مقدمة
الحمد لله رب العالمين القائل في مُحكم الذكر: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)، وصلى الله على من أكرمنا به وجعله شفيعاً ورحمة لكل مؤمن أحب الله ورسوله، وعلى آله وأصحابه وسلّم.
شُبهات كثيرة أُثيرت ولا تزال حول موضوع الإعجاز العددي في القرآن الكريم، فالبعض يعتقد أن لا فائدة من دراسة الأرقام القرآنية، باعتبار أن القرآن الكريم كتاب هداية وتشريع وليس كتاب رياضيات وأرقام!
ومن العلماء من يعتقد أن إعجاز القرآن إنما يكون ببلاغته ولغته وبيانه، وليس بأرقامه. ويتساءل البعض حول مصداقية الحقائق الرقمية ومدى صِدق النتائج التي تقدمها أبحاث الإعجاز العددي، وقد تطور الأمر لدى بعض المعارضين إلى إنكار هذا العلم المسمى بالإعجاز العددي برمّته بسبب عدم اقتناعهم.
ولكن لماذا ينأى علماء المسلمين بأنفسهم عن علم الرياضيات في القرآن؟ وهل هنالك أحكام مسبقة تجاه هذا العلم بسبب بعض الانحرافات والأخطاء التي وقع بها (رشاد خليفة) أول من تناول هذا الموضوع منذ ربع قرن وغيره ممن بحثوا في هذا المجال؟
حول هذه التساؤلات سيكون لنا وقفات نجيب من خلالها عن بعض الانتقادات التي يواجهها الإعجاز العددي اليوم، ونبيّن فيها ما لهذا العلم الناشئ من حق علينا، ونبيّن كذلك الأشياء الواجب على من يبحث في هذا الجانب الإعجازي أن يلتزم بها أو يبتعد عنها.
وسوف نطرح جميع الانتقادات بتجرد، ونجيب عنها بإذن الله، بكل صراحة. وسيكون الدافع من وراء هذه المقالة هو الحرص على كتاب الله تعالى، وإظهار الحق والحقيقة، ونسأل الله أن يلهمنا الإخلاص والصواب. ونبدأبهذا السؤال:
ماهي قصة رشاد خليفة؟
منذ أكثر من ألف سنة بحث كثير من علماء المسلمين في الجانب الرقمي للقرآن الكريم، فعدُّوا آياته وسورَه وأجزاءَه وكلماته وحروفَه. وغالباً ما كانت الإحصاءات تتعرض لشيء من عدم الدقة بسبب صعوبة البحث. وإذا تتبعنا الكتابات الصادرة حول هذا العلم منذ زمن ابن عربي وحساب الجُمَّل، وحتى زمن رشاد خليفة ونظريته في الرقم (19)، لوجدنا الكثير من الأخطاء والتأويلات البعيدة عن المنطق العلمي.
لقد استغلّ هذا الرجل بعض الحقائق الرقمية الواردة في كتاب الله تعالى، والمتعلقة بالرقم 19، واعتبر أن القرآن كلَّه منظَّم على هذا الرقم. ولكن اتّضح فيما بعد زَيْف ادعائه وكَذِب نتائجه، وتبيّن بأن معظم الأرقام التي ساقها في كتابه "معجزة القرآن الكريم" بعيدة عن الصواب.
ومن أهم الأمثلة التي ذكرها في بحثه أن أول آية في القرآن هي: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)، تتكرّر كلماتُها في القرآن عدداً من المرّات من مضاعفات الرقم 19. وقد ثَبُت أن هذا الكلام غير دقيق.
فهو يقول بأن كلمة: (بسم) وأصلها (اسم) قد وردت في القرآن كله 19 مرة، والصواب أنها وردت 22 مرة، وهذا العدد ليس من مضاعفات الرقم 19.
ويقول بأن كلمة (الله) وردت في القرآن 2698 مرة، أي 19×142 ، وهذا العدد غير دقيق أيضاً! والصواب أن كلمة (الله) عزّ وجلّ تكررت في القرآن كلّه 2699 مرة، وهذا العدد لاينقسم على 19.
أما قوله بأن كلمة (الرحمن) وردت في القرآن 57 مرة، أي 19×3 فهذا صحيح.
وقوله بأن كلمة (الرحيم) وردت 114 مرة،أي 19×6، فهذا غير صحيح، والحقيقة أن هذه الكلمة تكررت في القرآن كله 115 مرة.
