أعجب من قصتها ما كتبه المستشار .. فإلى القصة والاستشارة :
سيدي أكتب لك وأناشدك ألا تقسو علينا, فنحن بنات قسا الزمن علينا طويلا, وأرواحنا ـ كما أجسادنا ـ كلها ندبات وجروح.
نحن ست بنات, خمس شقيقات, والصغيرة من أم أخرى.. عشنا أيام طفولتنا وصبانا في عذاب لا يمكن وصفه أو تخيله بسبب قسوة أب تجرد من كل مشاعر الإنسانية, ولم نهنأ, أو نغمض عيوننا إلا بعد موته الغريب والمفاجئ, موته استمر5 سنوات.
دعني استرجع معك ذكرياتنا التي لا تفارقنا لحظة, فكل ألم عليه شاهد في الروح والبدن. استيقظت عيوننا منذ الميلاد, على أم كسيرة, باكية دائما, وأب لم نره في البيت إلا في يده سلك كهرباء عار, تنهال سياطه على أجسادنا, إذا بدر منا أي صوت.. هل يمكن تخيل طفل لا يبكي؟.. نعم, نحن, كنا نعي أن البكاء حتى في الأشهر الأولي يعني ألما غير مفهوم من يد شبح, لم نكن نعرف ماذا يمكننا أن نناديه.
أتذكر الآن, عندما كان عمري5 سنوات, أمي حامل في شهورها الأولي, كانت تستحم, سقطت في الحمام, فأخذت تستغيث بصوت منخفض حتى لا توقظ أبي النائم, ولكنه للأسف استيقظ مع بكائها, هل يمكن أن تتوقع ماذا فعل؟ لا أنسى ملامح وجهه في ذلك اليوم, ملامح شيطانية مفزعة, لم يثنه دمها المراق علي الأرض, لم يفزعه, إنهال عليها ضربا ورفسا في بطنها وشدها من شعرها خارج الحمام, ونحن نبكي ونصرخ رعبا, حتى تجمع الجيران, وأخذها أحدهم فاقدة الوعي إلى المستشفى, بينما توجه هو إلى غرفة نومه. يومها أصبت أنا الأخرى بانهيار عصبي وظللت مريضة فترة طويلة.
سيدي.. هل لك أن تتخيل ماهو جزاء أي واحدة فينا, لو لم تتفوق في المدرسة؟.. يحلق شعرها, ويغرس وجهها في صفيحة الزبالة ثم ينهال عليها ضربا بالسلك العاري حتى تفقد وعيها من شدة الألم.
لم يكن أبي ينفق علينا, ولا تظن أنه كان فقيرا, بل كان كما يقولون يلعب بالفلوس لعب, معه أموال كثيرة من تجارة الغلال, ولكنه كان يأمرنا بالعمل ونحن أطفال لنشتري ملابس المدرسة, وننفق على أنفسنا. كنا نمسح سلالم أقاربنا والجيران مقابل أجر.. أما أمي فقد اشترى لها إخوالي ماكينة خياطة, إضافة إلى عملها في مصنع مجاور لمنزلنا حتى تنفق علينا.
اقترح اخوالي على والدتي أن تترك له البنات الكبار, وتذهب معهم بالبنات الصغار, ولكن أمي رفضت خوفا على الكبار والصغار من بطشه وجبروته, فقد كانت ترى في وجودها بعض الحماية لنا.
سيدي.. لايمكن لأحد تخيل معنى الذل والحرمان مثل الذي يعانيهما.. لن يستوعب أحد معنى استحالة أن تتحرك من موقعك في البيت أو تمشي حافيا لأن والدك نائم. لن يفهم أحد معنى أن ترتدي طوال العام ـ صيفا وشتاء ـ فستانا ممزقا, وتأكل رغيفا واحدا, وتنام الليل خائفا, وتصحو النهار مذعورا.
لك أن تتخيل كل شيء, كل أنواع العذاب والقهر والألم, فليست أزمتنا الآن فيما فات, ولكن دعني أكمل لك:
منذ14 عاما, أصيبت أمي بنزيف حاد, مما أغضب أبي, فانهال عليها ضربا, واستنجدنا بأخوالي, نقلناها إلى المستشفى, ولكن قضاء الله كان أسرع.. ماتت أمي.. كلمة الحنان في الحياة, ورفض القاسي تسلم جثتها حتى دفنها أخوالي. وفي الأربعين دخل أبي علينا البيت وفي يده مطلقة عمرها20 عاما قال إنها زوجته.. وقتها كنت أعيش معه أنا وشقيقتي الصغرى, بعد زواج شقيقاتي. جمعنا أبي وقال لنا: لو شكت لي منكم كلمة, فسأضع سلك الكهرباء في عيونكما, وفرغ شقيقتي من عملها في مقلاة اللب لتخدم زوجته الجديدة, أما أنا فكنت أسارع بالعودة من عملي, حتى أنظف البيت وأطهو لهما الطعام.
