تخطى إلى المحتوى

فن التوجيه في التفسير : السؤال يوم القيامة بين النفي والإثبات 2024

  • بواسطة

الونشريس
يمكن تحديد معنى التوجيه في استعمال المفسرين بأنه مصطلح يتضمن المعنيين الآتيين:

المعنى الأول: بيان وجه الكلام الظاهر، أي معناه المباشر، وهو هنا بمعنى التفسير، فلا مزية للمصطلح.
الونشريس
المعنى الثاني: التماس وجه الكلام الخفي ببيان معناه، وحيثية هذا المعنى دون غيره مع احتماله له، أو التعليل لما يظهر فيه من إشكال، وهذا هو الذي يستعمله المفسرون إذا ذكروا وجه الكلام.

والمقصود من فن التوجيه في التفسير: البحث عن مغزى الكلام الذي أثار إشكالاً في ذهن السامع، كما قال الدهلوي: "فإذا حل المفسر هذا الإشكال، سمي ذلك الحل: توجيهاً".

آيات السؤال يوم القيامة في القرآن الكريم

من الآيات التي أثارت إشكالاً عند بعض السامعين آيات السؤال يوم القيامة، فقد أُثبت السؤال في مواضع، ونُفي في مواضع أخرى.
الونشريس
فمن الآيات التي أثبتت السؤال يوم القيامة قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} (الأعراف:6-7).

ومن الآيات التي نفت السؤال يوم القيامة قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرحمن:39).

وقد بين علماؤنا رحمهم الله أن الملحدين يثيرون الشبه بذكر هذه الآيات لغير العالمين من المسلمين؛ ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم، وقد عبر الطبري هذا بقوله: "فإن قال قائل: وكيف يسأل الرسل والمرسل إليهم، وهو يخبر أنه يقص عليهم بعلم بأعمالهم وأفعالهم في ذلك؟". وقال القرطبي: "وهذه الآية أكثر ما يسأل عنها أهل الإلحاد في الدين، فيقال: لِمَ قال: {لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (هود:105) و{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (المرسلات:35-36) وقال في موضع من ذكر القيامة: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (الصافات:27) وقال: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} (النحل:111) وقال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} (الصافات:24)، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرحمن:39)".

توجيه النفي والإثبات لسؤال الله تعالى العباد عن أعمالهم يوم القيامة

وجَّه المفسرون ذلك بعدة توجيهات، تدل عليها الاستعمالات الخطابية في لغة العرب، وترجع توجيهات المفسرين إلى ستة أحوال ومواطن يكون فيها حال المتكلم عنهم مختلفاً:

الحالة الأولى: السؤال المنفي هو سؤال التبين والاستثبات والاسترشاد والاستعلام والتعرف لما هو به غير عالم، وأما السؤال المثبت منه -تعالى ذكره- فهو سؤال التوبيخ والتقرير والتقريع؛ لذا قال الطبري في السؤال المنفي: "فأما الذي هو عن الله منفيٌ من مسألته خلقه، فالمسألة التي هي مسألة استرشاد واستثبات فيما لا يعلمه السائل عنها، ويعلمه المسؤول ليعلم السائل علم ذلك من قبله، فذلك غير جائز أن يوصف الله به؛ لأنه العالم بالأشياء قبل كونها وفي حال كونها وبعد كونها، وهي المسألة التي نفاها جل ثناؤه عن نفسه بقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرحمن:39)، وبقوله: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (القصص:78)، يعني: لا يسأل عن ذلك أحداً منهم بمسألة مستثبتٍ ليعلم علم ذلك من قبل من سأل منه؛ لأنه العالم بذلك كله، وبكل شيء غيره… وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول في معنى قوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} أنه يُنطِق لهم كتاب عملهم عليهم بأعمالهم، وهذا قول غير بعيد عن الحق غير أن الصحيح من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فيقول له: أتذكر يوم فعلت كذا وفعلت كذا؟) حتى يذكِّره ما فعل في الدنيا، والتسليم لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من التسليم لغيره".
الونشريس
كما قال الطبري في السؤال المثبت: "هو مسألة توبيخ وتقريرٍ معناها الخبر، كما يقول الرجل للرجل: ألم أحسن إليك فأسأت؟ وألم أصلك فقطعت؟ فكذلك مسألة الله المرسل إليهم بأن يقول لهم: ألم يأتكم رسلي بالبينات؟ ألم أبعث إليكم النذر فتنذركم عذابي وعقابي في هذا اليوم من كفر بي وعبد غيري؟ كما أخبر جل ثناؤه أنه قائل لهم يومئذ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (يس:60-61)، ونحو ذلك من القول الذي ظاهره ظاهر المسألة ومعناه الخبر والقصص، وهو بعدُ توبيخ وتقرير".