إذن، قدّم رشاد رقماً واحداً صحيحاً من أصل أربعة أرقام ، وبالتالي يمكن اعتبار النظرية غير صحيحة. وهكذا يفعل مع بقية الأرقام التي قدّمها، فتجد أنه يسوق رقماً صحيحاً ويخلط به عدة أرقام ليجعلها جميعاً من مضاعفات الرقم 19.
إن معظم الباحثين الذين اعتمدوا الرقم 19 أساساً لأبحاثهم، قد وقعوا في خطاٍ غير مقصود، إما في عدّ الحروف، وإما في منهج الحساب. وهذا لايعني بأن التناسقات العددية القائمة على العدد 19 ليست موجودة، بل إننا نجد إعجازاً مذهلاً لهذا الرقم الذي ذكره الله تعالى في قوله: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ)(المدثر:30). وسوف نرى بعضاً من عجائب هذا الرقم في القرآن الكريم الذي لاتنقضي عجائبه:
عدد حروف أول أول آية في القرآن 19 حرفاً، وهي البسملة.
عدد حروف القاف في سورة (ق) 57 حرفاً، من مضاعفات 19.
وعدد حروف القاف في سورة الشورى 57 حرفاً كذلك.
مع ملاحظة أن كلتا السورتين في مقدمتهما نجد حرف القاف!!!
يُعتبر هذا النوع من الحساب الأقدم بين ما هو معروف في الإعجاز العددي. ويعتمد على إبدال كل حرف برقم، فحرف الألف يأخذ الرقم 1، وحرف الباء 2، وحرف الجيم 3، وهكذا وفق قاعدة "أبجد هوّز".
وإنني أوجه سؤالاً لكل من يبحث في هذه الطريقة: ما هو الأساس العلمي لهذا الترقيم؟ وأظن بأنه لا يوجد جواب منطقي عن سبب إعطاء حرف الألف الرقم 1، وحرف الباء الرقم 2، … لماذا لايكون الباء 3 مثلاً؟
إن هذا الحساب لم يقدّم أية نتائج إعجازية، وإن كنا نلاحظ أحياناً بعض التوافقات العددية الناتجة عن هذا الحساب. ولكن إقحام حساب الجمّل في كتاب الله تعالى، قد يكون أمراً غير شرعي، وقد لا يُرضي الله تعالى. لذلك فالأسلم أن نبتعد عن هذا النوع وما يشبهه من ترميزات عددية للأحرف والتي لا تقوم على أساس علمي وشرعي، حتى يثبُت صِدْقُها يقيناً.
قد يقول البعض ما الفائدة من دراسة لغة الأرقام في القرآن الكريم لاسيما أن هناك علوماً قرآنية كالفقه والعبادات والأحكام والقصص والتفسير جديرة بالاهتمام أكثر؟
أولاً وقبل كل شيء يجب أن نبحث عن منشأ الاتجاه السائد لدى شريحة من الناس، ومنهم علماء وباحثون، للتقليل من شأن المعجزة الرقمية في القرآن الكريم. فنحن نعلم جميعاً الأهمية الفائقة للغة الأرقام في العصر الحديث، حتى يمكن تسمية هذا العصر بعصر التكنولوجيا الرقمية، فقد سيطرت لغة الرقم على معظم الأشياء التي نراها من حولنا. وبما أن القرآن هو كتاب صالح لكل زمان ومكان فلابدّ أن نجد فيه إعجازاً رقمياً يتحدّى كل علماء البشر في القرن الواحد والعشرين.
فالذين يظنون بأنه لا فائدة من الإعجاز الرقمي، إنما هم بعيدون عن تطورات العصر، وغالباً ليس لديهم اختصاص في الرياضيات. والغريب: كيف يمكن لإنسان لم يدرس الرياضيات أن ينتقد معجزة رياضية في كتاب الله؟!!
ولو أنه لا فائدة من هذه الأرقام فلماذا كان الرقم سبعة هو الأكثر تكراراً في كتاب الله بعد الرقم واحد؟ ولماذا عدد السماوات سبع، وقد تكررت عبارة (سبعسماوات، السماوات السبع) في القرآن كله سبع مرات بالضبط بعدد هذه السماوات؟
لماذا تكررت كلمة (القِبلة) سبع مرات في القرآن، ونحن نعلم بأن الطواف حولها هو سبعة أشواط؟ ولماذا جعل الله تعالى لجهنم سبعة أبواب، وجاء عدد مرات ذكر كلمة جهنم في القرآن (77) مرة، أي من مضاعفات الرقم سبعة؟
ولو كانت الأرقام لا معنى لها في القرآن فلماذا تكررت كلمة (الشهر) 12 مرة بعدد أشهر السنة، ولماذا تكررت كلمة (اليوم) 365 مرة بعدد أيام السنة؟ ولماذا جاء عدد مرات ذكر كلمة (الدنيا) في القرآن كله مساوياً لعدد مرات ذكر كلمة (الآخرة)؟ وقد تكررت كل كلمة من هاتين الكلمتين 115 مرة.