المهم التفاصيل متعددة, ولكن الأهم أن أبي تزوج ثلاث مرات بعد أمي, وآخر واحدة حملت رغما عنه فطلقها, وعاش بدون زواج حتى حدث الآتي:
سيدي.. منذ8 سنوات, ذهب والدي لأداء العمرة ولم يعد.. انقطعت أخباره عن الجميع منذ سفره.. توجه أعمامي عدة مرات إلي السفارة السعودية يسألون عنه بلا جدوى.. لا يعرف أحد له طريقا. هل تدري كيف كان إحساسنا مع كل يوم نتأكد من غيابه؟..أصابتنا كريزة ضحك, صرخنا زمن العذاب انتهى, روحة بلا رجعة..5 سنوات عشناها على أعصابنا حتى أقمنا دعوى أمام المحكمة لاعتباره مفقودا وعملنا إعلام وراثة. بعدها فقط بدأنا نشعر أننا آدميون.. انطلقنا في الشقة, مزقنا صوره, ألقينا بملابسه في صناديق القمامة, حتى الملاية التي كان ينام عليها والبطاطين التي استخدمها, شبشبه, الأكواب التي كان يشرب فيها, الكرسي الذي جلس عليه, كله حطمناه, تخلصنا منه, أتعرف ما الذي كان يؤلمنا ويعذبنا؟ أنه مات بدون عذاب, لم يعش أمامنا ذل المرض.
حصلنا على أمواله التي حرمنا منها واكتنزها في البنك, كل واحدة فينا بدأت تتحدث عن أحلامها, واحدة ستشتري ذهبا, والأخري تشتري محلات ملابس, والثالثة تشتري سوق الخضار واللحوم, وهكذا بدأنا في تنفيذ أحلامنا, لا يعكر صفو حياتنا سوى منازعات أعمامنا فيما هو حق لنا.
سيدي.. كان كل شيء يسير طبيعيا حتى جاء هذا اليوم.. في شهر رمضان الماضي دعتني زميلتي إلى عقد قرانها, وفيما أنا في طريقي إلى القاعة, لا أدري ما الذي دفعني للنظر خلفي, هل يمكن تصور من كان يجلس على الأرض؟.. إنه أبي, رجل عجوز ممزق الملابس, لا يمكن, هل عاد أبي, أصابني الفزع واستعدت كل تاريخي, اختبأت, خشيت أن يراني, ثم توجهت إليه وأنا ارتجف, نظرت إليه فلم يعرني اهتماما, استيقظت على نداء صديقاتي, فحضرت عقد القران, ثم توجهت إلى إمام المسجد وسألته: هل تعرف هذا الرجل, فقال لي إن أحد أقاربه أتي به منذ فترة من القاهرة وأخبرنا أنه كان يعالج في المستشفي, ويخدم في المسجد, ويغسل السلالم في العمارات المجاورة.
هل يمكن تخيل ذلك, والدي الذي كان يصحو العصر من نومه, ويرتدي أفخر الثياب, يمسح السلالم ويجلس على الأرض. طلبت من الإمام أن يدعوه, وسألته إيه حكايتك فقال لي, إنه كان في مستشفي في السعودية, والسفارة هناك أخبرته أنه مجهول الاسم, وهو لا يتذكر أي شيء عن شخصيته, وعملوا له وثيقة سفر ورحلوه لمصر.. هو يحكي وأنا أستعيد كل المشاهد القديمة تفصيليا.. بكيت وبكيت, لم أعرف لماذا أبكي, هل هذا الرجل المنكسر الذي ينظر لي بمحبة وحزن هو أبي الظالم..
يمد يده ليأخذ مني بعض النقود, أتذكره وهو يقذف في وجهي صينية الطعام لأني نسيت شيئا, يعيدني صوته وهو يدعو لي : ربنا يطعمك ما يحرمك. سألته : مش فاكر أنت كنت إيه زمان؟ وأرد في نفسي : كنت شريرا, قاسيا, بتضرب بسلك الكهرباء والشلوت ومسمينا الحلاليف. نظر إلي طويلا وقال : أنا حاسس إن ربنا بيعاقبني على شيء عملته وغضبان علي. لا أعرف من أين أتيت بهذه الدموع, هل كنت أبكي عليه أم لأنني تذكرته وهو يجر أمي من شعرها وهي تنزف.. أتذكره وهو يرفض الذهاب إلى المستشفي لدفنها.
