تخطى إلى المحتوى

العفو وأثره في تماسك المجتمع ونهضة الأمة 2024

  • بواسطة

العفو وأثره في تماسك المجتمع ونهضة الأمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيِّدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبِه ومَن والاه، ومَن سار على دربِه واتَّبع هُداه.

وبعد:
فإن الله -عز وجل- خلَق الناس لعبادته مِن خلال تعمير الأرض وإصلاحها، ولا يتمُّ هذا التعمير والإصلاح إلا بتضافُر جهود أبناء المجتمع والتعاون فيما بينهم مِن أجْل تحقيق الهدف المنشود، ولا يكون هناك تعاوُن إلا إذا سادَت الأُلفة والمودَّة بينهم، ولكنَّ الحياة لا تخلو مِن منغِّصات ومُشاحَنات تَنتهي إلى الخُصومة والقَطيعة والكراهية، مِن هنا جاء أمر الله -عز وجل- بتطبيق مبدأ العفو في دنيا الناس، وأَولى الناس بذلك هم المسلمون أتباع النبي الأكرم محمد -صلى الله عليه وسلم- اقتداءً بنبيهم -صلى الله عليه وسلم- إذ وصفه ربُّه بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم.

وقد أمر الله -عز وجل- النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعفْو عن المشركين؛ فقال سبحانه: ﴿ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزخرف: 89]، وأمر أتباعه أيضًا بالعفو عن المشركين؛ فقال سبحانه: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الجاثية: 14].

ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في مكة في حالة ضعْف كما يظنُّ بعض الناس؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان يأوي إلى ركن شديد وهو الله -عز وجل- عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "هل أتى عليك يوم أشد من يوم أُحُد؟"، قال: ((لقد لقيتُ مِن قومك ما لقيتُ، وكان أشد ما لقيتُ منهم يوم العقبة؛ إذ عرضتُ نفسي على ابن عبدياليل بن عبدكلال، فلم يُجبْني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفِق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعتُ رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتْني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجِبال لتأمره بما شئتَ فيهم، فناداني ملك الجبال فسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئتَ؟ إن شئت أن أُطبِق عليهم الأخشبَين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن يُخرج الله مِن أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يُشرك به شيئًا))[1].

فلو أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يَنتقِم لنفسه وهو في مكة لفعل؛ إذ كان يَكفيه أن يمدَّ يدَيه إلى السماء ويضرَع إلى الله بالدعاء، أن يا ربِّ إني مغلوب فانتصر، فيَستجيب له الله -عز وجل- عاجلاً غير آجِل؛ ولكنه -صلى الله عليه وسلم- بُعث رحمةً للعالمين، فضرَب لنا أروع المثل في العفو والصفْح والتسامُح؛ عن عطاء بن يسار قال: لقيتُ عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قلتُ: "أخبرْني عن صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التوراة"، قال: "أجل؛ والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفتِه في القرآن: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومُبشِّرًا ونذيرًا، وحِزرًا للأميِّين، أنت عبدي ورسولي، سمَّيتُك المتوكِّل، ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا سخَّاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيِّئة؛ ولكن يعفو ويصفح، ولن يَقبِضه الله حتى يُقيم به الملَّة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح بها أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلفًا"[2]، وعن عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: "لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفاحِش، ولا مُتفحِّش، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يَجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويَصفح"[3].

وبلغ مِن عَفوِه وصفْحِه -صلى الله عليه وسلم- أنه دعا لأعدائه في غزوة أُحُد بالمغفرة بعد أن أدمَوا وجهه الشريف -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون))[4]، ولعلَّ عفوه العامَّ عن أهل مكة يوم الفتح، وكلمته التي سجَّلها التاريخ وردَّدها الزمان: ((اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء))، وتألُّفه للمؤلَّفة قلوبهم، وإعطاءه لهم من المال الجزيل ما يُشبِع رغبتَهم وشَهوتهم – وهم الذين آذَوه وحارَبوه عِشرين عامًا – أظهرُ دليلٍ على عَفوِه وصَفحِه -صلى الله عليه وسلم- وترتَّب على ذلك أحسن الأثر؛ إذ حبَّب الله إليهم الإيمان وزيَّنه في قلوبهم، وأصبحوا سُيوفًا مُصلَتةً ومُسلَّطةً على أعداء الله؛ فأقاموا الجهاد، وفتحوا البلاد، وهدَوا العباد، ونشروا الإسلام، ورفعوا الأعلام، والفضل لله الواحِد العلام.

