الحمد لله الذي جعَل الصلاة أحدَ أركان الإِسلام، وخصَّها مِن بيْن سائرِ الأعمال بخصائص، وميزها بميزاتٍ لا بدَّ منها، أحمده حمدًا كثيرًا وأشكره، والشكر له مِن نعمه، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحْده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، الذي قال: ((وجُعِلت قُرَّة عيني في الصلاة))[1]، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحابته السائرين على نهْجِه وسُنته، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا عباد الله:
اتَّقوا الله – تعالى – واعلموا أنَّ شأن الصلاة عظيم، وأنَّ التساهل فيها مِن علامات النقص والخذلان، فقد خفَّ أمرُها عندَ الكثير من المسلمين، وأصبح لا يُؤدِّيها إلا عندَ الفراغ من شواغل الدنيا، وإذا صلاَّها فإنَّه لا يُتمُّ ركوعَها وسجودها، وكأنَّها عادةٌ لا عبادة، هذا عندَ الكثير ممَّن يُصلِّيها، أما مَن يتركها بالكلية فذاك قد خسِر دنياه وأُخراه، وذلك هو الخسرانُ المبين.
فيا عباد الله:
إنَّ شأنَ الصلاة عظيم؛ وهي آخِر ما يُفقَد من الدِّين، فمَن فقدها فقد دِينَه.
قال – سبحانه وتعالى -: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ [مريم: 59- 60].
وفي الحديثِ عن جابرٍ – رضي الله عنه – قال: سمعتُ رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: ((بيْن الرَّجُل وبين الشِّرْك والكفر ترْكُ الصلاة))[2]، ويقول – جلَّ وعلا -: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [الماعون: 4 – 5].
لقدْ فَقَدَ الكثيرُ ممَّن يؤديها ثمرتَها ولُبَّها، فهو يُصلِّيها جسمًا بلا رُوح، قد شُغِل عنها وعن وقتها، وإذا أفاق صلاَّها بلا خشوعٍ ولا طُمأنينة، ولو سألته بعدَ انتهائها كم صلَّى؟ وأي سورة قرأ؟ لم يُجِبْك، المهم أنَّه صلى!
فيا عباد الله:
إنَّ الصلاة بلا خشوع كالجِسم بلا رُوح، يقول – سبحانه وتعالى -: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1-2]، ويقول: ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45].
وعن أبي قتادةَ – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أسوأُ الناس سَرِقةً الذي يسرِق مِن صلاته))، قالوا: يا رسول الله، كيف يسرِق مِن الصلاة؟ قال: ((لا يُتِمُّ ركوعَها ولا سجودها))، أو قال: ((لا يُقيم صُلْبَه في الرُّكوع والسجود))[3].
ورُوي عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن صلَّى الصلواتِ لوقتها، وأسبغ لها وُضوءَها، وأتمَّ لها قيامَها وخشوعها وركوعها وسجودها، خرَجَتْ وهي بيضاء مُسفِرة تقول: حفِظَك الله كما حفِظتَني، ومَن صلاَّها لغير وقتِها ولم يسبغ لها وضوءَها، ولم يتمَّ لها خشوعها ولا رُكوعَها ولا سجودها، خرجتْ وهي سوداءُ مظلِمة تقول: ضيَّعك الله كما ضيعتَني، حتى إذا كانتْ حيث شاءتْ لُفِّتْ كما يُلفُّ الثوب الخَلَق ثم ضُرِب بها وجهه))[4].
عباد الله:
إنَّ المصابَ مصابُ الدين، ومِن المأسوفِ له أنَّ الكثير ممَّن يُصاب في دِينه لا يحس بهذه المصيبة، ولا يشعر مِن الآخرين بأنه مصابٌ، وكأنَّ المصيبة عندَه وعندَ الآخرين أن يُصاب في ماله وولده، أمَّا مصيبة الدِّين، أما الكَسْر الذي لا يُجبَر فلا يُعدُّ مصيبة، إنَّ جيلًا قد وصلتْ به الحال إلى هذه الحال لا شكَّ أنَّه مصاب، ومصيبته عظيمة.