وحال المؤمن دائماً في لهفةٍ لجديد هذا القرآن وجديد إعجازه، وما يُعلي شأن كلام الله وشأن هذا الدين. أما عن الأخطاء وبعض الانحرافات التي وقع بها بعض من بحثوا في لغة الأرقام القرآنية فيجب ألا تثنيَنا عن دراسة هذا العلم الناشىء، بل يجب على المؤمن أن يسارع إلى معرفة الأخطاء ليتمكّن من تجنبها.
الإعجاز العددي: هل يصرف المؤمن عن معاني ودلالات الآيات؟
ولكن بعض علماء المسلمين يرون أن الاهتمام بعَّد كلمات وحروف القرآن قد يصرف المؤمن عن دلالات ومعاني الآيات، فالمؤمن بحاجة إلى فهم آيات القرآن من الناحية اللغوية ليهتدي بها إلى طريق الله تعالى.
هذا فهم خاطىء أيضاً! فكيف يمكن للخالق العظيم جلّ جلاله أن يضع شيئاً في كتابه ليصرف الناس عن فهم آيات هذا الكتاب؟!! إن كل حرف من حروف القرآن فيه معجزة تستحق التدبُّر والتفكُّر. وبما أن هذا القرآن صادر من عند الله تعالى فإن كل شيء فيه هو من عند الله، ولا ينبغي لمؤمن حقيقي راسخ في العلم أن يقول إن هذه المعجزة لا تعنيني لأنني مؤمن أصلاً، بل لسان حال المؤمن يقول دائما: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)!
إن تأمُّل كلمات القرآن وآياته وحروفَه من الناحية العددية يجعل المؤمن أكثر حفظاً واستحضاراً لهذه الآيات، وهذا الكلام عن تجربة طويلة تتجاوز عشر سنوات مع الإعجاز الرقمي. وبالرغم من أنني أنفق وقتاً طويلاً على دراسة وتأمُّل الإعجازات الرقمية لكتاب الله تعالى ، إلا أنني لم أنصرف عن دلالات هذه الآيات، بل على العكس اكتسبت شيئاً جديداً وهو الدقة في تلاوة هذه الآيات، والحرص على كل حرف من حروف القرآن، وأنه لا يجوز زيادة حرف ولا نقصانه.
إن محاولة تقليد القرآن رقمياً سيُخل بالجانب اللغوي، فلا يستطيع أحد مهما حاول
أن يأتي بكلام بليغ ومتوازن وبالوقت نفسه منظَّم من الناحية الرقمية، سيبقى النقص والاختلاف في كلام البشر، وهذا قانون إلهي لن يستطيع أحد تجاوزه، وهذا مانجد تصديقاً له في قول الحقّ تبارك وتعالىأَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء:82).
ففي هذه الآية دعوة لتأمّل التناسق في كلام الله تعالى، وتمييزه عن الاظطراب والاختلاف الموجود في كلام البشر. أليست هذه إشارة غير مباشرة لتدبُّر القرآن من الناحية البيانيّة والعددية؟
أما قولهم: لا أرقام ثابتة في القرآن يمكن بناء معجزة عليها، وأن الأرقام في القرآن الكريم هي مثار خلاف عند الكثير من العلماء والباحثين، وأن عدد قراءات القرآن عشر، وهذه المصاحف العشرة تختلف من حيث عدد الآيات لكل سورة. فكيف نسمي هذه الأرقام حقائق يقينيّة، وهي قد تختلف من مصحف إلى آخر؟
والجواب عن هذه الشبهة نجده في قول الله عز وجل عن القرآن الكريم: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(النساء:82). إذن في كتاب الله ليس هناك اختلاف، بل تعدّد القراءات وتعدّد الأرقام، وهذا يعني تعدّد المعجزات وزيادة في الإعجاز. ويمكنني أن أقول بأن الإعجاز الرقمي يشمل جميع قراءات القرآن، ويشمل جميع كلماته وحروفَه وآياته وسورَه، حتى النقطة في كتاب الله تعالى لها نظام مُعْجِزْ!