ولعلَّ تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع مُشركي مكَّة بالعفو والتسامُح هو سرُّ تماسُك المجتمع المكِّي مع اختلاف العقائد فيه، فأهل مكة استمروا في حفْظ ودائعهم عند النبي -صلى الله عليه وسلم- مع مُخالفتهم له، وبنو هاشم وبنو المطلب وقفوا جميعًا – عدا أبي لهب عبدالعُزَّى بن عبدالمطلب – مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موقف المُدافِع عنه والُمواسي له مع عدم إيمانهم بدِينه، وبعض شباب مكة – مع عدم إسلامِهم – يُخفِّفون عنه مِحنَة المُقاطَعة بتسريب بعض الأطعمة إليه ومَن معه في شِعْب أبي طالب، فلما اشتدَّ إيذاء المُشركين للمسلمين اضطرَّ كثير منهم للهجرة إلى الحبَشة، وحدَث شرْخ كبير في المجتمع المكي بسبب تعنُّت أهلها وقسوتهم في إيذاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام – رضي الله عنهم – ثم هاجر النبي والمسلمون معه إلى المدينة المنورة ونَصَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- في وثيقة المدينة على ما يَحفظ للمجتمع تَماسُكَه وتعاونه؛ فيما يؤدِّي إلى النهوض بالأمة مع اختِلاف العقائد.

وقد أمر الله -عز وجل- نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- بالصفْح عن اليهود عند القُدرة عليهم؛ فقال سبحانه: ﴿ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 13]، فالقرآن الكريم يصف اليهود بنقْض العهود وخيانة المواثيق، ولكنَّ القرآن مع ذلك يُعلِّمنا الإنصاف وعدم المُجازَفة بتعميم الأحكام على أجناس الناس، فأنصَف قليلاً مِن اليهود يحفظون العهود والمواثيق، ولا يَخونون ولا يَغدِرون، فاستثناهم عند الحديث عن غدر اليهود وخيانتهم، وبعد أن تمالأَ اليهود على قتْل النبي -صلى الله عليه وسلم- أُمر بالعفو والصفْح عنهم، ويَصف ابن كثير – رحمه الله – ذلك العفو والصفْح بأنه عين النصْر والظَّفَر؛ لما يترتَّب عليه من تأليفهم وجمعهم على الحقِّ، ولعلَّ الله أن يَهدِيَهم[5].

وفي مَعرض الحثِّ على العفو يقول الله -عز وجل-: ﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴾ [النساء: 149]، والمُناسَبة بين الحثِّ على العفو وبين ذكْر اسم الله العَفُوِّ واضِحةٌ جليَّة، وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التغابن: 14]، ففيه تناسُب أيضًا بين الحثِّ على العفو والصفح والمَغفِرة وبين ذكر اسمَي الله -عز وجل- "الغفور، والرحيم"، فالله تعالى يُريد منا أن نتحلى بما وصف به نفسه – جل جلاله – من الصفح والمَغفِرة، والعفو عند المَقدِرة، فالعفو مما يقرِّب العبد من الله -عز وجل- ويَزيده عزًّا لدَيه سبحانه؛ عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما نقصتْ صدقة مِن مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عِزًّا، وما تواضَع أحد لله إلا رفعه الله))[6].

ومِن طبيعة البشر أن يَزيدهم جهل[7] الجاهلين جَهلاً فوق جَهلِهم؛ كما قال عمرو بن كلثوم في معلقته:
ألاَ لا يَجهَلنْ أحدٌ علينا الونشريس
فنجهَلَ فَوق جهْلِ الجاهِلينَا الونشريس

أما محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمته، فلا يَزيدهم جهل الجاهِل إلا حِلمًا؛ قال تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، وعن النُّعمان بن مقرن – رضي الله عنه – قال: سبَّ رجلٌ رجلاً عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعَل الرجل المسبوب يقول: عليكَ السلام، فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((أمَا إنَّ ملَكًا بينكما يَذُبُّ عنك، كلما يَشتُمك هذا، قال له: بل أنتَ وأنت أحق به، وإذا قال له: عليك السلام، قال: لا؛ بل لك أنتَ أحق به))[8].

وقد ذكر القرآن الكريم أنواعًا مِن العفو تُشير إلى غيرها مِن مَثيلاتها مما يعود بأحسن أثر على المجتمع في تآلُفه وترابُطه وتعاونه، وبالتالي على الأمة في نهضتِها، وهي:
1 – العفو عن حقِّ القصاص إلى الدِّيَة:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 178]، وهنا يجعل الله – تعالى – القصاص حقًّا أصيلاً لولي القتيل، له أن يتمسَّك به ولا يَتنازل عنه، ولكنَّ الله -عز وجل- يحث هذا الوليَّ على العفو والتنازُل عن القِصاص إلى الدِّيَة، ويحثُّ القاتل على الإحسان في أداء الديَة، وعندما يتحقَّق الإحسان مِن كِلا الطرفَين – عفو وليِّ القَتيل عن القِصاص، وأداء القاتل للدِّيَة على أحسن وجه – تزول البَغضاء والشَّحناء من نفوس الناس، ويتماسَك المُجتمَع ويتعاون، وتنهض الأمة وتتقدَّم، وتأمل قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ [البقرة: 178]، فهو يُشير إلى أن القصاص عدْل، والتنازُل عنه إلى الديَة رحمة، والرحمة أحبُّ إلى الله – تعالى – لما يترتَّب عليها مِن التآلُف والتوادِّ بين الناس.