فعلينا جميعًا أن ننتبهَ لهذه المصيبة، وأن نُعالجها بالدواء النافِع الشافي، وذلك بالرجوع إلى الله، والامتثال لأوامره والاجتنابِ لنواهيه، والسَّيْر على سُنَّة نبيِّه – صلَّى الله عليه وسلَّم – فإنَّ في ذلك الدواءَ والتحذُّرَ كلّ الحذر مِن التمادي في الشرور، والتساهل بالأمراض التي أخذت تَفْتِك في الدِّين وتتغلغل في جِسم الأمَّة المسلِمة وتَفْتِك به، فما أحوجَنا إلى التنبُّهِ والاستعداد والمكافحة! فإنَّ العدوَّ لا يغفل وإنْ غفلنا.
فحاسِبوا أنفسكم، وتفقدوا أحوالكم، واعرضوا وضعَكم على تَعاليمِ دِينكم؛ لتعرِفوا أخطاءَكم، وتُصحِّحوا ما فسَد مِن أوضاعكم، فإنَّ الرجوع للحقِّ فضيلة، وإصلاح ما فسَد واجب، وعلاج الأمراض مطلوبٌ، ولن تستقيمَ أحوالكم إلا بذلك.
أعوذ بالله مِن الشيطان الرجيم، قال الله العظيم: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 36-37].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإيَّاكم بما فيه مِن الآيات والذِّكْر الحكيم، وتاب عليَّ وعليكم إنَّه هو التوَّاب الرَّحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين مِن كل ذنب، فاستغفروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
واعلموا – رحِمكم الله – أنَّ مِن المصائب العظيمة التي حلَّتْ بالمسلمين اليوم التهاونَ بالصلاة، وقِلَّة الاهتمام بها، وعدم المحافظة على أدائها مع الجماعة في المساجِد، والله – سبحانه وتعالى – يقول: ﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: 43].
ويقول – جلَّ وعلا -: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [التوبة: 18].
وفي الحديثِ عن رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنه قال: ((إذا رأيتُم الرجلَ يعتاد المساجدَ فاشهدوا له بالإِيمان))[5].
وعن ابن مسعودٍ – رضي الله عنه – قال: ((مَن سَرَّه أن يَلقَى الله – تعالى – غدًا مسلمًا، فليحافظْ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بِهنَّ، فإنَّ الله شَرَع لنبيِّكم – صلَّى الله عليه وسلَّم – سُننَ الهُدى، وإنهنَّ مِن سُنن الهدى، ولو أنَّكم صليتُم في بيوتكم كما يُصلِّي هذا المتخلِّف في بيته لتركتُم سُنَّة نبيكم، ولو تركتُم سُنَّةَ نبيكم لضللتم، ولقدْ رأيتُنا وما يتخلَّف عنها إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقدْ كان الرجل يُؤتَى به يُهادَى بين الرَّجُلين حتى يقامَ في الصف))[6].
فيا عباد الله:
ويامَن هانتْ عليهم الصلاة، وتخلَّفوا عن أدائها مع الجماعة اتَّقوا الله في أنفسكم، واتَّقوا الله من صِفات المنافقين، الذين قال الله فيهم: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾ [النساء: 145].
اتَّقوا الله وتوبوا إليه قبلَ أن يُحال بينكم وبين التوبة، قبل أن يَنزِل بكم ما لا تستطيعون دفْعَه فيقال: فلان مات، وما يُدريك متى يكون ذلك، فارجعوا إلى الله وتُوبوا إليه.
__________________________________
[1] أخرجه النسائي (3940)، وأحمد (3/128، 199، 285).
[2] أخرجه مسلم (82).
[3] أخرجه أحمد في مسنده (5/310)، والحاكم في مستدركه (1/229). وقال: صحيح الإِسناد، وصحَّحه الألباني؛ انظر صحيح الترغيب (525).
[4] أخرجه أحمد في مسنده (4/147)، وأخرجه المنذري في الترغيب (1/258).
[5] أخرجه ابن ماجه (802)، والإمام أحمد في مسنده: (3/68).
[6] سبق تخريجه (ص: 29).