من كان يصدّق أن العرب الذين كانوا مجرّد قبائل متناحرة ، ليس لهم كيانٌ يُذكر ، ولا أيّ قدرةٍ على مواجهة الأخطار الخارجيّة ، سيأتي عليهم يومٌ يتوّحدون فيه ، وتكون لهم دولة مستقلّة ، ويجابهون أعظم قوّةٍ في ذلك الزمان ، ويغزونها في عقر دارها ؟ .
إنّ ذلك لم يكن ليتحقّق إلا في ظلّ رسالة الإسلام ، والتي أصبح المسلمون من خلالها قوةً يحسب لها الآخرون ألف حساب ، حتى استطاعوا أن يعودوا إلى مكّة فاتحين خلال ثمان سنين من هجرتهم ، ليستقبلوا أفواج الناس التي أقبلت للدخول في دين الله .
فبعد استقرار الوضع الداخليّ في مكّة ، توجّه النبي – صلى الله عليه وسلم – بالنظر إلى الخارج لإكمال مهمّة الدعوة والبلاغ ، خصوصاً وأنّ الأنباء كانت قد وصلت إليه أنّ الروم بدأت بحشد قوّاتها لغزو المسلمين ، فأراد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يبادرهم بالخروج إليهم ، في غزوة عرفها التاريخ باسم " غزوة تبوك " .
وقد جاءت تسمية هذه الغزوة من " عين تبوك " التي مرّ بها المسلمون وهم في طريقهم إلى أرض الروم ، وسُمّيت أيضاً بــ" غزوة العسرة " لما اجتمع فيها من مظاهر الشدّة والعسرة، حيث حرارة الجوّ ، وندرة الماء ، وبعد المكان ، وفوق هذا وذاك كان المسلمون يعيشون حالة من الفقر وضيق الحال ، وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الحال في قوله تعالى : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة } ( التوبة : 117 ) .
ونظراً لتلك الظروف الصعبة ، استقرّ رأي النبي – صلى الله عليه وسلم – على التصريح بجهة الغزو على غير عادته ، وذلك لإدراكه بعد المسافة وطبيعة العدوّ وحجم إمكاناته ، مما يُعطي الجيش الفرصة الكاملة لإعداد ما يلزم لهذا السفر الطويل ، إضافةً إلى إن وضع الدولة الإسلامية قد اختلف عن السابق ، حيث تمكّن المسلمون من السيطرة على مساحاتٍ كبيرةٍ من الجزيرة العربية ، ولم يعد من الصعب معرفة وجهتهم القادمة .
وهكذا أعلن النبي – صلى الله عليه وسلم – النفير ، وحث الناس على الإنفاق في سبيل الله قائلاً : ( من جهّز جيش العسرة فله الجنة ) رواه البخاري ، فاستجاب الصحابة لندائه ، وضربوا أروع الأمثلة في البذل والعطاء ، فأما عثمان بن عفان رضي الله عنه فانطلق مسرعاً إلى بيته وأخذ ألف دينار ووضعها بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، وتكفّل بثلاثمائة بعير بكامل عدّتها ، فاستبشر النبي – صلى الله عليه وسلم – من فعله وقال : ( ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم ) رواه الترمذي .
وحاول عمر بن الخطاب أن يسبق أبا بكر فأتى بنصف ماله ، وإذا بأبي بكر رضي الله عنه يأتي بكل ما عنده دون أن يُبقي لأهله شيئاً ، فقال عمر رضي الله عنه : " والله لا أسابقك إلى شيء أبداً " .
وتصدّق عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بألفي درهم ، إلى جانب الصدقات العظيمة التي قدّمها أغنياء الصحابة كالعباس بن عبد المطلب ، و طلحة بن عبيد الله ، و محمد بن مسلمة ، و عاصم بن عدي ، رضي الله عنهم أجمعين .
وكان لفقراء المسلمين نصيبٌ في الصدقة ، حيث قدّموا كل ما يملكون في سبيل الله مع قلّة ذات اليد ، فمنهم من أتى بصاعٍ من تمر ، ومنهم من جاءّ بنصف صاعٍ أو أقلّ .
