهفة، ومشاعر جيَّاشة، وأحاسيس نبيلة، فأقر لهم الحق في الزواج، ما داموا قادرين، وجعل لهم حقوقًا، وعليهم واجبات، ولم يستغل المسلمون ضعف ذوي الاحتياجات، فلم يأكلوا لهم حقًّا، ولم يمنعوا عنهم مالاً؛ فعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه قال: "أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَبِهَا جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ، فَمَسَّهَا، فَلَهَا صَدَاقُهَا كَامِلاً".

الونشريس

التيسير عليهم ورفع الحرج عنهم

ومن الرحمة بذوي الاحتياجات الخاصة مراعاة الشريعة لهم في كثيرٍ من الأحكام التكليفية، والتيسير عليهم ورفع الحرج عنهم؛ فعن زيد بن ثابت (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه: "لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قال: فجاءه ابن أم مكتوم وهو يُمِلُّهَا عَلَيَّ لتدوينها، فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت. وكان رجلاً أعمى، قال زيد بن ثابت: فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذي، فثقلت عليَّ حتى خفت أن تَرُضَّ فخذي (أي تدقها من ثقل الوحي)، ثم سُرِّي عنه، فأنزل الله عز وجل: {‏غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء: 95].

وقال تعالى – مخففًا عن ذوي الاحتياجات الخاصة -: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 17].

فرفع عنهم فريضة الجهاد في ساحة القتال، فلم يكلفهم بحمل سلاح أو الخروج إلى نفير في سبيل الله، إلا إن كان تطوعًا. ومثال ذلك قصة عمرو بن الجموح (رضي الله عنه) في معركة أُحد، فقد كان (رضوان الله عليه) رجلاً أعرجَ شديد العرج، وكان له بنون أربعة، يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فلما كان يوم أُحد أرادوا حبسه، وقالوا له: إن الله عز وجل قد عذرك. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن بَنيَّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أَطَأَ بعرجتي هذه في الجنة. فقال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: "أما أنت فقد عذرك الله، فلا جهاد عليك"، ثم قال لبنيه: "ما عليكم أن لا تمنعوه؛ لعل الله أن يرزقه الشهادة". فخرج مع الجيش، فقتل يوم أُحد.

بَيْدَ أن هذا التخفيف الذي يتمتع به المعاق في الشرع الإسلامي يتسم بالتوازن والاعتدال، فخفَّف عن كل صاحب إعاقة قدر إعاقته، وكلفه قدر استطاعته، يقول القرطبي:
"إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به من المشي، وما يتعذر من الأفعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه؛ كالصوم، وشروط الصلاة وأركانها، والجهاد، ونحو ذلك".

ومثال ذلك الكفيف والمجنون، فالأول مكلف بجُلِّ التكاليف الشرعية باستثناء بعض الواجبات والفرائض كالجهاد؛ أما الثاني فقد رفع عنه الشارع السمح كل التكاليف، فعن عائشة (رضي الله عنها)، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ".

فمهما أخطأ المجنون أو ارتكب من الجرائم، فلا حدَّ ولا حكم عليه؛ فعن ابن عباس قال: أُتِي عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أناسًا، فأمر بها عمر أن ترجم، فمرَّ بها على علي بن أبي طالب (رضوان الله عليه)، فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم. فقال: ارجعوا بها! ثم أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين، أَمَا علمت أن القلم قد رفع عن ثلاثة؛ عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل؟! قال: بلى. قال: فما بال هذه ترجم؟! قال: لا شيء. قال علي: فَأَرْسِلْهَا. فَأَرْسَلَهَا، فجعل عمر يُكَبِّرُ.

هكذا كان المنهج النبوي في التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، في وقتٍ لم تعرف فيه الشعوب ولا الأنظمة حقًّا لهذه الفئة، فقرَّر الشرع الإسلامي الرعاية الكاملة والشاملة لذوي الاحتياجات الخاصة، وجعلهم في سلم أولويات المجتمع الإسلامي، وشرع العفو عن سفيههم وجاهلهم، وتكريم أصحاب البلاء منهم، لا سيما من كانت له موهبة أو حرفة نافعة أو تجربة ناجحة، وحثَّ على عيادتهم وزيارتهم، ورغَّب في الدعاء لهم، وحرَّم السخرية منهم، ورفع العزلة والمقاطعة عنهم، ويسَّر عليهم في الأحكام، ورفع عنهم الحرج. فما أعظم شريعة الإسلام، ونبي الإسلام![1].

منقول

    دينا جميل اوي
    موضوع جميل
    جزاك الله خيرا

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.