عدت إلي البيت, دعوت شقيقاتي وحكيت لهن ما حدث, لم يصدقن ما سمعنه, فقررنا استدعاء محامينا, واتفقنا على الذهاب إليه لرؤيته.. إندفعنا نحوه, كادت واحدة تناديه بابا منعناها.. جلسنا معه وبدأ المحامي يحكي لي حكايتنا مع أبينا ـ الذي هو الجالس أمامنا ـ تعمدنا ذكر بعض كلماته مثل الحلاليف حتي نتأكد من ذاكرته, فوجئنا به يبكي ويقول : كيف لأب يفعل ذلك في بناته, أنا كان نفسي يكون لي بنات مثلكم.. قالت له أختي : مش يمكن ولادك لو عرفوا إنك عايش يتبروا منك, نظر إليها باندهاش قائلا : ليه يابنتي إنت قاسية قوي كده.
المهم سيدي.. عدنا إلي البيت أكثر حيرة, جاء خالي لنا وأخبرناه, فقال إنه لابد أن يعود إلى بيته, فهذا حقه.. وقال المحامي : إنه لو عاد سيستعيد أمواله منكن, أعمامكم سيرفضون, وسيقدر عليكن, ولو عالجناه, قد يعود إلى ما كان عليه وينتقم منكن. قلنا مرة ثانية عذاب وذل وبهدلة.
اتفقنا أن نذهب له كل شهر, نمنحه صدقة تكفيه وطعاما وملابس.. فكرنا في إدخاله مستشفي والانفاق عليه ولكن خشينا أن يشفي ويفهم ما فعلناه به فينتقم منا. سيدي.. عقولنا ترفض عودته, ولكن ضميري يؤلمني, صوت في داخلي يقول لي : إرحمي عزيزا ذل, إرحمي آباك في شيخوخته, يكفي ما يراه من عذاب, يغسل سلالم العمارات في عز الشتاء, ألا يكفي انتقام الله.
منذ أيام ذهبنا إليه وجدناه مريضا في حجرة متواضعة بجوار المسجد, وقال لنا إمام المسجد : إن الطبيب أخبرهم بمرضه بالسكر والضغط وماء على الرئة.. أهل الخير أحضروا له الدواء.. وجدت بجواره كيسا فتحته وجدت به خبزا عفنا.. أتألم له ومنه.. أتذكر ذات صباح عندما استيقظ من النوم فلم يجد خبزا طازجا, ففتح رأس أمي بغطاء ماكينة الخياطة.. وها هو اليوم يأكل خبزا عفنا.. إن الله بحق يمهل ولا يهمل!.
سيدي.. نعيش في أزمة بين ضمائرنا وبين ذكرياتنا المؤلمة.. نعجز عن الاتفاق على قرار.. فقررنا الاحتكام إليك, لعلك تساعدنا على اتخاذ القرار السليم بدون أن تظلمنا!.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
وهذا رد المستشار
هنا يظهر الفرق بين من ينطلق دائماً من الأصول الشرعية وبين من يبني آرائه على العواطف ومشاعر الآخرين
سيدتي
ألتمس الأعذار لمن يرى الظلم ويعاني منه, وتغيب أو تتأخر عدالة الله سبحانه وتعالى ـ لحكمة يعرفها ـ عن أنظار العباد.. ولكن عندما يأتي عقاب الله وإنتقامه من الظالم أمام عيني المظلوم وفي حياته, أتساءل كيف لهذا المظلوم أن ينقلب إلى ظالم غافلا عن عدالة الخالق العظيم الذي يمهل ولا يهمل.
سيدتي.. من يقرأ الجزء الأكبر من رسالتك, لابد أن يغضب ويتألم ويطالب بالقصاص من مثل هذا الأب, ومن يقرأ الجزء الأخير, لابد أن يتمهل ويعيد النظر إلى الصورة مكتملة قبل أن يصدر حكمه بدون قسوة أو اندفاع عاطفي.
أعتقد أنك لست في حاجة الآن للتعبير عن الرفض الكامل لسلوكيات والدك قبل فقدانه لذاكرته..فمهما كانت الكلمات فلن تعبر عن الألم والمهانة التي تعرضتم لها جميعا من سلوكيات هذا الأب, والذي لولا نهايته, لكان الكلام فيها لا ينتهي, فما فعله بعيد عن الإنسانية كل البعد, وليس فقط بعيدا عن الأبوة.