ومثل ذلك مسألة الله تعالى للرسل الوارد في قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (الأعراف:6) فهو لإقامة الحجة على المرسل إليهم بعلمه سبحانه بعد أن يتدرج في سؤالهم عن مجيء الرسل إليهم، "فإن الأمم المشركة لما سئلت في القيامة قيل لها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} (الزمر:71)؟ أنكر ذلك كثير منهم وقالوا: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} (المائدة:19) فقيل للرسل: هل بلغتم ما أرسلتم به؟ أو قيل لهم: ألم تبلغوا إلى هؤلاء ما أرسلتكه به؟ كما جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال جل ثناؤه لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة:143)، فكل ذلك من الله مسألة للرسل على وجه الاستشهاد لهم على من أرسلوا إليه من الأمم، وللمرسل إليهم على وجه التقرير والتوبيخ، وكل ذلك بمعنى القصص والخبر"؛ ولذا قال الله بعد ذلك: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} (الأعراف:7)، والمعنى كما يقول الطبري: "يقول تعالى ذكره: فلنخبرن الرسل ومن أرسلتهم إليه بيقين علمٍ بما عملوا في الدنيا فيما كنت أمرتهم به وما كنت نهيتهم عنه، {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} عنهم وعن أفعالهم التي كانوا يفعلونها"، وقال الطاهر بن عاشور: "وإثبات سؤال الأمم هنا لا ينافي نفيه في قوله تعالى: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} لأن المسؤول عنه هنا هو التبليغ، والمنفي في الآيتين الأخريين هو السؤال لمعرفة تفاصيل ذنوبهم، وهو الذي أريد هنا في قوله: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}.

الحالة الثانية: يدخل في السؤال المنفي السؤال عن تفاصيل الأحوال والأفعال بقصد العلم، ويكون السؤال المثبت هو السؤال عن سبب تلك الأعمال للتوبيخ والتقريع وبيان العظمة الإلهية، وإظهار ولاية الله تعالى للمؤمنين: كما قال ابن عباس: لا يسألهم: هل عملتم كذا وكذا؛ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا؟. ونقل القرطبي هذا القول عن ابن عباس فقال: لا يسألهم سؤال استخبار واستعلام: هل عملتم كذا وكذا؛ لأن الله عالم بكل شيء، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ، فيقول لهم: لِمَ عصيتم القرآن؟ وما حجتكم فيه؟ ومن أبرز مظاهر ذلك ما رواه النسائي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجيء الرجل آخذاً بيد الرجل، فيقول: يا رب! هذا قتلني، فيقول الله له: لم قتلته؟ فيقول: قتلته لتكون العزة لك، فيقول: فإنها لي. ويجيء الرجل آخذاً بيد الرجل، فيقول: إن هذا قتلني، فيقول الله له: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان، فيقول: إنها ليست لفلان، فيبوء بإثمه).

الونشريس
الحالة الثالثة: السؤال المثبت سؤال البيان لأكاذبيهم، والسؤال المنفي يكون بعده بإخراسهم وبيان براهين كذبهم للخلق: فيسألون أولاً فيكذبون؛ فمن الأشياء التي يسألون عنها: السؤال عن شركائهم كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ*ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام:22-23)، وقد كذبوا في الإجابة كما قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (الأنعام:24)، ولذا روى الطبري عن قتادة: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرحمن:39) قال: قد كانت مسألة، ثم ختم على ألسنة القوم، فتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (النمل:83-84)، ثم يمنعون من الكلام، ولا يسألون بعدُ كما قال تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} (النمل:85)، ومما بينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يتعلق بذلك، ما ورد في "صحيح مسلم" أن العبد يلقى ربه يوم القيامة، فيقول: (أى فُلُ! ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الْخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. فيقول: أفظننت أنك ملاقى؟ فيقول: لا. فيقول: فإنى أنساك كما نسيتنى. ثم يلقَى الثانى فيقول: أى فُلُ! ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى، أى رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: فإنى أنساك كما نسيتنى. ثم يلقَى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب! آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمت وتصدقت. ويثنى بخير ما استطاعَ، فيقول: ها هنا إذا، ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك. ويتفكر فى نفسه من ذا الذى يشهد علي؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقى فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليُعْذِر من نفسه. وذلك المنافق، وذلك الذى يسخط الله عليه).

