تفسير سورة الملك
.تفسير الآيات (23- 27)
=============================
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)}
شرح الكلمات:
{والأفئدة}: أي القلوب.
{قليلاً ما تشكرون}: أي شكركم قليل.
{ذرأكم في الأرض}: أي خلقكم في الأرض وإليه تحشرون لا إلى سواء.
{متى هذا الوعد}: أي الذي تعدوننا وهو يوم القيامة.
{قل إنما العلم عند الله}: أي علم مجيئه عند الله لا غير.
{فلما رأوه زلفة}: أي لما رأوه العذاب قريباً منهم في عرصات القيامة.
{سيئت وجوه الذين كفروا}: أي تغيرت مسودة.
{هذا الذي كنتم به تدعون}: أي هذا العذاب الذي كنتم بإنذاره تكذبون وتطالبون بهد تحدياً منكم.
.معنى الآيات:
•(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ)
يقول تعالى – مبينًا أنه المعبود وحده، وداعيًا عباده إلى شكره، وإفراده بالعبادة-:
{ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ } أي: أوجدكم من العدم، من غير معاون له ولا مظاهر، ولما أنشأكم، كمل لكم الوجود بالسمع والأبصار والأفئدة، التي هي أنفع أعضاء البدن وأكمل القوى الجسمانية، ولكنه مع هذا الإنعام { قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } الله، قليل منكم الشاكر، وقليل منكم الشكر.
{ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ } أي: بثكم في أقطارها، وأسكنكم في أرجائها، وأمركم، ونهاكم، وأسدى عليكم من النعم، ما به تنتفعون، ثم بعد ذلك يحشركم ليوم القيامة.
•• ( وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)
ولكن هذا الوعد بالجزاء، ينكره هؤلاء المعاندون { وَيَقُولُونَ } تكذيبًا:
{ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } جعلوا علامة صدقهم أن يخبروا بوقت مجيئه، وهذا ظلم وعناد فإنما العلم عند الله لا عند أحد من الخلق، ولا ملازمة بين صدق هذا الخبر وبين الإخبار بوقته، فإن الصدق يعرف بأدلته، وقد أقام الله من الأدلة والبراهين على صحته ما لا يبقى معه أدنى شك لمن ألقى السمع وهو شهيد.
••فلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ
يعني أن محل تكذيب الكفار وغرورهم به حين كانوا في الدنيا، فإذا كان يوم الجزاء، ورأوا العذاب منهم { زُلْفَةً } أي: قريبًا، ساءهم ذلك وأفظعهم، وقلقل أفئدتهم، فتغيرت لذلك وجوههم، ووبخوا على تكذيبهم، وقيل لهم هذا الذي كنتم به تكذبون، فاليوم رأيتموه عيانًا، وانجلى لكم الأمر، وتقطعت بكم الأسباب ولم يبق إلا مباشرة العذاب.
فى ظلال الآيات:
• وعلى ذكر الهدى والضلال , يذكرهم بما وهبهم الله من وسائل الهدى , وأدوات الإدراك ثم لم ينتفعوا بها , ولم يكونوا من الشاكرين:
_(قل:هو الذي أنشأكم , وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة , قليلا ما تشكرون). .
• وحقيقة أن الله هو الذي أنشأ الإنسان , حقيقة تلح على العقل البشري , وتثبت ذاتها بتوكيد يصعب رده . فالإنسان قد وجد – وهو أرفع وأعلم وأقدر ما يعلم من الخلائق – وهو لم يوجد نفسه , فلا بد أن يكون هناك من هو أرفع وأعلم وأقدر منه أوجده . . ولا مفر من الاعتراف بخالق . فوجود الإنسان ذاته يواجهه بهذه الحقيقة . والمماراة فيها نوع من المماحكة لا يستحق الاحترام .
_ والقرآن يذكر هذه الحقيقة هنا ليذكر بجانبها ما زود الله به الإنسان من وسائل المعرفة . .
(وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة). .
• وما قابل الإنسان به هذه النعمة:نعمة الإنشاء ونعمة السمع والأبصار والأفئدة:
(قليلا ما تشكرون). .
