الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين
وبعد:
فإن من عبادات الجوارح اللطيفة التي أرشد إليها الشارع عبادة التحفي والبشر والبشاشة في وجوه المؤمنين.
قال تعالى: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الحجر:88].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( تبسمك في وجه أخيك لك صدقة ) [رواه الترمذي].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير التبسم. قال جرير البجلي: ( ماحجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي ) [رواه البخاري].
وأورد أهل الصحاح جملة من الأحاديث التي تدل على تبسمه عليه الصلاة والسلام في كثير من الأحوال.
فيشرع للمسلم إذا لقي أخا له من أهل الإيمان أن يتبسم في وجهه ويطلق وجهه متحفيا به مستبشرا بلقائه سواء كان يعرفه أم لا ، ولا ينبغي له أن يكون عبوسا في وجهه مكفهرا ليحزنه ويغم قلبه ويشعره بالحرج.
وكذلك يستحب للمرأة إذا لقيت أخواتها أن تكون بشوشة في وجوههن متحفية بهن مطلقة وجهها بالكلام الحسن.
إن التبسم والتحفي تعد صدقة معنوية ومن المعروف الذي يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما ورد في مسلم: ( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ).
إن الشارع رغب في هذه العبادة الجليلة لما يترتب عليها من إدخال الفرح والسرور على قلب المؤمن وحصول المودة والمحبة بين المسلمين. والبشاشة والبشر لها أثر عظيم في دوام محبة الإخوان واجتماع أهل البيت والإصلاح بين المتخاصمين وتأليف الخلق على الخير.
إن تبسم المسلم يدل على صفاء نيته وطيب قلبه وإشراقة روحه وخلو قلبه من الغل والحسد ومحبته الخير للمسلمين. وترك ذلك دائما يدل على خلو تلكم الصفات أو بعضها.
إن المسلم الذي يزاول هذا السلوك لهو موفق للخير قد فتح له بابا من أبواب الخير التي قد لا يفطن لها كثير من الناس محبوب إلى الخلق قد كسب قلوبهم وثنائهم عليه بالخير. وكذلك تبسمه له أثر حسن على نفسه وروحه فيكسبه الأمان والاستقرار والفرح والرضا والهدوء.
ينبغي على المؤمن الفطن أن يلحظ الأفعال والأقوال والمشاعر التي تطيب خاطر أخيه المسلم وتجلو صدأ قلبه وجفاءه في معاملته فتنقلب الحال بينهما إلى صفاء ومحبة وألفة. قال ابن عيينة: (والبشاشة مصيدة المودة والبر شيء هين وجه طليق وكلام لين).
إن بعض المسلمين وفقهم الله لا يلحظون فضل هذه العبادة فيزهدون بها ويقصرون في فعلها ويفرطون في ثوابها ويظنون أن الشأن كل الشأن في المحافظة على الفرائض دون العناية بيسير الأعمال ومحاسن الأخلاق وهذا من قلة الفقه وجفاء الطبع.
ويتأسف المسلم إذا رأى بعض الإخوة المستقيمين على شرع الله المواظبين على فعل الطاعات رآهم لا يبشون ولا يتبسمون في وجوه إخوانهم يظهر عليهم الجفاء والغلظة في التعامل مع الآخرين. ومن ظن أن التبسم والبشر عند اللقاء ينافي الوقار والهيبة والحزم ويخدش في كمال الورع والخشية فقد أخطأ الفهم وخالف السنة.
قال ابن القيم رحمه الله: (إن الناس ينفرون من الكثيف ولو بلغ في الدين ما بلغ ولله ما يجلب اللطف والظرف من القلوب فليس الثقلاء بخواص الأولياء وما ثقل أحد على قلوب الصادقين المخلصين إلا من آفة هناك وإلا فهذه الطريق تكسو العبد حلاوة ولطافة وظرفا فترى الصادق فيها من أحبى الناس وألطفهم وقد زالت عنه ثقالة النفس وكدورة الطبع).
إن بعض الناس إذا ألقيت عليه السلام وتبسمت في وجهه رد عليك بجفاء وجمود وسوء صورة أشعرك بالكراهية والأسى ، يلقي عليك السلام بطريقة فيها من وأذى كأنه ينفق عليك من ماله فهذا محروم من الخير غير موفق في قلبه نوع كبر وغرور لاسيما إن كان من أهل المناصب والمراتب والله المستعان.
وكم والله حصل نفور واستوحشت نفوس بين الأحباب والأصحاب وانقطع الخير وترك طريق الحق بسبب عبوس الوجه وجفاء الطبع وعدم البشاشة.
إن الكرم والجود بالمال عبادة جليلة ولكن ربما يساويها أو أعظم منها منزلة في بعض الأحوال الكرم والجود بالبشر وخفة الروح والتواضع وخفض الجناح وبذل الجاه ، ولا يوفق لهذه المنزلة إلا القليل من الناس. وقد يكون إطلاق المحيا وبشر الوجه له أثر على النفس أبلغ من المال.
ولذلك روي في الأثر: ( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ).
إن هذه العبادة مشروعة وخاصة بالمؤمنين الذين أطاعوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيتواضع المسلم لهم ويبش في وجوههم محبة لله وتأسيا برسوله. أما الكافر فلا يشرع التبسم والتحفي بوجهه في الأصل إلا إذا غلب على الظن ترتب مصلحة راجحة بحيث يدعوه ويرغبه في الدخول بالإسلام.
بارك الله فيكي