" يبدو هذا الطفل غيرَ اجتماعيّ" "لا يستمتع باللعب مع أقرانه من الأطفال" "لا بدّ أنّه انطوائيّ" "هذه الطفلة مهووسةٌ بالطّرقات و السّيّارات، و لا تملّ من تكرار تسريح شعرها" وتمتلئ الغرفة بالهمسات.
ولكن، بعد فترة، يشخص الطبيب داء التوحّد لهذا الطفل.
ما هو التوحّد؟
إنّ أوّل من وَصَفَ النّمط التقليديّ من التّوحّد هو الدكتور (ليو كانر)، حيث أنّ هؤلاء الأطفال مُختلفون عن الأطفال الطبيعيّين منذ الولادة.
و التوحّد عبارةٌ عن خللٍ معقّد في التّطوّر يتميّز بثلاث سماتٍ أساسيّة:
صعوباتٌ في التّفاعل الاجتماعيّ.
قصورٌ في التّواصل اللفظي و غير اللفظي.
وجود نمطٍ من التصرفات المكررّة بالإضافةِ إلى ضيق الاهتمامات وتحدّدها.
يُمثّل ما يدعى بالاضطراب التوحّديّ، و الذي يشار إليه أحياناً بالتوحّد أو بالنمط التّقليديّ من أنماط طيف اضطرابات التوحّد، يُعتبر أكثر أشكال التّوحّد حدّةً. و في حين تشمل الحالات الأخرى الواقعة ضمن هذا الطيف شكلاً أخفّ يُدعى تناذر (أسبرغر)، لم تُحدّد بعد حالةٌ نادرة تدعى بتناذر (ريت) والاضطراب الانتشاريّ للتّطوّر و اضطراب الطفولة المفككة (و الّذي يُشار إليه بـ PDD-NOS).
أرقام مفزعة:
أظهرت أحدث الدّراسات أنّ 9 من كلّ 1000 طفل من مواليد 1998 يعانون من أحد أشكال طيف اضطرابات التوحّد؛ الأمر و ذلك بمعدّل طفلٍ واحدٍ من بين كل 110 أطفال.
لا يقلّ عدد المصابين بأحد أشكال التوحّد في الولايات المتحدة الأمريكية عن 1.5 مليون مصاب.
يصيب داء التوحّد جميع السّلالات و المجموعات العرقيّة و الطبقات الاجتماعيّة و الاقتصاديّة.
الأولاد أكثر عرضةً للإصابة بالتّوحّد من البنات بنسبة 3-4 أضعاف.
باختصار، أنّ نسبة 1 /500 (2/1000) إلى 1/166 (6/1000) من الأطفال يُعانون من التّوحّد.
أظهرت إحدى الدّراسات الّتي أجراها مركز السّيطرة على الأمراض و الوقاية منها أنّ مُعدَّل شيوع التوحّد بين الأطفال الّذين تتراوح أعمارهم بين الثالثة و العاشرة بلغ 3.4 لكل 1000 طفل؛ وهي نسبةٌ تقَلّ عن نسبة شيوع التّخلّف العقليّ إلّا أنّها أعلى من مُعدّلات الشلل الدّماغي و العجز البصري و السمعي الّتي ذُكرت في ذات الدّراسة.
الأسباب:
ما زال العلماء حائرين فيما يخصّ أسباب الإصابة بالتوحّد، و لكنّ أغلب الظّنّ أنّ هذه الأسباب مُرتبطةٌ بالعديد من العوامل المُختلفة.
لقد تمكّن الباحثون من تحديد عددٍ من الجينات المرتبطة بالإصابة بهذا الاضطراب (لا يُحتمل وجود جينةٍ واحدةٍ أو اضطراب مورثي وحيد مسؤولٌ عن الإصابة بالتّوحّد).