والسمع والأبصار معجزتان كبيرتان عرف عنهما بعض خواصهما العجيبة . والأفئدة التي يعبر بها القرآن عن قوة الإدراك والمعرفة , معجزة أعجب وأغرب . ولم يعرف بعد عنها إلا القليل . وهي سر الله في هذا المخلوق الفريد . .
_______________________________
• وللعلم الحديث محاولات في معرفة شيء عن معجزتي السمع والبصر نذكر منها لمحة:
_ "تبدأ حاسة السمع بالأذن الخارجية , ولا يعلم الا الله أين تنتهي . ويقول العلم:إن الاهتزاز الذي يحدثه الصوت في الهواء ينقل إلى الأذن , التي تنظم دخوله , ليقع على طبلة الأذن . وهذه تنقلها إلى التيه داخل الأذن .
– "والتيه يشتمل على نوع من الأقنية بين لولبية ونصف مستديرة . وفي القسم اللولبي وحده أربعة آلاف قوس صغيرة متصلة بعصب السمع في الرأس .
– "فما طول القوس منها وحجمها ? وكيف ركبت هذه الأقواس التي تبلغ عدة آلاف كل منها تركيبا خاصا ? وما الحيز الذي وضعت فيه ? ناهيك عن العظام الأخرى الدقيقة المتماوجة . هذا كله في التيه الذي لا يكاد يرى ! وفي الأذن مائة ألف خلية سمعية . وتنتهي الأعصاب بأهداب دقيقة . دقة وعظمة تحير الألباب" .
– "ومركز حاسة الإبصار العين , التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء , وهي أطراف أعصاب الإبصار . وتتكون العين من الصلبة والقرنية والمشيمة والشبكية . . وذلك بخلاف العدد الهائل من الأعصاب والأوعية .
– "وتتكون الشبكية من تسع طبقات منفصلة , والطبقة التي في أقصى الداخل تتكون من أعواد ومخروطات . ويقال:إن عدد الأولى ثلاثون مليون عود , وعدد الثانية ثلاثة ملايين مخروط . وقد نظمت كلها في تناسب محكم بالنسبة لبعضها البعض وبالنسبة للعدسات . . وعدسة عينيك تختلف في الكثافة , ولذا تجمع كل الأشعة في بؤرة , ولا يحصل الإنسان على مثل ذلك في أية مادة من جنس واحد كالزجاج مثلا " . .
__ •فأما الأفئدة فهي هذه الخاصية التي صار بها الإنسان إنسانا . وهي قوة الإدراك والتمييز والمعرفة التي استخلف
بها الإنسان في هذا الملك العريض . والتي حمل بها الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال . أمانة الإيمان الاختياري , والاهتداء الذاتي , والإستقامة الإرادية على منهج الله القويم ولا يعلم أحد ماهية هذه القوة , ولا مركزها , داخل الجسم أو خارجه ! فهي سر الله في الإنسان لم يعلمه أحد سواه .
وعلى هذه الهبات الضخمة التي أعطيها الإنسان لينهض بتلك الأمانة الكبرى , فإنه لم يشكر: (قليلا ما تشكرون). . وهو أمر يثير الخجل والحياء عند التذكير به , كما يذكرهم القرآن في هذا المجال ويذكر كل جاحد وكافر , لا يشكر نعمة الله عليه ; وهو لا يوفيها حقها لو عاش للشكر دون سواه !
__________________________________________
_ثم يذكرهم أن الله لم ينشئ البشر ويمنحهم هذه الخصائص عبثا ولا جزافا لغير قصد ولا غاية . إنما هي فرصة الحياة للابتلاء . ثم الجزاء في يوم الجزاء:
(قل:هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون). .
والذرء:الإكثار . ويحمل كذلك معنى الانتشار . والحشر:الجمع بعد النشر في الأرجاء . وهما حركتان متقابلتان من الناحية التصورية , تقابلهما من الناحية المعنوية . ذلك مشهد للإكثار من الخلق ونشرهم أو نثرهم في الأرض . وهذا مشهد لجمعهم منها وحشرهم بعد النشر والنثر ! ويجمعهما السياق في آية واحدة , ليتقابل المشهدان في الحس والتصور على طريقة القرآن . وليتذكر البشر وهم منتشرون في الأرض أن هناك غاية هم صائرون إليها , هي الجمع والحشر . وأن هناك أمرا وراء هذا , ووراء الابتلاء بالموت والحياة .