ووقف علبة بن زيد رضي الله عنه ينظر إلى جموع المسلمين ، وهي تتسابق على الإنفاق والصدقة ، والحسرة تملأ فؤاده حيث لم يجد ما يتصدّق به ، فلما جاء الليل وقف يصلّي ويبكي ، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: " اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ، ورغّبت فيه ، ثم لم تجعل عندي ما أتقوّى به مع رسولك ، وإني أتصدّق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال أو جسد أو عرض " ، وفي الصباح سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( أين المتصدق هذه الليلة ؟ ) ، فلم يقم أحد ، فأعاد النبي – صلى الله عليه وسلم – مرّة أخرى فلم يقم إليه أحد ، فشعر علبة رضي الله عنه أنه المقصود بذلك ، فقام وأخبره الخبر ، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم – : ( أبشر ، فوالذي نفس محمد بيده لقد كُتبت في الزكاة المتقبلة ) .
واستغلّ المنافقون هذه المواقف المشرّفة للسخرية من صدقات الفقراء ، والتعريض بنوايا الأغنياء ، وقد كشف القرآن عن خباياهم فقال سبحانه : { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ، والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر اللّه منهم ولهم عذاب أليم } ( التوبة : 79 ) .
كما حاولوا أن يصدّوا الناس عن الخروج ، بالترهيب من لقاء العدوّ تارةً ، والترغيب في الجلوس والإخلاد إلى الراحة تارةً أخرى ، خصوصاً أن الغزوة كانت في وقت شدّة الحرّ وطيب الثمر .
ولم يتوقّف كيد المنافقين عند هذا الحدّ ، بل قاموا ببناء مسجد في أطراف المدينة ليكون مقرّاً لهم ، يدّبرون فيه المؤامرات للقضاء على الإسلام وأهله ، وطلبوا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يصلّي فيه كنوعٍ من التمويه والخداع ، لكنّ الله بيّن لنبيّه حقيقة نواياهم ، ونهاه عن الصلاة في مسجدهم .
واجتمع مع النبي – صلى الله عليه وسلم – ثلاثون ألف مقاتل من المهاجرين والأنصار وغيرهم من أبناء القبائل العربيّة ، ودفع باللواء إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقام بتقسيم الجيش إلى عددٍ من الألوية ، وعيّن على كلٍ منها قائداً ، ثم استخلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليقوم برعاية أهله , فشقّ عليه أن تفوته هذه الغزوة ، فذهب إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يستأذنه في الخروج ، فقال له عليه الصلاة والسلام: ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ ، غير أنه لا نبي بعدي ) رواه البخاري .
وجاء الفقراء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يطلبون منه أن يعينهم بحملهم إلى الجهاد ، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يعتذر بأنّه لا يجد ما يحملهم عليه من الدوابّ ، فانصرفوا وقد فاضت أعينهم أسفاً على ما فاتهم من شرف الجهاد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فخلّد الله ذكرهم إلى يوم القيامة ، وأنزل فيهم قوله: { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ، ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون } ( التوبة : 91 – 92 ) ، وكانت رغبتهم الصادقة في الخروج سبباً لأن يكتب الله لهم الأجر كاملاً ، فقد جاء في صحيح البخاري أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ؛ حبسهم العذر ) .
أما المنافقون فقد تخلّف معظمهم عن الغزو ، وقاموا بادّعاء الأعذار الكاذبة ، فمنهم من اعتذر بعدم القدرة على السفر ، ومنهم من اعتذر بقلّة المتاع ،ومنهم من اعتذر بشدّة الحرّ ، ومنهم من اعتذر بإعجابه بالنساء ، وخوف الفتنة بنساء الروم ، فقبل النبي – صلى الله عليه وسلم – أعذارهم ، وأنزل الله آياتٍ في سورة التوبة تفضح أمرهم ، وتكشف حقيقة كذبهم ، وتنذرهم بالعذاب الأليم .
وانطلق الجيش بقيادة النبي – صلى الله عليه وسلم – نحو الشمال ، وفي الطريق مرّوا على ديار ثمود ، فسارع بعض المسلمين ليروا مساكنهم ، ويقفوا على آثارهم ، وبلغ ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فدعا الناس ثم قال لهم : ( لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، إلا أن تكونوا باكين ؛ حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ) ، ثم أمرهم بالإسراع في الخروج ، فأخبره الصحابة أن بعضهم قد تزوّدوا بالماء للشرب وصنع العجين ، فأمرهم بإراقة ذلك الماء ، وإطعام العجين للدواب ، إلا أنه استثنى ما أخذوه من بئر ناقة صالح عليه السلام .