تطرح الدّراسات الحديثة فكرة وجود مستوياتٍ شاذّةٍ من السيروتونين أو غيره من النّواقل العصبيّة في أدمغة المصابين بأحد أشكال طيف اضطرابات التّوحّد، ما قد يعني أن الإصابة بأحد أشكال طيف اضطرابات التوحّد قد تكون نتيجةً لتعطّل التّطوّر الطّبيعيّ للدّماغ في المرحلة الباكرة من التطور الجنيني الناتج بدوره عن وجود خللٍ في المورّثات الّتي تتحكّم بنموّ الدّماغ و الّتي تُنظّم الطّريقة الّتي تتواصل بها الخلايا الدماغيّة مع بعضها، و الّذي من المحتمل أن يكون نتيجة تأثّر وظيفة المُورّثة بعوامل بيئيّة. قد تكون نتائج هذه الدراسات مثيرةً، إلّا أنها ما زالت أوّليّة وتحتاج للمزيد من البحث.
لقد ساهمت الدّراسات الّتي تعتمد على تشريح الجثث و على تقنيّات التّصوير المُطوّرة حديثاً في تحديد بعض مناطق الدّماغ الرّئيسيّة المُساهمة بالإصابة بالتوحّد. وتشمل هذه المناطق كلاً من المخيخ و القشرة المخية و الفص الصدغي (خاصة منطقة اللوزة). حيثُ قد يكون الاضطراب ناتجاً عن فشل التّعاون بين هذه المناطق المختلفة من الدّماغ.
يمكن أن يكون التوحّد ذا علاقةٍ بمشكلة طبيّة كامنة. وتشمل الأمثلة كلاً من الاضطرابات الاستقلابيّة و الانتانات الخلقيّة و الاضطرابات الجينيّة و حالات خلل التّطوّر الدّماغي و الاضطرابات العصبيّة المكتسبة لاحقاً. تجب الإشارة إلى أن هذه الحالات لا تؤدّي بمفردها إلى الإصابة بالتّوحّد نظراً لأنّ أغلب الأطفال المصابين بها لا يعانون من التوحّد.
قد يؤدّي التعرّض لبعض العوامل البيئيّة إلى تفاعلها مع العوامل الجينيّة ممّا يؤدّي إلى زيادة امكانيّة الإصابة بالتّوحّد بالنّسبة لبعض العائلات.
مع مرور الوقت، تبيّن أن العديد من النظريّات التي تدور حول مسبّبات التوحّد لم تعد مقبولة حاليّاً، ومنها النظريّة التي تقول بأن التّعرّض لصدمةٍ عاطفيّةٍ في أيّ عُمْرٍ (خاصّةً سوء مُعاملة أحد الوالدين للطّفل) قد يكون السّبب المُؤدّي للإصابة بالتوحّد.
الجدال المتعلق باللقاحات:
انبثق جدل كبير في شباط عام 1998 عندما نشر )د.أندرو وايكفيلد( بحثاً في مجلة (The Lancet) يدّعي فيه أنّ لقاح النكاف و الحصبة و الحصبة الألمانية (MMR) كان السّببوراء الإصابة بالتّوحّد في 8 من أصل 12 حالةٍ توحّد راجعت عيادته في مستشفى لندن الملكي المجّانيّ، وأنّ الأعراض ظهرت بعد أيّامٍ من تلقّي اللقاح. وادّعى الفريق المشرف على الدراسة التوصل إلى اكتشاف داء معوي التهابي جديد يمثل السبب الكامن وراء حالة الأطفال المصابين (فَرَطُ التَّنَسُّج العُقَيدي الّلمفاوي الّلفائفي).
جديرٌ بالذّكر أن بدء ظهور هذا النّمط المُكتسب من التّوحّد التّراجعي يترافق مع مظاهر عيانيّة و جسديّة أخرى لمشاكل أخرى. تضمّ هذه المظاهر ما يلي: الاحمرار الشّديد للآذان وهالاتٍ داكنةً تحت العينين بعد تناول أطعمةٍ مُعيّنة، بالإضافة إلى حساسيّةٍ حادّةٍ للغلوتين و الكازين، و فرط نشاط مُطوّل عند الأطفال، إضافةً إلى التّعرّق الليليّ و فقدان القدرة على التّحكم بدرجة الحرارة و الاضطراب المزمن في نمط النوم.
