وكان لأمية الكناني ولد يقال له كلاب ، كبر بين يديه حتى أصبح شاباً فتياً يافعاً ، وكان كلاب هذا عابداً زاهداً باراً بوالديه ، فأحبه أمية أشد ما يحب الأب ابنه ، فتعلقت به نفسه.
وذات يوم نادى الخليفة عمر ابن الخطاب للخروج إلى الجهاد ، فجاءه أمية وقال : يا أمير المؤمنين ، إني والله أحب الجهاد في سبيل الله ، وما يمنعني اليوم من الخروج إليه إلا ضعف جسدي وكبر سني ، فقام ابنه الوحيد كلاب فقال : يا أمير المؤمنين ، أنا أبيع الله نفسي ، وأبيع دنياي بآخرتي ، فتعلق به أبوه وقال : لا تدع أبواك شيخين كبيرين ضعيفين ربياك صغيراً ؛ فما زال كلاب بأبيه يحاول فيه ويرضيه حتى أذن له بالخروج إلى الجهاد.
وخرج كلاب إلى الجهاد فغاب عن أبويه ، وكان أمية كل ما تذكر ولده كلاب بكى وبكت زوجته ، وذات يوم جلس أمية خارج بيته فرأى حمامة تطعم فراخها ، فتذكر ابنه كلاب وأخذ يبكي ، ثم أنشد قائلاً :
لمـن شيخـان قـد نشدا كلابا *** كـتاب الله لـو قبل الكتابا
أنـاديه فـيـعـرض في إباءٍ *** فلا وأبي كلاب ما أصابـا
إذا هتفـت حمامـة بطن وجٍ *** على بيضاتها ذكرا كلابـا
فـإنْ مهـاجـريـن تـكنافاه *** ففارق شيخه خطِأً وخـابا
تركـتَ أباك مـرعـشة يداه *** وأمك ما تسيغ لهـا شرابا
تنفـض مهـده شفقـاً عليه *** وتجنبه أباعرها الصعابـا
فإنك قـد تركـت أباك شيخاً *** يطارق أينقاً شـرباً طِرابا
فإنك والتماس الأجر بعــدي *** كباغي الماء يتبع السرابا
وازدادَ بكاء أمية على ولده حتى ضعف بصره – ويقال عمي بصره – فقال سأذهب إلى عمر وأقسم عليه أن يرد علي ابني ، فردته زوجته ، فنهرها وذهب ، فلما دخل على الفاروق ، أنشد أبياتاً يقول فيها :
أعاذل قد عذلتِ بغير علـمٍ *** ومـا تدرين عـاذل ما ألاقي
فإما كـنتِ عاذلـتي فردي *** كـلابـاً إذ تــوجه للعراقِ
فتى الفتيان في عسرٍ ويسرٍ *** شديدَ الركنِ في يـوم التلاقي
فـلا وأبيكِ ما باليت وجدي *** ولا شفـقي عليكِ ولا اجتهادِ
فلو فلقَ الفـؤاد شديد وجد *** لهـم سـواد قلبـي بانفلاقِ
سأستعـدِ على الفاروقِ رباً *** لـه دفـعُ الحجيج إلى بساقِ
وأدعــو الله مجتهداً عليه *** ببـطـنِ الأخشبين إلى بقاقِ
إن الفاروق لم يـردُدْ كلاباً *** إلـى شيخين هـامهما زواقِ
فتأثر عمر تأثراً بالغاً ، وأرسل إلى أمير الجيش في العراق أن يردد كلاباً ، فأمر أمير الجند كلاب أن يرجع إلى المدينة ، فرجع كلاب لا يدري ما الأمر ، ولا يدري لماذا خُص بهذا الخطاب ، ولما وصل المدينة ذهب إلى عمر ابن الخطاب قبل أبويه ، فقال له عمر : يا بني ما بلغ من برك بأبيك ؟ فقال كلاب : كنت أؤثره على نفسي وأكفيه أمره ، وكنت إذا أردت أن أحلب له لبناً أجيء إلى أغزر ناقة في إبلي فأريحها ، وأتركها حتى تستقر ، ثم اغسل ضروعها حتى تبرد ، ثم أحلب له فيخرج الحليب بارداً ، ثم أسقيه إياه ، فأرسل عمر إلى أمية أن يحضر إليه ، فجاء أمية يتهادى قد انحنى ظهره ، فلما جلس قال له عمر : يا أمية ، كيف تجدك ؟ فقال : كما ترى يا أمير المؤمنين ، فقال عمر : يا أبا كلاب ، ما أحب الأشياء إليك ؟ قال أمية : ما أحب اليوم شيء ، ما أفرح بخير ولا يسوءني شر ، فقال عمر : ومع ذلك يا أمية ما ذا تتمنى ؟ فقال أمية : بلى ، أتمنى كلاب ، أحب أنه عندي فأضمه ضمه ، وأشمه شمه ، فرق له عمر وقال : ستبلغ ما تحب إن شاء الله .
وأمر عمر كلاب أن يحلب الناقة كما كان يحلبها لأبيه ، ثم أخذ عمر الإناء الذي فيه الحليب وأعطاه لأمية وقال : اشرب يا أبا كلاب ، فلما قرب أمية الإناء من فمه ، توقف برهة وقال : يا أمير المؤمنين ، والله إني لأشم رائحة يدي كلاب ، فجاء عمر بكلاب لأمية وقال : هذا كلاب يا أبا كلاب ، فوثب أمية من مكانه وضم ابنه وهو يبكي ، فبكى كلاب لبكاء أبيه ، وبكى عمر لبكائهما ، وبكى الجميع حتى ضج المجلس بالبكاء.
وقال عمر لكلاب : يا كلاب ، الزم أبويك وجاهد فيهما ما بقيا ، ثم شأنك بنفسك بعدهما ، وأمر بعطاءه وصرفه مع أبيه.
وقال كلاب يبين أنه لم يترك أبويه لدنياه ، وإنما تركهما لآخرته :
لعمركَ ما تركتُ أبا كلابٍ *** كبير السن مكتئباً مصابا
وأماً لا يـزالُ لهـا حنينُُ *** تناديني بعد رقدتها كلابا
ولكني رجوت به ثوابا
الموضوع مليء بالفوائد والعبر ، وأعظم فائدة يعلمنا إياها الفاروق ، أن أجر بر الوالدين أعظم عند الله من أجر المجاهد في سبيل الله على ما له من فضل عظيم
جزاكى الله خيرا ياجميل