ستقولين إنه الماضي الذي يعيش فيكن حتى الآن, ولكن الآن ليس أمامك إلا التعامل مع الحاضر من أجل المستقبل,فالعيش في الماضي لن يزيدكن إلا ألما.
فعندما تصلني رسالة غاضبة من ابن لسوء سلوك أو رعاية أحد والديه, تطل أمام عيني الآية الكريمة : (وإن جاهداك على أن تشرك بي ماليس لك به علم, فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا..) الخالق, الجابر, المنتقم, عندما يصل الأمر إلى الدعوة للشرك به من أحد الأبوين, يأمرنا بعدم طاعتهما في هذا فقط, بينما يطالبنا سبحانه وتعالي بمصاحبتهما في الدنيا معروفا, هذا في حقه, فما بالنا لو الأمر يتعلق بنا نحن الأبناء البشر, ألا ترين أن في هذه المصاحبة والتكريم أمرا إلهيا يجب الامتثال إليه, فإذا سلمنا بذلك, واستندنا إلى أمر الإحسان ـ المتكرر في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ـ إلى الوالدين, وقررنا أن يكون القرار ابتغاء لمرضاة الله, فإن قراركن سيكون واحدا ومحددا.
سيدتي.. إن لذة الانتقام لا تدوم سوى لحظة, أما الرضا الذي يوفره العفو فيدوم إلى الأبد, واستمعي إلى قوله سبحانه وتعالي (وليعفوا وليصفحوا, ألا تحبون أن يغفر الله لكم )…. ألا تحبون أن يغفر لكم الله, كم هو مقابل زهيد, مهما تكن قسوة الأيام, فالتسامح يا عزيزتي جزء من العدالة.
لا أريد أن أدخل معكم في فرضيات, لأن إذا قلت أنكن لو عالجتوه وأحسنتم إليه قد يعود إلى سيرته الأولى, سأقول لكم ومن أدراكن أن الله قد يعيد إليه ذاكرته الآن ويزداد انتقامه منكن لأنكن تركتموه.
إن ما أنتن فيه من وفرة من حقه, إنه ماله حتى ولو كان ظالما .. لكن عودته وهو فاقد الذاكرة ـ على قدر ما أعرفه ـ لا يعطيه الحق القانوني في التصرف فيما يملك لأنه ليس أهلا لذلك, ولكننصيحتي لك ولشقيقاتك أن يكون قراركن خالصاً لوجه الله سبحانه وتعالى, وأن تذهبن إليه فورا وتعيدونه إلى بيته وتحرصن على علاجه, وثقي بأن الهناء والاستقرار والسعادة لن يعرفوا طريقهم إليكن إذا ظل أبوكن ملقى في الطريق. إن المنتقم يرتكب نفس الخطيئة التي ينتقم لأجلها, فلا تواصلن حياتكن وأنتن ترتكبن نفس الخطيئة, والأولى أن يبكي الابن من أن يبكي الأب, كما قالوا قديماً، ولا تنسي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوالد أوسط أبواب الجنة، فأضع ذلك الباب أو احفظه). بل وأكثر من ذلك تغليظه صلى الله عليه وسلم بحق الوالد فقال: (ما بر أباه من شد إليه الطرف – يعني نظر إليه بحدة). وعندما جاء شاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبيه ليقاضيه بدين عليه (يعني الوالد مقترض من الولد) فماذا قال النبي للشاب: قال: (أنت ومالك لأبيك)..
وخذي وعد الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (عفا الله عما سلف, ومن عاد فينتقم الله منه, والله عزيز ذو انتقام) .. وإلى لقاء بإذن الله.
هذا الوحش! …
بريد الجمعه … 2024 -11- 20
سـيدي.. أرجو أن تتذكرني, ويتذكرني قراء بابك الأعزاء, فأنا صاحبة رسالة الانتقام التي نشرت بجريدتكم في2019/11/17, نعم أنا التي كتبت لك عن والدي, الذي كان يعاملنا ـ أنا واخواتي وأمي ـ معاملة مهينة حتى فقدت أمي الحياة, كمدا, ورفض تسلم جثتها ودفنها , ثم تزوج بعدها عدة مرات, وبعد أن ذهب لأداء العمرة, انقطعت أخباره عدة سنوات حتى صدر قرار المحكمة بفقده, وحصلنا على ميراثه, ولكن شاءت إرادة الله أن أجده مصادفة بعد سنوات, عجوزا منهكا, فاقدا للذاكرة, يمسح سلالم العمارات, ويتسول ثمن طعامه, ودوائه, بعد ان كان في رغد من العيش, يحرمنا نحن منه, ويهيننا في أعمال مرهقة لننفق على أنفسنا!