الحالة الرابعة: نفي النطق بعد السماح به هو نفي لكلام يمكن أن يسمى كلاماً في العرف الشائع، فهم يهذون عند السؤال بما لا يصلح حجة، ولا يسمى كلاماً، ثم لا يسألون بعد ذلك: ذكر ذلك القرطبي في توجيهٍ رائعٍ آخر للآيات فقال: "لا ينطقون بحجة تجب لهم، وإنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم، ولوم بعضهم بعضاً وطرح بعضهم الذنوب على بعض، فأما التكلم والنطق بحجة لهم، فلا، وهذا كما تقول للذي يخاطبك كثيراً وخطابه فارغ عن الحجة: ما تكلمت بشيء، وما نطقت بشيء، فسمي من يتكلم بلا حجة فيه له غير متكلم، وقال قوم: ذلك اليوم طويل، وله مواطن ومواقف في بعضها يمنعون من الكلام، وفي بعضها يطلق لهم الكلام، فهذا يدل على أنه لا تتكلم نفس إلا بإذنه".

الحالة الخامسة: السؤال المنفي سؤال الرحمة، والسؤال المثبت سؤال التنديم والتنكيل وزيادة الحسرة: ولذلك يعترفون، فلا ينفع الاعتراف، ويئنون ولات حين نجدة أو إسعاف، فلا يسمعون من الله إلا ما يزيد تبيكتهم.. حكى الله عنهم ذلك في قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام:128)، ثم يسألهم سؤال المنكر عليهم الموبِّخ لهم فيقول: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} (الأنعام:130).

الحالة السادسة: يسألون في الحساب لفضيحتهم بين الخلق كما يسألون في النار لإثارة آلامهم نسأل الله التوفيق الرحمة، ولكنهم لا يسألون عندما يساقون إلى النار: ذكر ذلك ابن كثير حيث لا يسألون فيها، ولا يُلتفت إليهم، فقال: "وكأن هذا بعدما يؤمر بهم إلى النار، فذلك الوقت لا يسألون عن ذنوبهم، بل يقادون إليها، ويلقون فيها كما قال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} (الرحمن:41) أي: بعلامات تظهر عليهم. وقال الحسن وقتادة: يعرفونهم باسوداد الوجوه وزرقة العيون. وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء". ونقل عن مجاهد قوله: لا تسأل الملائكة عن المجرمين، بل يعرفون بسيماهم. وأما الملائكة فإنها تسألهم زيادة في توبيخهم وإحداث الحسرة في قلوبهم يوم الحسرة كما قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ* قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} (الزمر:71-72)، وقال سبحانه: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ*قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ*وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ*فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك:8-11).
الونشريس
توجيه الإمام أحمد لهذه الآيات

ذكر رحمه الله تعالى كلاماً بلغ الغاية من التحقيق في توجيه هذه الآيات، مبتدئاً بذكر اعتراض الزنادقة، فقال: وأما قوله عز وجل: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (المرسلات: 35، 36]، وقال في آية أخرى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (الزمر:31)، فقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم…؟ فزعموا أن هذا الكلام ينقض بعضه بعضاً، فشكوا في القرآن.

أما تفسير{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} (المرسلات:35) فهذا أول ما تبعث الخلائق على مقدار ستين سنة، لا ينطقون ولا يؤذن لهم في الاعتذار فيعتذرون، ثم يؤذن لهم في الكلام فيتكلمون فذلك قوله: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} (السجدة:12)، فإذا أذن لهم في الكلام فتكلموا واختصموا فذلك قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (الزمر:31) عند الحساب وإعطاء المظالم، ثم يقال لهم بعد ذلك: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} (ق:28) أي: عندي {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} (ق:28)، فإن العذاب مع هذا القول كائن.