ولكن أبحاث الإعجاز العددي تقتصر حالياً على قراءة حفص عن عاصم، وهو المصحف الإمام، فهذه القراءة هي الأوسع انتشاراً في العالم الإسلامي، وهي الموجودة بين أيدينا اليوم. وحتى نكتشف معجزة جديدة يجب علينا إجراء دراسة مقارنة لهذه القراءات من الناحية الرقمية، والنتيجة المؤكدة لهذه الدراسة أن كل قراءة فيها معجزة خاصة بها. وأن وجود عدد من القراءات هدفه زيادة عجز البشر عن الإتيان بمثل هذا القرآن الذي قال الله عنه: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء:88).
وينبغي على كل مؤمن أن يعلم بأن القرآن متناسق في ألفاظه ومعانيه، وفي آياته وسوره، وفي بيانه ودلالاته، وفي عدد كلماته وحروفه. وقد يُخفي هذا التعدّد لقراءات القرآن معجزة عظيمة، بيانيّة وعددية، ولكن عدم رؤية المعجزة، لا يعني أبداً أنها غير موجودة، إنما يعني أن رؤيتنا نحن البشر محدودة.
وهنالك سؤال مهم: إلى أي حد تراعي أبحاث الإعجاز الرقمي لفظ كلمات القرآن الكريم، إذ كما نعلم أن القرآن نزل مقروءاً وليس مكتوباً؟
لقد لفت انتباهي هذا الأمر منذ زمن، وبعد تفكير وبحث طويلين أدركت بأن أي شيء في القرآن الكريم يُخفي وراءه معجزة. إن الذي يقرأ كتاب الله يرى أن طريقة رسم الكلمات وعدد الحروف المرسومة لا يساوي عدد الحروف الملفوظة (غالباً)، أي أن هناك تعدّداً في الأرقام، وتتعدد هذه الأرقام أكثر إذا لفظنا كلمات الآية باستمرار أو كل كلمة بمفردها. وأن هناك حروفاً تُكتب ولا تُلفظ ،وحروفاً أخرى تُلفظ ولا تُكتب.
وقد قمت بإجراء بحث داخل سورة الفاتحة (السبع المثاني)، وتبيَّن أن هنالك بناءً رقمياً عجيباً يقوم على الرقم سبعة لرسم هذه الكلمات كما رُسمت في القرآن، وبناءً آخر يقوم على الرقم سبعة أيضاً يشمل لفظ كلمات السورة. ومن هنا يمكن استنتاج الحقيقة المهمة وهي أن المعجزة تشمل رسم الكلمات ولفظها معاً ! وهذا يزيد في الإعجاز. ويكفي أن نعلم بان سورة الفاتحة وهي السبع المثاني تحوي أربعة عشر حرفاً مشدّداً (7×2)، وهذه الحروف تُكتب مرّة واحدة ولكنها تُلفظ مرّتين.
وهنالك من يبالغ في مسألة الإعجازالعددي فيربط بعض الأرقام القرآنية بأحداث سياسية أو تاريخية كزوال إسرائيل وأحداث الحادي عشر من أيلول والتنبؤ بقيام الساعة، ألا يُعتبر هذا أحد منزلقات الإعجاز الرقمي؟
إن المبالغات موجودة في كل العلوم، حتى في تفاسير القرآن، فقد تتعدد أراء العلماء حول تفسير بعض الآيات. وقد نجد تفسيرات متناقضة لبعض آيات القرآن، وقد نجد تفسيرات خاطئة أيضاً.
فمثلاً الذي فسَّر بأن الأرض مسطّحة وليست كرويّة تفسيره خاطىء، وفهمُه بعيد عن الواقع لقوله تعالى: (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية:20). والتفسير الصحيح لهذه الآية أنه يجب على المؤمن النظر إلى خلق الله وخصوصاً الأرض التي مهَّدها الله لنا، وجعلها مستوية أمامنا، فمَهما سرنا على سطحها نعود من حيث بدأنا، ولو أن الله تعالى جعلها مليئة بالحفر والتعرجات والمنحدرات مثل سطح القمر لتعذرت الحياة، وصعبت كثيراً ولكنها رحمة الله بعباده.
إن لغة الرقم هي اللغة التي نعبر بها عن الماضي والمستقبل، فنحن نعبر عن التواريخ بالأرقام كما نعبر عن الأعمال التي سنقوم بها مثل السفر أو الاستعداد لموسم الحج أو لشهر رمضان بالأرقام أيضا. وقد قال الله تعالى (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً)(الإسراء:12).