سيدي… قرأت ساعتها ردك على رسالتي, ونصيحتك لنا ـ أنا واخواتي ـ بالعفو, وإطفاء نار الانتقام, الذي لن تدوم لذته سوى لحظات, فجمعت أخواتي, وأخذتهم ومعنا المحامي وذهبنا لنرى أبي الذي عاد.. سألنا عليه, فدلنا أولاد الحلال على مكانه, وعلمنا انه تم نقله الى أحد المستشفيات الحكومية, فذهبنا اليه هناك, ورأينا مشاهد مؤلمة, فقد كان ينام على مرتبة متهالكة, في حجرة كئيبة, بها كثير من المرضى, الذين أخبرونا أنه يذهب كثيرا في غيبوبة, وأن الاطباء يريدون ان يخرجوه, ولكنهم لايعرفون أهله حتى يتسلموه.
ذهبنا للطبيب لنسأل عن حالته, فقال انه يعاني من أمراض كثيرة: ضغط وسكر ومياه على الرئة, وتليف بالكبد, ودوالي بالمريء, نقلناه الى أحد المستشفيات النظيفة بالقاهرة على مسئولية المحامي, وعندما أفاق من الغيبوبة بكى بشدة, وقال : وحشتوني, لماذا لم تأتوا الي منذ فترة, بكينا سيدي من هذه الكلمات, ومن حالته المأساوية, ومن وصف الأطباء لأمراضه الكثيرة, كان يقول هذه الكلمات ودموعه تغرق وجهه الذي سكنته الشقوق والجروح, وكأنه كان يشعر أننا أولاده!!
بعد أيام, طلب منا الاطباء الاهتمام بعلاجه, ونظافته, ومعيشته, وفوجئنا به يطلب منا أن نخرجه من المستشفي لأنه علم أن الغرفة التي يقيم بها غالية الثمن, وسامح الله شقيقتي, فقد قالت له : انت في حجرة متحلمش بيها أخفي وجهه في الملاءة, وقال لي : اخرجيني يا ابنتي من هنا, واقرضيني ثمن العلاج, وسوف أسدده لك إن شاء الله, فقالت له أختي, ومن أين ستسدد؟ قال: سوف أعمل, سأنظف البيوت, وأمسح السلالم, هذا هو عملي, وان لم استطع تسديد دينكم سأعمل عندكم بثمن العلاج, أمسح سلالم شققكم, وأنظفها!
لم تعط شقيقتنا لنا فرصة لنشفق عليه بعد هذا الموقف, فعلى الفور قالت له : لقد كان لنا أب, لكن لم يرحمنا, ولم يرحم أمنا, حتى وهي مريضة, فكان يجبرها على العمل ويقول لها اشتغلي بلقمتك على الرغم من أنه كان يمتلك كثيرا من الأموال, ولكنه اليوم على استعداد للعمل عند أولاده, يخدمهم, ليسددوا نفقات علاجه, وهنا تدخلت أنا, وأخبرته أننا ننفق هذه الأموال عليك صدقة عن أمي المتوفية, فأنت مثل والدنا, نهرتني أختي قائلة : متطمعهوش فينا, انت السبب, ربنا ياخدك معاه, كان لازم تقابليه, وترجعيه تاني.
أصر أحد أخوالي على الذهاب الي أعمامي, ليخبرهم أن أخاهم أبو البنات قد عاد, وأنه حي, لم يمت, ويعالج في المستشفى, فكذبوه, وحضروا إلى المستشفى, وحدثت بيننا خناقة كبيرة وضربونا, وكانت فضيحة في العائلة, ولكن خالي ذهب الى قسم الشرطة, وعمل محضرا ضد أعمامي, وجاء أمين الشرطة للمستشفى ليسأل العجوز: انت مين؟.. قال: أنا معرفش حاجة, هؤلاء البنات ساعدوني, وأحضروني للمستشفي للعلاج, وقال للاطباء اني فاقد للذاكرة, ولكني لو كنت فعلا أباهم, فأنا مش عاوزهم يعرفوني تاني.. قالها سيدي, وهو يبكي بحرقة, فكيف لأب ان يضرب بناته, ويعذبهم, بل ويكون سببا في وفاة أمهم, هل كنت أنا هذا الوحش, ان كنت كذلك, فلا أريد أن أذكرهم بما عانوه معي!!