وأما قوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} (الإسراء:97)، وقال في آية آخرى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} (الأعراف:50)، فقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم؟.

أما تفسير {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} (الأعراف:50) فإنهم أول ما يدخلون النار يكلم بعضهم بعضاً، وينادون: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} (الزخرف:77) ويقولون: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} (إبراهيم:44)، {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } (المؤمنون:106)، فهم يتكلمون حتى يقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} (المؤمنون:108)، فصاروا فيها عمياً وبكماً وصماً، وينقطع الكلام، ويبقى الزفير والشهيق. فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة من قول الله.

وأما قوله: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} (المؤمنون:101)، وقال في آية أخرى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (الصافات:50)، فقالوا: كيف يكون هذا من المحكم؟ فشكوا في القرآن من أجل ذلك. فجوابه أن قوله عز وجل: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} (المؤمنون:101)، هذا عند النفخة الثانية، إذا قاموا من القبور لا يتساءلون ولا ينطقون في ذلك الموطن، فإذا حوسبوا ودخلوا الجنة والنار، أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
الونشريس
نفي السؤال وإثباته يوم القيامة قائم على اختلاف الأحوال والمواطن يوم القيامة

بناء على ما تقدم، فإن الأحوال والمواطن تختلف يوم القيامة، فمرة يتم السؤال الذي يكون غرضه التقريع، أو يكون غرضه بيان الأكاذيب، ومرة يُمنعون الكلام، فلا يسألون، فيختم على أفواههم، كما قال ابن كثير في تفسيره: "وقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} وهذه كقوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات:35-36)، فهذا في حال، وثم في حال يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم. وقال الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر:92-93)"، وقال القرطبي: " فإن قيل: وهل يُسأل الكافر ويحاسب؟ قلنا: فيه خلاف…والذي يظهر سؤاله؛ للآية وقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} (الصافات:24)، وقوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} (الغاشية:25-26)، فإن قيل: فقد قال تعالى: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (القصص:78)، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرحمن:39)، وقال: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (البقرة:174)، وقال: {عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (المطففين:15)، قلنا: القيامة مواطن، فموطن يكون فيه سؤال وكلام، وموطن لا يكون ذلك فيه. قال عكرمة: القيامة مواطن، يُسأل في بعضها ولا يُسأل في بعضها".
الونشريس
ومن اختلاف الأحوال وتعدد المواطن لتتعدد المشاهد في غير القيامة ما ذكر الزمخشري في قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} (آل عمران:13) حيث قال: "الخطاب لمشركي قريش {في فئتين التقتا} يوم بدر {يرونهم مثليهم} يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين. أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم؛ ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم، وكان ذلك مدداً لهم من الله كما أمدهم بالملائكة. والدليل عليه قراءة نافع: ترونهم بـ (التاء) أي: ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة، أو مثلي أنفسهم. فإن قلت: فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} (الأنفال:44)، قلت: قُللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين. ونظيره من المحمول على اختلاف الأحوال قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرحمن:39)، وقوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} (الصافات:24)، وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية".

وجود النفي والإثبات لا يدل على الاختلاف المتناقض بل على الاختلاف المتنوع

ما ورد في القرآن من نحو ذلك لا يمكن أن يكون من الاختلاف المشار إليه في قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء:82)، فإن ذلك مألوف في كلام الناس، فقد يقول الأب لابنه لا تتكلم، وقد يقول له: تكلم، ومعلوم أن ذلك على اختلاف حالين، ولذا قال الزمخشري: "فإن قلت: أليس نحو قوله: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} (الأعراف:107)، {كَأَنَّهَا جَانٌّ} (النمل:10)، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر:92)، {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرحمن:39)، من الاختلاف؟ قلت: ليس باختلاف عند المتدبرين.

    جزاك الله خير

    جزانا واياكي نورتي

    بارك الله فى علمك وحسن عملك

    امين يارب نورتي

    الونشريس

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.