2 – العفو عن إيذاء العِرض بالسبِّ والشتْم:
قال تعالى: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]، وقد نزلت هذه الآية الكريمة في أبي بكر الصدِّيق – رضي الله عنه – إذ إنه لما تناوَل الذين في قلوبهم مرضٌ عِرضَ أمِّنا عائشةَ – رضي الله عنها – خاضَ في الحديث عنها مَن خاض، وكان من بين الخائضين مِسطَح بن أُثاثَة، وهو ابن خالة أبي بكر – رضي الله عنه – وكان مِسكينًا لا مال له إلا ما يُنفِق عليه أبو بكر – رضي الله عنه – فلما زلِق في هذا الأمر – الذي تابَ إلى الله منه بعد ذلك وتاب الله تعالى عليه – حلف أبو بكر أن يَمنع عنه النفَقة، فنهاه الله -عز وجل- عن ذلك، وأمره بالعفو والصفْح ومُقابَلة الإساءة بالإحسان؛ رجاء أن يُنعِم الله -عز وجل- عليه بالرَّحمَة والغُفران.

ومما يُذكر في هذا المقام ما رواه الأصمعي مِن أن رجلاً أسمع الشعبي كلامًا، فقال له الشعبي: "إن كنتَ صادقًا فغفَر الله لي، وإن كنتَ كاذبًا فغفَر الله لك"[9]، وروى أيضًا أن رجلاً قال لآخَر: "والله لئن قلتَ واحدةً، لتسمعنَّ عشرًا"، فقال له الآخَر: "لكنَّك إن قلتَ عشرًا، لم تَسمع واحدةً"، وروى كذلك أن رجلاً شتَم عُمر بن ذرٍّ، فقال له: "يا هذا، لا تُغرِق في شَتمِنا، ودعْ للصُّلح مَوضِعًا؛ فإني أَمَتُّ مُشاتمةَ الرجال صغيرًا ولن أُحييها كبيرًا، وإني لا أُكافئ مَن عصى الله فيَّ بأكثر مِن أن أُطيعَ الله فيه"[10].

3 – العفْو عن بعض الحُقوق المالية:
قال تعالى: ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 237]؛ والمعنى: أنه إذا عقد الرجل على امرأة واتَّفق معها أو مع وليِّها على مِقدار محدَّد مِن المهْر، ثم طلَّقها قبل الدُّخول، فيجب لها نصف المهر فقط، ويجوز لها أن تتنازل عن هذا النِّصف أيضًا كرمًا منها وتفضُّلاً، وفي المُقابل يجب على الرجل أن يَدفع لها نصف المهر فقط، ويجوز له أيضًا أن يُعطيها المهر المتَّفق عليه كامِلاً دون أن ينقص منه شيئًا تَفضُّلاً منه وإحسانًا، والله – تعالى – يحث كِلا الطرفَين على العفو والإحسان؛ إذ العفو والإحسان مِن سِمات الأتقياء، وشِيَم الكُرَماء.

فتخيَّل معي لو أن مُجتمَعًا يَتعامل أفرادُه فيما بينهم بهذا المبدأ، وهو العفْو المُتبادَل، أفلا يكون هذا المجتمع هو المدينة الفاضِلة التي نشَدها الفلاسفة القدماء فلم يَجدوها؟

وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ﴾ [النساء: 92]، وهنا يَحكم الله -عز وجل- بوجوب دفع دية مُخفَّفة في القتل الخطأ، يَدفعها القاتل لوليِّ القَتيل، إلا أن يتصدَّق أهلُ القَتيل ويَتنازلوا عن قَبول الدِّيَة ويَرجُوا بذلك الثواب الجزيل مِن الله – عز وجل.

نعم؛ قد أباح الله للمرء أن يَنتصِر لنفسه إن تعدَّى عليه أحد بغير حق، شرطَ ألا يَعتدي في أخذ حقِّه فيأخذ أكثر منه؛ فقال سبحانه: ﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 148]، وقال: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [النحل: 126]، وقال -عز وجل-: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [الشورى: 40]، وقال تعالى: ﴿ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [الشورى: 41].