وبدأت المعاناة بسبب نقص المياه ، وشدّة الحرارة ، وقلّة الرواحل ، حتى إن البعير الواحد كان يتناوب عليه الجماعة من الرجال ، واضطرّ بعضهم إلى أكل أوراق الشجر ونحر الإبل ليشربوا ما في بطونها ، وبعد أن بلغ بهم الجهد مبلغاً عظيماً شكوا ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فدعا ربّه بنزول المطر ، ولم يكد ينتهي من دعائه حتى أمطرت السماء وارتوى الناس ، وكانت هذه المعجزة تثبيتاً للمؤمنين وتخفيفاً لمعاناتهم .
وكان أبو ذرّ الغفاري رضي الله عنه قد تأخّر عن الجيش ، فبحث عن راحلةٍ تمكّنه من اللحاق بهم ، فلم يجد سوى راحلةٍ هزيلة ، فلما أبطأت به وخشي أن يتأخّر ، أخذ متاعه وحمله على ظهره ، ومشى على قدميه حتى اقترب من الجيش ، فرآه أحد الصحابة فقال : " يا رسول الله ، هذا رجلٌ يمشي على الطريق " ، فقال – صلى الله عليه وسلم – : ( كن أبا ذر ) ، فلمّا تأمّله القوم قالوا : " يا رسول الله ، هو والله أبو ذرّ " ، فقال عليه الصلاة والسلام: ( رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويُبعث وحده ) رواه الحاكم .
وكان ممن تخلف عن الغزو في أوّل الأمر ، أبو خيثمة الأنصاري رضي الله عنه ، حيث لم يستطع أن يحمل نفسه على الخروج ، وفي يومٍ من الأيام دخل بستاناً له ، ورأى زوجتيه وهما يعدّان له المكان الظليل والماء البارد ، فاستيقظ ضميره ، وعاتب نفسه ، كيف يجلس في الظلّ والنعيم ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعاني شدّة الحرّ ومشقّة الطريق ؟ ، فندم وأخذ سلاحه وركب دابّته، حتى أدرك النبي – صلى الله عليه وسلم – في تبوك ، وذهب إليه معتذراً , فعاتبه النبي – صلى الله عليه وسلم – على ما كان منه ، ثم عفا عنه ودعا له بخيرٍ .
وعندما وصل الجيش إلى تبوك ، لم يجدوا أثراً للروم أو القبائل الموالية ، فبعث النبي – صلى الله عليه وسلم – سريّةً بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى دومة الجندل ، وغنموا عدداً كبيراً من المتاع والأنعام ، واستطاعوا أن يأسروا ملكها " أكيدر بن كندة " ، وأتوا به إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ، فصالحه على دفع الجزية ، ثم أطلق سراحه .
ومكث النبي – صلى الله عليه وسلم – في تبوك عشرين يوماً ، يستقبل الوفود التي جاءت للمصالحة ودفع الجزية من أهل " جرباء وأذرح "وغيرهما ، وكان منهم وفد ملك " أيلة " الذي بعث بهديّةٍ من كساء وبغلة بيضاء ، فقبلها النبي – صلى الله عليه وسلم – .
وبعد أن تحقّق المقصود من الغزو ، عاد الجيش الإسلاميّ إلى المدينة ، فلما اقترب منها خرجت جموع النساء والأطفال لاستقبال النبي – صلى الله عليه وسلم – والاطمئنان على سلامته ، ثم توجّه النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى مسجده وصلّى فيه ركعتين ، ثم جلس مع الناس ، وجاءه المنافقون يعتذرون إليه ، فقبل أعذارهم وأوكل سرائرهم إلى الله ، وحضر إليه الثلاثة الذين خُلّفوا عن المعركة فلم يقبل أعذارهم ، ونهى الناس عن مخالطتهم والكلام معهم ، حتى أنزل الله توبتهم .
هذه هي أحداث آخر غزوة للنبي – صلى الله عليه وسلم – ، استطاع من خلالها إسقاط هيبة الروم ، وتوطيد سلطان الإسلام في الجزيرة ، وإيصال رسالة إلى قبائل العرب بمقدار القوّة التي بلغها المسلمون ، الأمر الذي كان له أعظم الأثر في استجابتهم لدعوة الحق وقبولهم للإسلام بعد ذلك .
موقع مقالات اسلام ويب