من الأعطيات الإلهية التي منَّ الله بها على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- أن الله جعل له ولأمته الأرض كلها مسجداً، يصلون في أي بقعة منها، وجعل ترابَها طاهراً يتطهرون به عند فقد الماء، وهذه أعطيات لم تكن لأحد من الأمم قبل أمة الإسلام، فقد كانت الأمم السابقة لا تصلي إلا في أماكن مخصصة للعبادة.
روى البخاري في "صحيحه" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل…" الحديث.
ومقابل هذا الحديث جاء حدثيان ينهيان عن الصلاة في بعض الأماكن؛ الحديث الأول: ورد في "صحيح بن خزيمة" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم: (الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقُبرة). والحديث الثاني: جاء في "صحيح ابن حبان" عن أبي مرثد الغنوي، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها) قال الشيخ شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم. وظاهر هذين الحديثين يبدو معارضاً لعموم حديث البخاري (أعطيت خمساً) فهل يبقى هذا الحديث على عمومه، أم أن الحديثين المذكورين يخصصانه؟ لنر جواب أهل العلم على هذا السؤال:
قال الحافظ ابن رجب: "استدل بعمومه بعض الناس على الصلاة في المقابر والأعطان -(العطن) مبرك الإبل، ومربض الغنم عند الماء- والحمام وغير ذلك، مما اختلف في الصلاة فيه. ومن العلماء من منع دلالته على ذلك، وقال: إنما خرج الكلام لبيان أن هذه الأمة خُصَّت عن الأمم بأنهم يصلون في غير المساجد المبنية للصلاة فيها، فيصلون حيث أدركتهم الصلاة من الأرض، في مسجد مبني وغير مبني، فالأرض كلها لهم مسجد ما بني للصلاة فيه وما لم يُبْنَ، وهذا لا يمنع أن ينهى عن الصلاة في أماكن خاصة من الأرض؛ لمعنى يختص بها، غير كونها غير مسجد مبني للصلاة فيه.
ومن وجوه الجمع التي ذهب إليها بعض شراح الحديث: إبقاء حديث جابر على عمومه، ويحمل النهي في الحديثين الآخرين على الكراهة، أي كراهية الصلاة في الحمَّام والمَقبُرة.
ومن ذهب مذهب الترجيح والنسخ أخذ بالحديث المشهور، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" وقال هذا ناسخ لغيره؛ لأن هذه هي فضائل له عليه الصلاة والسلام، وذلك مما لا يجوز نسخه، لكن ما دام الجمع ممكناً فلا سبيل إلى القول بالنسخ.
ولا يخفى أن أعدل الأقوال في توجيه التعارض بين ظواهر هذه الأحاديث هو بناء الخاص على العام، كما قال ابن رشد: حديث الإباحة عام، وحديث النهي خاص، فيجب أن يبنى الخاص على العام، فمن العلماء من استثنى مواضع متعددة، ومنهم من استثنى الحمام والمقبرة وقال: هذا هو الثابت عنه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه قد روي أيضاً النهي عنهما مفردين، ومنهم من استثنى المقبرة فقط للحديث المتقدم.