ولكن الله – تعالى – يحثُّ عقب هذه الآيات مُباشَرةً على العفو والصفح على تحمُّل الأذى؛ تقرُّبًا إلى الله تعالى، فقال سبحانه: ﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴾ [النساء: 149]، وقال: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، وقال سبحانه: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43].

هذا، ولن يَقدِر على تطبيق هذا المبدأ السامي في تعامُلاته إلا إنسانٌ حَليم، امتلأ قلبه بالرِّضا عن الله -عز وجل- فجعَل الدنيا مُجرَّد سبيل إلى الآخِرة؛ حيث النَّعيم المُقيم، والثَّواب العظيم، والربُّ الرؤوف الرَّحيم، زينَنا الله وإياكم بالحِلم، وحصَّننا بالعِلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبِه وسلَّم.

والحمد لله ربِّ العالمين

يتبع

    [1] رواه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الخلق/ باب: إذا قال أحدكم: آمين، والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه/ الحديث: (3059)، ومسلم في صحيحه: كتاب الجهاد والسير/ باب: ما لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين/ الحديث: (1795)، وابن حبان في صحيحه: كتاب التاريخ/ باب: ذكر صبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على أذى المشركين وشفقتِه على أمته باحتساب الأذى في الرسالة/ الحديث: (6561).
    [2] رواه البخاري في صحيحه: كتاب البيوع/ باب: كراهية السخب في السوق/ الحديث: (2019)، وفي كتاب التفسير/ باب: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45] / الحديث: (4558).
    [3] رواه ابن حبان في صحيحه: كتاب التاريخ/ باب: ذكر خِصال يستحب مُجانبتها لمن أحبَّ الاقتداء بالمصطفى -صلى الله عليه وسلم- الحديث: (6443)، والترمذي في جامعه، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، أبواب البرِّ والصِّلَة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باب: ما جاء في خُلُق النبي -صلى الله عليه وسلم- الحديث: (2085)، والبيهقي في السنن: كتاب النكاح/ باب: ما أمره الله -تعالى- به من أن يدفع بالتي هي أحسن السيئة/ الحديث: (13080)، وأحمد في مُسنده.
    [4] رواه عن عبدالله بن مسعود: البخاري في صحيحه: كتاب الأنبياء/ باب: ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ﴾ [الكهف: 9] / الحديث: (3290)، وفي كتاب استتابة المُرتدِّين والمُعانِدين وقِتالهم/ باب إذا عرَّض الذمي بسبِّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يُصَرِّح/ الحديث: (6530)، ومسلم في صحيحه: كتاب الجِهاد والسِّيَر/ باب غزوة أُحُد/ الحديث: (1792)، وابن حبان في صحيحه: كتاب التاريخ/ باب ذكْر احتمال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الشدائد في إظهار ما أمَر الله – عز وجل – الحديث: (6576)، وأبو يعلى في مسنده: الحديث: (4992)، والحديث: (5072)، والإمام أحمد في مسنده.
    ورواه عن سهْل بن سعد الساعِدي: ابن حبان في صحيحه: كتاب الرقائق/ باب: ذكر ما يجب على المرء الدعاء على أعدائه بما فيه ترك حظِّ نفسِه/ الحديث: (973).
    [5] انظر: تفسير القرآن العظيم؛ ابن كثير (2: 32).
    [6])) رواه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة/ باب استحباب العفو والتواضع/ الحديث 2588، وابن حبان في صحيحه: كتاب الزكاة/ باب ذكر النقص عن المال بالصدقة مع إثبات نمائه بها/ الحديث 3248، والترمذي في جامعه: أبواب البر والصلة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-/ باب ما جاء في التواضع/ الحديث 2098، والبيهقي في سننه: كتاب قتال أهل البغي/ باب ما على السلطان من القيام فيما ولي بالقسط والنصح للرعية والرحمة بهم والشفقة عليهم والعفو عنهم ما لم يكن حدًّا/ الحديث 16423، والدارمي في سننه: كتاب الزكاة/ باب في فضل الصدقة/ الحديث 1676، وأحمد في مسنده.
    [7] المراد بالجهل هنا: ما كان ضد الحِلم.
    [8] رواه الإمام أحمد في مسنده، وذكره ابن كثير في تفسيره وقال: إسناده حسن ولم يخرجوه؛ انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 314.
    [9] عيون الأخبار؛ لابن قتيبة الدِّينَوَري 1/ 283.
    [10] عيون الأخبار: 1/ 285.

    بارك الله فيكي يا قمر وجزاكي خيرا
    جزاكى الله خير

    بارك الله فيكى

    الونشريس

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.