أما الآن فقد تطاول البنيان.. وتباعد الناس.. وكلّ يقول اللهم نفسي.. ولعلي أول هؤلاء..
بينما كنت أتأمل حالي وحال أمتي.. والمجتمع من حولي..
تذكرت حادثة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك.. عندما أمر الله عز وجل أن يعتزلهم الناس .. حتى ضاقت
عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم.. إلى أن نزلت الآيات من سورة التوبة تبشر بتوبة الله عز
وجل على هؤلاء الثلاثة .. وتعلن الفرج.. فتسابق الصحابة لإيصال هذه البشرى لأولئك الثلاثة.. فاعتلى
أحدهم مكاناً وبشّرهم بأعلى صوته.. وامتطى آخر فرسه وركض به ليوصل الخبر.. وتلقى الناسُ كعب بن
مالك يهنئونه بالتوبة يقولون ليهنك توبة الله عليك .. حتى دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم
جالس حوله الناس وجهه كالبدر من السرور ، فقام إلى كعب طلحة بن أبي طلحة فحياه وهنأه ، فكان كعب
لا ينساها لطلحة ..
لا يخفى على قارئ هذه القصة الدفء الذي تحمله بين طياتها.. الدفء الذي حملته قلوب الصحابة لبعضهم
البعض.. دفءٌ وحميمية .. يفرح أحدهم لفرح الآخر ويحزن لحزنه..
يا الله كم كانت الحياة دافئة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. كم كانت دافئة..
أما الآن فقد تطاول البنيان.. وتباعد الناس.. وكلّ يقول اللهم نفسي.. ولعلي أول هؤلاء..
إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.. أصبح كلّ منا غنماً قاصية..
كلّ منا يعيش بدنيا خاصة به .. وعالم منعزل ..
والأدهى من ذلك أننا ما عدنا نفرق بين الأخوة في الله وبين أخوة المصالح..
أصبحنا نُلبس كل الصداقات هذا اللباس.. اختلطت علينا الموازين حتى لم نعد نعطِ الأخوة في الله معناها
وحقها من الدفء والصدق..
:
:
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إن الله عز وجل يقول ، يوم القيامة : يا ابن آدم ! مرضت فلم تعدني . قال : يا رب ! كيف أعودك ؟ وأنت رب
العالمين . قال : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده . أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ؟ يا ابن
آدم ! استطعمتك فلم تطعمني . قال : يا رب ! وكيف أطعمك ؟ وأنت رب العالمين . قال : أما علمت أنه
استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟ يا ابن آدم !
استسقيتك فلم تسقني . قال : يا رب ! كيف أسقيك ؟ وأنت رب العالمين . قال : استسقاك عبدي فلان
فلم تسقه . أما أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي ))
صحيح مسلم
لو قسنا هذا الحديث على كل أمور الحياة والحالات التي يمر بها الناس ( المرض ، الجوع ، العطش ،
الهَم …إلخ) لوجدنا أن حالنا أصبح مؤسفاً..
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ما آمن بي من بات شبعان و جاره جائع إلى جنبه و هو يعلم به ) / صحيح الألباني
لو قسنا على هذا الحديث كل أنواع السلبية التي نراها في زمننا لعرفنا سبب ضعف الإيمان الذي انتشر
والله المستعان ..
فكم من صديقةٍ علمنا أنها تمر بأزمةٍ ولم نمد لها يد العون؟
وكم من قريبةٍ سمعنا أنها تمر بضيق مادي ولم نكلف أنفسنا عناء مساعدتها على الأقل معنوياً ؟
وكم وكم وكم..
يؤرقني مجرد التفكير بأننا يوم القيامة سنجد في ميزان سيئاتنا سيئات لم تخطر ببالنا يوماً .. سيئات مثل:
مرت صديقة لنا بمشكلة فلم نمد لها يد العون فتمادت المشكلة حتى أثرت على حياتها بأكملها.. وأثرت
على مستوى عبادتها.. سيكون لنا نصيب من ذنبها.. فلو وقفنا معها لما كان هذا حالها..
والأمثلة في هذا الباب كثيرة..
لو أدينا حقوق الأخوة كما يجب لما وجدنا مهموماً ولا حزيناً ولا فقيراً .. بل لن أبالغ إن قلت :
لو أننا أدينا حق الأخوة كما يجب لما ضاعت البلاد والعباد.. ولما قويت شوكة الباطل على الحق..
فلو كنا على قلب رجل ٍ واحد -كما كان المسلمون في غزوة بدر- لنُصرنا ولما وجد العدو ثغرة ً يدخل من
خلالها إلى صفوفنا..
( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ
الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) / صحيح مسلم
هلّا أحيينا هذا الدفء ؟ هلّا أحيينا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه ؟
:
:
وهذه سنّة ٌ أخرى أصبحت " نادرة " في زمننا.. ألا وهي : رفع المعنويات ..
كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ اسمه زاهر ، كان دميماً ، أتاه النبي صلى الله عليه وسلم
يوماً وهو يبيع متاعه ، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره ، فقال : من هذا ؟ أرسلني . فالتفت ، فعرف النبي
، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي حين عرفه ، فجعل النبي يقول : من يشتري هذا العبد ؟ . فقال :
يا رسول الله ! إذاً والله تجدني كاسداً . فقال النبي : ( لكن عند الله لست بكاسد . أو قال : أنت عند الله غال )
يا الله ما أروعها من كلمات .. رغم بساطة مبناها لكنها رفعت معنويات ذاك الصحابي..
أين نحن من سنة رفع المعنويات هذه ؟
أصبحنا في زمن ٍ يلتزم فيه الغالبية إما الصمت أو شريعة الإحباط وبث اليأس .. والله المستعان ..
بث الدفء.. رفع المعنويات.. غرس الأمل في النفوس.. باتت سنناً مهجورة في زمننا.. رغم حاجتنا الماسة
لهذه السنن..
:
:
( أيها الناس إنما المؤمنون إخوة )
رددها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع في الفترة الأخيرة من حياته عليه الصلاة والسلام..
ليلفت نظرنا إلى أهمية رابطة الأخوة..
فالأخوة الحقيقية تحل أغلب المشاكل التي يعاني منها المسلمون في كل زمان ومكان..
لنسعَ أخواتي أن نكون ممن قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ، ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله
تعالى . قالوا : يا رسول الله ، تخبرنا من هم ، قال : هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ، ولا
أموال
يتعاطونها ، فوالله إن وجوههم لنور ، وإنهم على نور : لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس . وقرأ
هذه الآية : "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" ) / صحيح الألباني
وفقنا الله وإياكم لإحياء تلك السنن من جديد في مجتمعاتنا.. لتكون أمتنا أمة دافئة مترابطة بكل ما تحمله الكلمة
من معنى ً..
همسة :
خير الأمور الوسط ، وتميزت أمتنا عن غيرها بأنها أمة الوسط "وكذلك جعلناكم أمة ً وسطا " فلا إفراط ولاتفريط ..
أقصد بذلك : كلماتي هنا ما هي إلا دعوة لمعرفة حقوق الأخوة في الله وأدائها وإعطائها حقها من الدفء.. لكني
لا أود أن يُفهم من الكلام أني أدعو للتدخل في شؤون إخوتنا صغيرها وكبيرها والتعلق بهم بشكل يزيد عن
الحد.. بل كما تقول القاعدة النبوية : ( أحبب حبيبك هونا ما ، عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، و أبغض بغيضك
هونا ما ، عسى أن يكون حبيبك يوما ما ) / صحيح الألباني
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك..