كانت عبادات النبيِّ صلى الله عليه وسلم دائماً مستمرة متواصلة في الليل والنهار سُئلت السيدة عائشة كيف كان عمل رسول الله؟هل كان يخصُّ شيئاً من الأيام – أي ويترك العمل في أيام – فقالت(لا كان عمله دِيمَة وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع؟) [1]ولم يَدَعْ رسول الله نوافله وتطوعاته طيلة عمره كما جاء عن أم سلمة قالت (ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان أكثر صلاته ـ أي التطوع ـ وهو جالس وكان أحب العمل إليه ما داوم عليه العبد وإن كان شيئاً يسيراً)[2] وكان له صلى الله عليه وسلم أكمل ذوق الحلاوة في العبادة وألذ راحة ونعيم بها وقد كان يقول صلى الله عليه وسلم: (قُمْ يا بلال أَرِحْنَا بِالصلاة)[3] ويقول صلى الله عليه وسلم(وجعلت قرَّة عيني في الصلاة)[4] وكان منهاجه صلى الله عليه وسلم في العبادة: أنه إذا عمل عملاً أثبته وداوم عليه كما جاء عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(أكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب العمل إلى الله أدوَمُه وإن قلَّ وكان صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته)[5] وكان صلى الله عليه وسلم يواظب على قيام الليل وكان أغلب قيامه لصلاة الليل في أول النصف الثاني من الليل تقول السيدة عائشة (كان ينام أول الليل ويحيي آخره)[6]
وهذا القيام – بعد هذا النوم – حَكَمَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنه أحبُّ القيام بقوله (وأحب القيام إلى الله قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه)[7] وذلك ليستريح من نَصَبِ القيام فإنه بعد القيام يريح البدن ويذهب ضرر السهر وذبول الجسم بخلاف السهر إلى الصباح وفيه من الحكمة أيضاً استقبال صلاة الصبح وأذكار النهار بنشاط وإقبال وهذا بالنسبة للصلاة أيضًا أقرب إلى عدم الرياء لأن من نام السدس الأخير أصبح ظاهر اللون سليم الصدر فهذا أقرب إلى إخفاء عمله في الليل – كما ذكر ذلك الحافظ في الفتح – وبذلك يكون المتهجد قد نال فضائل تجليات الربِّ عزَّ وجلَّ في الثلث الثاني والثلث الأخير وكانت له أوراد صلى الله عليه وسلم وقراءات قبل أن ينام فقد جاء (أنه كان لا ينام حتى يقرأ بني إسرائيل – أي سورة الإسراء – والزمر)[8] وجاء أنه (كان لا ينام حتى يقرأ: ألم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك)[9] وجاء (أنه كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال: فيهن آية أفضل من ألف آية)[10] وكان صلى الله عليه وسلم يواظب على صلاة الضحى وكان تارة يصليها ركعتين – وهو أقلُّها – وتارة أربعاً – وهو الأغلب – وتارة ستاً وتارة ثمانية وتارة اثنتي عشرة ركعة وذلك أفضلها وأكثرها وكان إذا صلى الفجر تربع في مجلسه يذكر الله حتى تطلع الشمس [11]
وكانت له نوافل مطلقة بعد المغرب فتارة يصلي من بعد المغرب إلى العشاء[12] وتارة يصلي بعد المغرب ست ركعات ويقول (إن من واظب عليها غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر) ويقول (مَنْ صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم فيما بينهن بسوء عَدلن بعبادة ثنتي عشرة سنة) [13] وكان يكثر من الدعاء ويحث عليه وكان إذا دعا يرفع يديه حذو منكبيه مشيراً بباطن كفيه نحو السماء تارةً إن كان الدعاء بنحو تحصيل شئ وبظاهرهما إلى السماء تارةً إن دعا بنحو دفع بلاء[14] وكان يبالغ في رفع يديه في الاستسقاء وفي مواقف الاستغاثة بالله والاستنصار على الأعداء وكان إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه[15] وكان يستقبل القبلة في دعائه [16] وكان يعجبه أن يدعو ثلاثًا ويستغفر ثلاثًا [17] وكان يستحب الجوامع من الدعاء ويَدَعْ ما سوى ذلك [18] والمراد بجوامع الدعاء ما جمع – مع وَجَازته – خيري الدنيا والآخرة فمن جوامع أدعيته (اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)[19] ومن جوامع أدعيته (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر) ومنها أنه كان يقول (اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق)[ 20]