____________________________________________
_ثم يحكي شكهم في هذا الحشر , وارتيابهم في هذا الوعد:
(ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ?). .
•وهو سؤال الشاك المستريب . كما أنه سؤال المماحك المتعنت . فإن معرفة موعد هذا الوعد وميقاته لا تقدم ولا تؤخر ; ولا علاقة لها بحقيقته , وهو أنه يوم الجزاء بعد الابتلاء . •ويستوي بالقياس إليهم أن يجيء غدا أو أن يجيء بعد ملايين السنين . . فالمهم أنه آت , وأنهم محشورون فيه , وأنهم مجازون بما عملوا في الحياة .
•ومن ثم لم يطلع الله أحدا من خلقه على موعده , لأنه لا مصلحة لهم في معرفته , ولا علاقة لهذا بطبيعة هذا اليوم وحقيقته , ولا أثر له في التكاليف التي يطالب الناس بها استعدادا لملاقاته ,
________________________________
_ بل المصلحة والحكمة في إخفاء ميقاته عن الخلق كافة , واختصاص الله بعلم ذلك الموعد , دون الخلق جميعا:
(قل إنَّما العلم عند الله , وإنما أنا نذير مبين).
•وهنا يبرز بجلاء فارق ما بين الخالق والمخاليق . وتتجرد ذات الله ووحدانيته بلا شبيه ولا شريك . ويتمحض العلم له سبحانه . ويقف الخلق – بما فيهم الرسل والملائكة – في مقامهم متأدبين عند مقام الألوهية العظيم:
_(قل:إنما العلم عند الله . وإنما أنا نذير مبين). .
• وظيفتي الإنذار , ومهمتي البيان . أما العلم فعند صاحب العلم الواحد بلا شريك .
_______________________________________
_ وبينما هم يسألون في شك ويجابون في جزم , يخيل السياق القرآني كأن هذا اليوم الذي يسألون عنه قد جاء ,
والموعد الذي يشكون فيه قد حان ; وكأنَّما هم واجهوه الآن . فكان فيه ما كان:
(فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا , وقيل:هذا الذي كنتم به تدعون)!
• فقد رأوه قريبا مواجها لهم حاضرا أمامهم دون توقع ودون تمهيد . فسيئت وجوههم , وبدا فيها الاستياء . ووجه إليهم التأنيب: (وقيل:هذا الذي كنتم به تدعون). . هذا هو حاضرا قريبا . وهو الذي كنتم تدعون أنه لن يكون !
_وهذه الطريقة في عرض ما سيكون تتكرر في القرآن , لمواجهة حالة التكذيب أو الشك بمفاجأة شعورية تصويرية تقف المكذب أو الشاك وجها لوجه مع مشهد حاضر لما يكذب به أو يشك فيه .
• ثم هي في الوقت ذاته تصور حقيقة . فهذا اليوم كائن في علم الله ; أما خط الزمن بينه وبين البشر فهو قائم بالقياس إلى البشر . وهي مسألة نسبية لا تمثل الحقيقة المجردة كما هي في حساب الله . ولو أذن الله لرأوه اللحظة كما هو في علم الله . فهذا الانتقال المفاجئ لهم من الدنيا إلى الآخرة , ومن موقف الشك والارتياب إلى موقف المواجهة والمفاجأة , يشير إلى حقيقة قائمة لو أذن الله بها لانكشفت لهم . في الوقت الذي يصور لهم هذه الحقيقة تصويرا يهز مشاعرهم .
من هداية الآيات:
1- وجوب الشكر لله تعالى على نعمة السمع والبصر والقلب وذلك بالإيمان والطاعة.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
المراجع
تفسير القرآن العظيم ابن كثير
السعدى تيسير الكريم الرحمن فى تفسير كلام المنان
في ظلال القرآن الكريم سيد قطب
الجزائرى أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير.
جزاكم الله خيراً على طيب المتابعة .. دمتم طيبين اللهم اجعلنا وايَّاكم من اهل القرآن
جزاك الله خيرا
|
جزانا وايّاكِ وبارك الله فيكِ واحسن اليكِ