خرج الرجل من المستشفي, بعد علاجه, وعلم اننا بناته, وكان كلما يرى واحدة منا يداري وجهه, وهو يبكي ويستغفر الله على ما فعل فأقول له انت مش مبسوط انك عرفت ولادك؟, فيقول كان نفسي أكون مبسوط ولكن ذكرياتي معكم ذكريات مؤلمة، ولهذا لن استطيع العيش معكم, سأعود إلى حجرتي الصغيرة, أكنس وأمسح السلالم, والبيوت, ولكن كل ما أطلبه منكم يا ابنتي هو ان تسامحوني.. سامحوني أرجوكم!!
كررها سيدي أكثر من مرة… سامحوني, فقلت له لو سامحناك نحن في حقنا, فمن يسامحك في حق أمي؟… فقال وهو يبكي يا ابنتي.. ياويلي من عذاب الله, فلا أدري ماذا أقول لربي عندما يسألني, لماذا لم تنفق على بناتك, وقد رزقتك مالا كثيرا, لماذا تركتهن ومعهن زوجتك المريضة يعملن لينفقن على أنفسهن؟
.. ماذا سأقول لربي إذا سألني لماذا لم تتسلم جثة زوجتك, وتدفنها؟!
أخذته أختي الوسطي بعدها ليعيش معها, ولكنها ـ سامحها الله ـ كانت تعطي له العلاج على معدة خالية لأنها كانت تقوم من النوم متأخرة, وكان أول طعامه هو العيش الناشف فكان يطلب منها ان تبلل له العيش ليستطيع مضغه, فكانت تغرق العيش في الماء حتى يتفتت, فيلملمه بأصابعه الضعيفة, وهو لا يملك ما يسد جوعه غير ذلك, وكانت كلمته التي يرددها دائما أهي أكلة والسلام!
لا استطيع ان أنسى منظره عندما ذهبت لزيارته يوما, فوجدته جالسا عند باب الشقة من الداخل, حزينا وخائفا فسألته ماذا جرى؟ فأخبرني أنه تبول لا اراديا على مرتبة السرير وان شقيقتي قد نبهت عليه الا يفعلها مرة أخرى, بكى بشدة وترجاني ان ارحل به من عندها, فأخذته وذهبت به الى اختي الاخرى, فقد كنت رافضة أن يعيش معي في الشقة, فأنا أعيش منفردة, وكنت لا أريد أن أعيش لخدمته, وكنت أقول لنفسي في بعض الأوقات اتركيه يتبهدل عند ولاده ثم اذهبي به لحجرة الموت التي كان يعيش فيها.. أعرف انكم جميعا ستدعون بأن ينتقم الله مني, وقد قلتها بالفعل لنفسي!!
عندما دخلنا على أختي باغتته بسؤال: انت لسه عايش, وكمان هتعيش معايا! تعلق الرجل في يدي, وبكى, واستحلفني الا أتركه, وأصطحبه معي, فأخبرته أنها أيام قليلة, ثم يعود إلى حجرته الأصلية, تركته سيدي, ولكن ظلت نظرة عينيه لا تفارقني دقيقة, وهو يتوسل لي ألا أتركه, فعدت بعد أسبوع لزيارته, فوجدته نائما على كنبة ببلكونة المنزل, وعلمت أن شقيقتي كانت تكلفه بنظافة المنزل, ومسحه وكأنه خادمة, حتى إن زجاج الشباك أصاب إصبعه, فلم تكلف نفسها عناء علاجه, وتركته ينزف ويعاني!!
أمسك بيدي ورجلي, وترجاني أن أعود به إلى حجرته, ووعدني أنه سيطلب من أولاد الحلال سداد ما أنفقناه عليه في علاجه. أخذته, وذهبت به إلى حجرته الصغيرة التي يسكن بها في مدينة طنطا, وأعطيت أموالا لشيخ المسجد لكي يقوم على رعايته, ثم سافرت, لكن قلبي لم يطاوعني فما إن نزلت في محطة القطار, إلا ووجدتني أعود مرة أخرى, وأستقل القطار العائد إلى طنطا, وعندما دخلت عليه بكى وقال كنت أعلم أنك ستعودين. أنت فقط من يشعر بي. استلقيت في حضنه ـ لأول مرة ـ إنه أبي يأخذني في حضنه الدافيء, بكيت على كتفيه, غمرت وجهه الدموع, ثم سألني : هل سامحتيني.. فرحت في صمت عميق!!
لم أستطع أن أتركه بعد كل ذلك, واصطحبته معي إلى شقتي, كنت أبحث عن رضا ربي, قبل أي شيء, على الرغم من النار الدفينة التي كانت تسكن أحشائي مما فعله معنا.. عشنا معا فترة شعرت فيها ـ لأول مرة ـ بطعم أن يكون لك أب يربت على كتفيك, يحنو عليك, كنت أدخل الشقة فأجده واقفا في الشباك ينتظرني, ويطمئن علي, كان يطلب مني أن آخذه إلى مقبرة والدتي, وعندما وقف أمامها, بدأ في قراءة القرآن, وبكي كثيرا, ثم طلب منها أن تسامحه, وأن تشفع له عند الله ليسامحه.
لا أنسى هذه الأوقات التي كان يساعدني فيها في لملمة أوراقي التي كنت أحضرها بالمنزل, ثم نبدأ في اللعب على الكمبيوتر, لم أعد أحتمل البيت بدونه, فقد كان يذهب لزيارة حجرته, التي كان يسكن بها, فلم أتحمل هذه الساعات, وأذهب فورا لإحضاره, لا أخفي عليكم سيدي, أنه حتى النوم أصبح له طعم في وجوده, فكنت أستغرق في النوم وأنا مطمئنة أن أبي معي في المنزل يحرسني بدعواته التي لا تنقطع!!
في هذه الأوقات قررت أن أذهب لقضاء العمرة, وعندما أخبرته, ضحك, وقال: أوعي تفقدي الذاكرة..وبكى وقال لي ومن سيزورني, ثم بدأ يوصيني بالدعاء, ووعدته بأن أصطحبه معي في المرة القادمة, سافرت بعد أن أعطيته تليفونا محمولا لكي أطمئن عليه, وبعدها علمت أنه مرض, ولم يجد أحدا يدخله المستشفى, وبعد أن قضيت عمرة رمضان, عدت, وأخذته إلى المستشفى, كان يعاني في هذه المرة, يبتسم كثيرا, ويبكي أكثر, ويشرد بناظريه أكثر وأكثر.. وكان يردد دائما : ترى يا ربي هل خففت عذابك عني, ترى هل تقبلت دعوتي؟.. هدأته ولأول مرة نبض قلبي بالدعاء له, أن يشفيه, تركته في اليوم التالي, وذهبت لعملي, وعدت مسرعة بعد أن اتصلت بي الممرضة, لتخبرني أنه في غيبوبة, فاقتحمت حجرة الرعاية المركزة, ورميت نفسي فوق صدره, وبكيت, كما لم أبك من قبل, وصرخت بأعلى صوتي.. يارب, دعه يشعر بي, ولو لحظة واحدة, لكي أقول له: سامحني.. سامحني على كل لحظة عاملتك فيها بجفاء, فقد كان كل ذلك رغما عني.. جلست عند قدميه, وقبلتهما, ثم قبلت رأسه, واستحلفته ألا يتركني, وطلبت منه أن يغفر لي, ثم ذهبت لأصلي, وما هي إلا لحظات, وحضرت الممرضة, لتقول لي : البقاء لله!…
رحل أبي ورحت أنا في غيبوبة وعلمت بعد أن أفقت أن أعمامي رفضوا دفنه في مقابرهم فدفنه خالي في مقابر العائلة بجوار أمي التي رفض ـ سابقا ـ استلام جثتها, ربما تكون قد سامحته هي الأخرى!
الآن سيدي لم أعد أجد من ينتظرني بالمنزل, لم يعد هناك من يدعو لي, أصبحت أعيش في وحشة الوحدة, ويبدو أن انتقام الله قد بدأ معنا.. نعم سيدي لقد بدأ انتقام الله معي, وأخواتي, فقد مرضت بهوس نفسي, كنت أقطع هدومي, وأجري في الشارع, وأصرخ, وأبكي.. أضحك, وأرقص, ثم أعود لأصرخ : أبويا مات.. ياناس أبويا مات!! لقد نسينا أمر الله ببر الوالدين (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا).
أما شقيقاتي, فسوف أقول لك ماحدث لواحدة منهن فقط, وهي التي كانت تطعم أبي العيش الناشف فقد أصابها مرض البهاق في جسدها كله, ولم يتحملها أحد حتي أولادها وزوجها وطلبوا مني أن آخذها لتعيش معي!!
سيدي.. قل ما شئت لنا, فنحن في انتظار كلماتك, أيقظ ضمائرنا, ولكن قبل ذلك كله مازال لدي سؤال أبحث له عن إجابة : هل سامحني أبي؟!
سيدتي.. نعم أتذكرك جيدا, فمثل تلك القصة لا يمكن أن تمحى من الذاكرة! هل تصدقيني لو قلت لك أني أحكي تلك القصة حتى الآن لكثير ممن ألتقي بهم, كما يسألني كثير من الأصدقاء والقراء عن حالة الأب أو بماذا انتهت حكايتكم, وها أنت جئت بعد سنوات لتضعي كلمة النهاية, ولكن هل انتهت قصتكم أم بدأت؟
سبق وحذرتكم ـ ياعزيزتي ـ من أن المنتقم يرتكب نفس خطيئة المنتقم منه, وأن والدكم عندما عاد لم يكن هو هذا الوحش القديم الذي عذبكم وأهان والدتكم, بل هو انسان عائد بفطرته الأولى, بخيره ومحبته وسلامه.. نعم نحن بشر ولسنا ملائكة, قد نجنح إلى الانتقام, ولكن الله سبحانه وتعالى وضع ضوابطه لكبح جماح النفس وتهذيبها, فطالبنا بالعفو عند المقدرة, ووعد الصابرين والعافين عن الناس بجنات وخير كثير, ونهانا عن معصية الوالدين وأمرنا بطاعتهما وألا نقول لهما حتى أدنى كلمة ربما تضايقهما وهي كلمة "أف" وأمرنا بالقول الجميل وأن لا ننهرهما ونصاحبهما في الدنيا معروفا حتى لو كان جهادهما للإشراك به سبحانه وتعالى.
من عاد إليكن ياسيدتي ليس والدكن قاسي القلب, متجرد المشاعر, الأناني المتغطرس.. من عاد هو رجل مسن بائس, قادكن العلي القدير إليه لترين انتقامه وليكن درسا لكن، تتعلمن منه وتوقن بأنه سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل.. وبدلا من تأمل قدرة الله وفهم رسالته العظيمة, تحرك الوحش في داخلكن, واستمتعتن بالشر, ووجدتن لذة في إهماله وإيذاء رجل عاجز فاقد للذاكرة, ليس فيه من والدكن القديم إلا الجسد، فبالغتن في إهانته وإذلاله, وهو التائب النادم على أشياء لا يذكرها بل أصبح ينكرها على أي أب, يخجل منها ويلتمس لكن العذر في الإساءة إليه.
سيدتي.. إنها النفس الأمارة بالسوء, التي أخرجت الوحش الكامن فيكن حتى أشقائه, خشوا أن تؤخذ منهم الأموال التي ورثوها منه, وتجاهلوا أنه حي يرزق, وأن ما امتلكوه هو مال حرام سيحرق حتما قلوبهم وأولادهم, ولو كنت أنا منهم الآن لتصدقت بكل ما ورثوه على روحه لعله سبحانه وتعالى يغفر لهم ويتقبل منهم.
سيدتي.. الحمد لله أن ضميرك قد استيقظ قبل رحيل والدك, فجعلك تستمتعين بوجوده معك, لذا هوني على نفسك, اطلبي المغفرة والتوبة, صلي من أجله, تصدقي وادعي له بالرحمة, وثقي في مغفرة الله فأبواب التوبة مشرعة للتائبين, وما يطمئنك أنه مات وهو راض عنك, محبا لك, ملتمسا كل الأعذار لما فعلته معه من تصرفات لا تليق بأبنة تجاه والدها في مثل هذه الظروف.
الأزمة الحقيقية ـ ياعزيزتي ـ في شقيقتيك وقلبيهما المتحجرين, فقد نقلت لنا ما لحق باحداهما من انتقام إلهي, ولم تذكري إذا كانت أفاقت من غفلتها واستقبلت الرسالة الإلهية, أم مازال قلبها غلفا ؟.. لعلها تلحق بنفسها وتستغفر الله وتتوب إليه وكذلك شقيقتك الأخرى, فانتقام الله قادم لا محالة ومن يقتل الوحش بداخله فقد نجا, أما من يستسلم له, فلن يجني إلا عذابا في الدنيا والآخرة, وإلى لقاء بإذن الله.
لقد قيل: (العفو أشد أنواع الإنتقــام).
أخرج البخاري عن أبو بكرة نفيع بن الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)) وكان متكئاً فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور)) فما زال يرددها حتى قلنا ليته سكت. حديث صحيح.
عن رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلـم :
" أبخلُ النـاسِ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ علَيّ "
اللهم صل على محمد وآل محمـد