وقد ذكرت كتب السنن والآثار الكثير من أدعيته الجامعة والتي كان يقولها في المناسبات المختلفة والأزمنة والأحوال. وقد ذكرنا قبساً من ذلك في كتابنا: " أذكار الأبرار" فاستعن به فإنه لا غنْية للسالك عن مثله وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من التسبيح في الليل والنهار ويقول ربيعة بن كعب (كُنت أخدمه نهاري فإذا كان الليل أويت إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبتُ عنده فلا أزال أسمعه يقول (سبحان الله سبحان ربي) حتى تغلبني عيني فأنام)[21] وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار في الليل والنهار في الصلوات ووراء الصلوات وفي سائر مجالسه وأحواله ويقول (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)[22] ويقول ابن عمر (كنا نَعُدُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد (ربِّ اغْفِرْ لي وتُبْ عليَّ إنك أنت التواب الرحيم) مائة مرة)[23] وفي رواية ( إنك أنت التواب الغفور) وكان تارة يقول (أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه مائة مرة في مجلسٍ واحد)[24] وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من الصيام فيتابع الصوم أحيانًا حتى يقول القائل: لا يفطر ويترك ذلك أحيانا حتى يقول القائل: لا يصوم وكان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وكان يصوم الاثنين والخميس ويتحرى صيامهما ويقول (إنَّهما تعرض فيهما الأعمال فأحبُّ أن يُعرض عملي وأنا صائم) وكان صلى الله عليه وسلم يعظم يوم مولده الشريف وهو يوم الاثنين فيصومه ويقو: (ذلك يوم ولدت فيه) كما رواه مسلم في صحيحه
وكان يعتني بصيام أكثر شهر شعبان وكان يواصل الصيام أحياناً وإذا دخل شهر رمضان اجتهد في قيامه أكثر من غيره ثم اجتهد في عشره الأخير أكثر وأكثر بالاعتكاف وإحياء كل الليل وكان رسول الله أشدَّ الناس خشية من الله وذلك لأنه قال الله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} وهو أعلم العلماء كما جاء في الحديث ففي الصحيحين عن عائشة أنها قالت : صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا ترخَّص فيه وتنزَّه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي فقال (ما بال أقوام يتنزهون عن الشئ أصنعه؟ فو الله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية) وفي هذا الحديث بيان منه صلى الله عليه وسلم وإعلان أفضليته على جميع العباد بالعلم بالله والخشية من الله وأن الله قد أعطاه أفضل وأكمل مقام في المعرفة والخشية يقول أنس رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله خطبة ما سمعت مثلها قط فقال (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا) ثم قال (عُرضت على الجنة والنار فلمْ أَرَ كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا)[25] فما أتى على أصحاب رسول الله يوم أشد منه غطوا رؤوسهم ولهم خنين وفي هذا دليل على عظيم خوفه من الله وكثرة بكائه من خشية الله ومن كمال خشيته صلى الله عليه وسلم أنه كان دائم الانكسار والتواضع لربِّه في سائر مواقفه الكريمة ومشاهده العظيمة في صلواته وسائر عباداته وسائر شؤونه وقضاياه وقد بلغ من خشوعه في صلاته أنه سمع لجوفه أزيز كأزيز المرجل ومما رواه ابن خزيمة في صحيحه َعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ (مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرَ الْمِقْدَادِ وَلَقَدْ رَأَيْتَنَا وَمَا فِينَا إلاَّ نَائِمٌ إلاَّ رَسُولَ اللَّهِ تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ) ولما دخل مكة يوم الفتح دخلها خاشعًا لربِّه)
[1] رواه أبو داود [2] رواه ابن حبان في صحيحه [3] رواه أحمد وغيره [4] رواه أحمد وغيره [5] رواه أبو داود [6] رواه الشيخان [7] رواه الشيخان [8] رواه الترمذي وأحمد [9] رواه الترمذي والنسائي [10] رواه أحمد وأصحاب السنن [11] رواه مسلم [12] قال المنذر رواه النسائي بإسناد جيد [13] رواه ابن ماجة والترمذي وقال غريب انظر الترغيب [14] رواه أبو داود [15] رواه الترمذي والحاكم [16] رواه الترمذي [17] رواه أبو داود [18] رواه الحاكم [19] رواه الشيخان [20] رواه أبو داود [21] رواه الطبراني [22] رواه البخاري [23] رواه أبو داود وابن حبان وصححه والترمذي [24] أخرجه النسائي بسند جيد [25] قال مسلم في صحيحه7/92: عن أنس بن مالك قال: بلغ رسول الله عن أصحابه شئ فخطب فقال(عرضت علي الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) قال فما أتى على أصحاب رسول الله يوم أشد منه قال غطَّوا رؤوسهم ولهم خنين قال فقام عمر فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً قال فقام ذاك الرجل فقال: من أبي؟ قال أبوك فلان فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ انتهى وروى مسلم جزء منها أيضاً في:3/167