واليوم يتنبأ علماء الفلك بموعد حدوث كسوف الشمس أو القمر بدقة تامة، وهذا لا يُعدّ أمراً محرّماً. نعم الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكن هناك أشياء يمكن معرفتها بواسطة الحسابات، مثل الثقوب السوداء التي لا يمكن رؤيتها مطلقاً، ولكن يمكن حساب وتحديد بُعْدها عنا، ومقدار جاذبيتها، وسرعةحركتها بواسطة لغة الأرقام.
إذن المشكلة ليست في لغة الأرقام، بل في استعمال هذه اللغة بشكل علمي صحيح، فإذا ما جاء من يدّعي أنه استخرج من القرآن تاريخاً معيّناً أو حدثاً مستقبلياً، فإن عليه أن يأتي بالبرهان العلمي الذي لا يعارضُه أحد فيه.
حتى يكون البحث مقبولاً ويطمئن القلب إليه يجب أن يوافق العلم والشرع، أي يجب أن يحقق الضوابط التالية لكل عنصر من عناصره:
1- معطيات البحث: يجب أن تأتي من القرآن نفسه، ولا يجوز أبداً أن نُقحم في كتاب الله عزّ وجلّ مالا يرضاه الله تعالى.
2- طريقة معالجة المعطيات: يجب أن تكون مبنيّة على أساس علمي، وشرعي.فلا يجوز استخدام طرق غير علمية. لأن القرآن كتاب الله تعالى، وكما أن الله بنى وأحكم هذا الكون بقوانين محكمة، كذلك أنزل القرآن ورتبه وأحكمه بقوانين محكمة، وقال عنه: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود:1).
3- نتائج البحث: أما نتائج البحث القرآني فيجب أن تمثّل معجزة حقيقيّة لا مجال للمصادفة فيها وينبغي على الباحث في هذا المجال إثبات أن نتائجه لم تأت عن طريق المصادفة. وذلك باستخدام قانون الاحتمالات الرياضي.
إن أي علم ناشئ لا بد أن يتعرض في بداياته لشيء من الخطأ حتى تكتمل المعرفة فيه. وهذا أمر طبيعي ينطبق على المعجزة الرقمية القرآنية. وذلك لأن اكتشاف معجزة في كتاب الله تعالى أمر ليس بالهيِّن، بل يحتاج لجهود مئات الباحثين. وإذا ظهر لدى بعض هؤلاء أخطاء كان من الواجب على المؤمن الحريص على كتاب ربه أن يتحرَّى هذه الأخطاء ويصحِّحها لينال الأجر من الله تعالى في خدمة هذا الكتاب العظيم.
وإذا كان باعتقاد البعض أنه لا فائدة من دراسة لغة الأرقام القرآنية، فإن هذا الاعتقاد لا يستند إلى أي برهان علمي، بل جميع التطورات التي نشهدها في القرن الواحد والعشرين تؤكد على أهمية لغة الرقم في إقامة الحجة على كل من يُنكر صدق هذا القرآن.
إذن المعجزة الرقمية هي أسلوب جديد في كتاب الله يناسب عصرنا هذا. الهدف منه هو زيادة إيمان المؤمن كما قال تعالى: (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً)(المدثر:31). هذه المعجزة هي وسيلة أيضاً لتثبيت المؤمن وزيادة يقينه بكتاب ربه لكي لا يرتاب ولا يشك بشيء من هذه الرسالة الإلهية الخاتمة، كما قال تعالىوَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ).
ولكن الذي لا يؤمن بهذا القرآن ولا يقيم وزناً لهذه المعجزة ما هو ردّ فعل شخص كهذا؟ يخبرنا البيان الإلهي عن أمثال هؤلاء وردّ فعلهم: (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً). هذا هو حال الكافر يبقى على ضلاله حتى يلقى الله تعالى وهو على هذه الحال.
لذلك لا ينبغي للمؤمن الحقيقي أن يقول بأن المعجزة الرقمية لا تعنيني أو لن تؤثر على إيماني أو لن تزيدني إيماناً. بل يجب عليه البحث والتفكر والتدبر في آيات القرآن من جميع جوانبه. هذا القرآن سيكون شفيعاً لك أمام الله عندما يتخلَّى عنك كل الناس! فانظر ماذا قدمت لخدمة كتاب الله وخدمة رسالة الإسلام.
وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه
وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه