تخطى إلى المحتوى

المؤرخ السوداني محمد إبراهيم أبو سليم تاريخ الوثائق في السودان 2024

الونشريس

المؤرخ السوداني محمد إبراهيم أبو سليم تاريخ الوثائق في السودان



يعتبر محمد إبراهيم أبو سليم من المؤرخين السودانيين الرواد في العصر الحديث والمعاصر، وذلك من خلال أبحاثه التي تجاوزت مائة كتاب، وقد أوردت الموسوعة العالمية Who is Who سيرته الذاتية قبل وفاته في عام 2024 ووصفته بأنه من الشخصيات العالمية المتميزة في مجال الوثائق والتاريخ.
ولد أبوسليم في قرية صغيرة في وادي حلفا شمال السودان عام 1927م تلك المدينة التي غمرت بالمياه بعد قيام السد العالي، وتخرج في جامعة الخرطوم عام 1955م ثم التحق بخدمة محفوظات السودان في العام نفسه والتي تطورت على يديه حتى أصبحت دار الوثائق القومية السودانية.
خلال حياته العملية ساهم في تنظيم دار الوثائق القطرية، ودار الوثائق الإماراتية وترأس الجمعية التاريخية السودانية أكثر من دورة، كما ترأس عددا من اللجان القومية منها لجنة تقسيم المديريات الجنوبية والشمالية ولجنة تنظيم العاصمة السودانية الخرطوم التى أفرد لها أحد مؤلفاته، متناولا الآراء المختلفة حول اسم الخرطوم تاريخها القديم والحديث وأهم معالمها المهمة. نال وسام النيلين من الدرجة الأولى وهو أرفع وسام يمنح في السودان. وقد ظل مع رفيق دربه وأستاذه الدكتور يوسف فضل مدير جامعة الخرطوم الأسبق ولفترة طويلة قاسماً مشتركاً في مناقشات الإجازات العملية التاريخية، كما عمل أستاذا متعاونا في عدد من الجامعات وأستاذا زائرا في جامعة بيرجن بالنرويج وأشرف على عدد من الرسائل الجامعية واستطاع بذكائه المعهود واطلاعه الواسع أن يرشد إلى بعض الوثائق التي ساهمت بشكل حاسم في إعادتها من براثن إسرائيل إلى مصر.
والمتتبع لشخصية الدكتور أبو سليم عندما يتحدث باللغة النوبية وهي لغة أهله في شمال السودان، أول ما يتبادر إلى ذهن الشخص المستمع أنها اللغة الوحيدة التي يتحدث بها، وكذا الحال بالنسبة للغتين العربية والإنجليزية.
أما بحوث أبو سليم سواء التاريخية أو غيرها من الموضوعات التي كتب فيها فلا يمكن لأي باحث في تاريخ السودان أن يتجاوزها، لأنها تعتمد في المقام الأول على الوثائق والتحليل العلمي الرصين المشبع بالخبرة والحيادية الكاملة، بعيدا عن الأخطاء التاريخية الشائعة.
ويظهر هذا بوضوح من خلال مؤلفه (في الشخصية السودانية) الذي صدر عام 1979 وفيه استطاع أن يحلل الشخصية السودانية والمؤثرات التي ساهمت في تكوينها، حيث أشار إلى أنها ولدت من التلاقح العربي والآسيوي والاوربي أحيانا. إن أول ما يلفت نظرنا أن الشخصية السودانية وليدة بيئات متعددة، فنحن مثلا نستطيع أن نقبل القول بأن مصر هبة النيل لأن النيل هو واهب الحياة في مصر.
أما أمر السودان فمختلف لأن العوامل التي تعطي الحياة متعددة (النيل – الأنهرالصغيرة – المطر – المياه الجوفية – الجبال – السهول)، وفضلا عن ذلك فإن أطراف السودان متصلة ببلاد مأهولة ولذلك ظل السودان طوال القرون يستقبل أفواجا من المهاجرين من أجناس شتى من زنوج وساميين وحاميين وعناصر مختلفة. وكانت هذه الأفواج ذات حضارات متفاوتة. في داخل هذا الإطار الطبيعي والبشري ولدت الشخصية السودانية وأخذت بعدها التاريخي، وخلال مسيرتها التاريخية الطويلة كانت هذه الشخصية تتأثر بعاملين:
أولهما: أثر هذه البيئات المتعددة فداخل البيئة الخاصة يظهر الفرد السوداني أو الإنسان السوداني ويأخذ صورته المميزة وينمو فيها ويتطور ويصنع ثقافته الخاصة وربما لغته الخاصة ونظمه المحلية التي تنظم حياته وتزيد علاقته بغيره.
ثانيهما: عامل الحضارة الأوسع الذي يربط بين هذه البيئات وبالتالي يعطي للشخصية السودانية بعدا جديدا هذا البعد هو محاولة الالتقاء بالغير والعيش معه دون التضحية بالفردية أو المزاج الخاص أو الشعور بالمحلية والاعتزاز بها.
أبو سليم وتاريخ المهدية
تاريخ الدولة المهدية في السودان مصطلح عرفت به الحركة الوطنية التي قادها الثائر السوداني محمد أحمد المهدي ومن بعده عبد الله التعايشي خلال الفترة (1881- 1898م) حيث استطاعت هذه الحركة أن تنتصر على جوردون باشا في عام 1885م والذي كان يحكم السودان باسم السلطان العثماني.
وقد نجح أبو سليم في أن يلفت الأنظار إلى هذه الحقبة المهمة من تاريخ السودان من خلال كتاباته الغزيرة، ونذكرمن مؤلفاته:
الحركة الفكرية في المهدية
وفي هذا الكتاب يشير إلى أن فكرة المهدي فكرة قديمة وقد ظهرت في تاريخ الإسلام منذ وقت مبكر وهي تستند إلى بعض الأحاديث التي رويت عن النبي عليه الصلاة والسلام وبعض التأويلات لبعض الآيات. ويلاحظ أن لفظ المهدي نفسه لم يرد في القرآن، كما يلاحظ أن الأحاديث عن المهدي لم ترد في كتب الحديث التي تشدد أصحابها في ضوابط الرواية كصحيح مسلم وصحيح البخاري، إنما وردت في الكتب غير المتشددة في هذه الناحية كسنن أبي داود وابن ماجة والترمذي والنسائي.
وقد سمع المسلمون في السودان كغيرهم من المسلمين – وخاصة من لهم اطلاع – بفكرة المهدي المنتظر وانتظروا مجيئه أيا كان مكان ظهوره. ويبدو أن فكرة المهدي قد وفدت إلى السودان من الكتب وعن طريق الطرق الصوفية التي انتشرت في السودان، وعن طريق الاتصال بالمسلمين عن طريق الحج والتجارة. ويلخص أسباب الثورة المهدية في النقاط الآتية: (الانتقام من فظائع الترك، وفداحة الضرائب، ومنع تجارة الرقيق، واستخفاف الحكومة بمحمد أحمد المهدي في أول أمره، وانشغال الحكومة التركية في مصر بثورة عرابي، وضعف الحاميات العسكرية في السودان، وسياسة التردد إزاء الحركة)، ثم عرج أبوسليم في هذا الكتاب إلى النظم الديوانية وتطبيقاتها في الدولة التي أقامها محمد أحمد المهدي.
وقد أشاد المؤرخ البريطاني ب.م هولت بهذا البحث، واصفا إياه بالصرح الشامخ في البحث العلمي، وأنه قد تملك نواصي موضوعه وتضلع فيه تضلعا تاما وقد تناوله في يسر وسلاسة وأظهر أنه مقتدر تماما في الأوجه الفنية لموضوعه.
الآثار الكاملة للإمام المهدي
صدر هذا الكتاب في أربعة أجزاء (مجلدات)، ناقشت خطابات ومنشورات المهدي الخاصة والعامة، ويقع الجزء الواحد في حوالي 460صفحة من الورق المتوسط. وقد استغرق هذا العمل حوالي ثلاثين عاما من الإعداد المتواصل، مما يدل على صبر واجتهاد الدكتور أبو سليم دون ملل من أجل تقديم الحقائق التاريخية بشكل مثالي لا يتطرق إليه أدني شك، وهذه أهم الصفات التي تميز بها عن غيره من المؤرخين.
أبوسليم وعلم الوثائق
عندما كنا في السنة الخامسة بكلية الآداب، تخصص تاريخ، كان يقوم الدكتور أبو سليم بتدريسنا (تاريخ السودان دراسة وثائقية)، وكان الواقع يشير إلى أننا أمام جراح متمكن في تشريح علم الوثائق وقد استطاع في مدة وجيزة ان يغرس فينا عشق علم الوثائق من خلال محاضراته الشائقة المليئة بالعلم الغزير، الممزوجة بروح الدعابة وخفة الدم التي اشتهرت بها شخصيته وسط أصدقائه وطلابه.
الوثيقة العربية في السودان
يرجح مجيء الوثيقة العربية إلى السودان مع قدوم العرب، والمصادر لا تشير إلى أية وثيقة عربية كتبت في السودان قبل قدوم العرب المسلمين إلى بلاد النوبة, وهي بلاد لها حضارة عميقة الجذور وقد عرف أهلها التدوين منذ فجر التاريخ، وخطوا بالهيروغليفية والمروية وبلغات أخرى وطوعوا أحرف اللغات الأجنبية التي كتبوا بها لتكون ناطقة بمخارج لسانهم كما ابتدعوا حروفا جديدة لأصواتهم الخاصة.
أشار أبو سليم إلى أن اتفاقية البقط التي أبرمت بين المسلمين العرب وبلاد النوبة في عام 31هـ هي أول ما كتب بين العرب والنوبة ثم جاء غلام الله بن عائد في منتصف القرن الرابع عشر أو منتصف القرن الخامس عشر ووضع أساس مدارس العلم التي يقصدها الطلبة بعد أن يتلقوا مراحل التعليم الأولى ويكملوا حفظ القرآن. وفي القرن السادس عشر أنشأ إبراهيم جابر البولاد مدرسة للعلم في شمال السودان وأصبحت هذه المدرسة بداية سلسلة من المدارس العلمية التي عمت جميع السودان، وكانت هذه المدارس على قدر عظيم من الأهمية لأنها دعمت الثقافة العربية الإسلامية، وأيضا كان لمراكز التصوف الأثر الكبير في انتشار الوثيقة العربية في السودان وذلك لما كان يبذل فيها في مجال التعليم والإرشاد من خلال الخلاوي التي كانت تقام في هذه المراكز من أجل تعليم القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن.
ثم جاءت السلطنات الإسلامية التي قامت في السودان, سلطنة الفور في دار فور أواسط القرن الخامس عشر, وسلطنة الفونج في القرن السادس عشر على أنقاض مملكة النوبة المسيحية العليا. وعلى ما يبدو فإن التدوين لم يكن منتشرا في أول الأمر وكان من يريد أن يبلغ أمرا لشخص ينقله إليه شفاهة أو يرسل إليه رسولا ينقل له ما يريد وإذا أراد المرء ان يوثق أمرا (كطلاق أو عقد أو عطاء أو وصية) أشهد عليه العدول ليستدل بهم عند الحاجة شفاهة أيضا، وفي بعض العقود كانوا يشهدون عامة الناس. على أن تعقد المجتمع وانتقال الدولة واكتمال مقوماتها دعا الأمر إلى تدوين الأشياء المهمة، وهنا ظهر اثر المتخرجين من مراكز العلم والعلماء والقادمين من خارج السودان, خاصة مصر.
وقد أفرد لوثائق السلطنات الإسلامية عدة مؤلفات نذكر منها: (الختم الديواني في السودان) (الفور والأرض) (الفونج والأرض) (الأرض في المهدية) وSome Document from Eighteenth – Century Sinnar) بالاشتراك مع الاوربي Spaulding.
وقد أشار في معرض تحليله إلى أن الأسلوب الذي كتبت به الوثيقة العربية في السودان أنه وسط بين الفصحى والعامية. أما نوع الخط فهو خليط من مؤثرات مختلفة مثل الصحراوية والرسم العثماني.. إلخ.
ومن خلال تحليله وبحثه الدقيق في هذه الوثائق استطاع أن يكشف الثقافة التقليدية التي كانت سائدة في السودان قبل أن يفد إليه الحكم التركي المصري 1821-1885م بالإضافة إلى النظام الديواني الذي كان سائدا خلال تلك الفترة من تاريخ السودان.
وأيضا ارتبطت دراسات أبوسليم للوثائق بالأختام التي تعتبر جزءا أساسيا في الوثائق, وقد أفرد لذلك كتابا حمل عنوان «الختم الديواني في السودان» أوضح فيه أن الختم توثيقًا هو الأثر الذي يتركه جسم الختم على الوثيقة أو المادة بغرض التأكيد, أي لإضفاء الشرعية على ما جاء بها أو التامين عليها وهي علامة لليقين. ويصنع هذا الجسم لأداء هذا الغرض بالوجه الذي يستلزمه العمل به. وقد اهتدى الإنسان إلى استعمال الختم قبل الميلاد بقرون, وبخلاف ما قد يظن فان ظهوره قد سبق ظهور الكتابة، وقد ظل الإنسان يستعمل الختم في أغراضه المختلفة في مختلف عصور التاريخ ولايزال يستعمله إلى هذا اليوم.
ومن الموضوعات التي كتب فيها أبو سليم متأثرا بالبيئة الطبيعية التي نشأ فيها وترعرع: النخيل الذي يزرع في مناطق واسعة في شمال السودان، كما كتب عن الساقية ودواعي استخدامها وتاريخها في السودان
حقيقة لقد ظل المؤرخ والمحقق في علم الوثائق الدكتور أبو سليم ملتزما بالمنهجية العلمية التاريخية في كتاباته إلى آخر يوم في حياته، وكان آخر مؤلف أعده للنشر بعنوان (الخصومة في مهدية السودان) وقد أشرف أحد أبنائه على طباعته ونشره بعد وفاته، ويعتبر هذا الكتاب إضافة جديدة للمكتبة التاريخية السودانية.

    يسلموووو

    الونشريس

    الونشريس

    شكرا يا عسل

    مشكوووووره يا قمر

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.