تمثل الرد الذي قدمته وزارة الصحة في المملكة المتحدة في اعتبار توقيت ظهور هذه الأعراض بعد إعطاء لقاح الـMMRعبارة عن محض صدفة؛ معتبرةً أن ملاحظة أعراض التوحّد في هذه الفترة تكون لأنّها الفترة التي يكون فيها تطوّر الطّفل أسرع ما يمكن، و بالتّالي يكون الخلل أو القصور الواقع عليه أشدّ استرعاءً للانتباه؛ ممّا يعني أنّ التوحّد موجودٌ أساساً و ما كان تطوّر صورته الكاملة إلا نتيجةً لـ"قُنبلةٍ جينيّةٍ مؤجّلةِ المَفعول".
من جهةٍ أخرى، يردُّ آباء الأطفال المُصابين بأنّه من المُستبعد أنْ تكونَ كلُّ الأعراضِ السّابقة قد أُغفلت، خاصّةً أنّها تقع في مرحلةٍ يتلقّى فيها الطّفل اهتماماً مُكرّساً و تفحّصاً دقيقاً فيما يخص تطوّره.
بيّنت نتائج البحث الّذي قدّمه الدّكتور (جيف برادستريت) إلى المركز الطبي الأمريكي في 9-2-2019، و الّذي أجُري فيه تحليلٌ للسّائل الدّماغي الشّوكي ل28 طفل مُصاب بالتّوحّد التّراجعي وجود فيروس الحصبة في 19/28 حالةٍ من حالات الأطفال المصابين التراجعي و ل37 طفل غير مصاب بالتوحّد يمثلون المجموعة المعيارية، وجود فيروس الحصبة في 19/28 حالة من حالات الأطفال المصابين مقابل حالة واحدة فقط من المجموعة المعيارية السليمة. كان لقاح الـMMR قد أعطي لل65 طفلاً الخاضعين للبحث و لم يكن قد أُصيب أيٌّ منهم بالحصبة الشّديدة سابقاً.
جاءت الكلمة الفصل بالنّسبة لهذا الجدال الطّويل في بحثٍ يُدعى: " كشف زيف العلاقة بين التّوحّد و اللقاحات" بقلم (نيك ميلر) و الّذي نُشر في 4-2- 2024. أشار هذا البحث بوضوح إلى أنّه نظراً لأنّ أغلب المُناهضين للّقاحات مقتنعون بأن المجرم الرئيسي يتمثل في مادّة (الثيميراسول) زئبقيّة الأساس، فكيف فشل الجميع في ملاحظة أنّ مُعدّلات التوحّد ارتفعت بعد استبعاد مادة الثيميراسول من الّلقاحات!!.
" لقد توضَّح تدريجيّاً أنّ الدّراسة الأصليّة كانت إشاعةً نظراً لعدم قدرة أيٍّ من الدّراسات الّتي تلتها على تأكيد النّتائج الأوّليّة. انتصر العلم و دُحِضت الصّلة. كان يجب على القافلة أن تُتابع المسير".
انتهى الآن أطول استجوابٍ حول سوء الممارسة المِهَنيّة أجراه المجلس الطبيّ العام على الإطلاق، حيث قام المجلس بإقرار أكثر من 30 تهمةٍ موجهةٍ إلى وايكفيلد.
دور الوراثة:
أشارت الدّراسات التي أُجريت على التّوائم الحقيقيّة أنّه في حال إصابة أحدهما بالتّوحّد، ترتفع احتمالات إصابة الآخر إلى 90%.
في العائلات الّتي تشمل طفلاً واحداً مصاباً بالتوحّد، يصل احتمال إصابة الطّفل الآخر بذات الحالة إلى حوالي 5% أو 1/20، وهي نسبةٌ تفوق مُعدّل الإصابة في باقي المجتمع.
في بعض الحالات، قد يُبدي والدا الطّفل المصاب أو أقاربه قصوراً خفيفاً في المهارات الاجتماعيّة و التّواصليّة أوقد ينغمس بعضهم في تصرّفاتٍ ذات طابعٍ تكراريّ.
أشارت بعض الأدلة إلى أن بعض الاضطرابات العاطفيّة، كالاكتئاب الهوسي، تحدث بنسبةٍ أكبر من المُعدّل في عائلات المُصابين بأحد أشكال طيف اضطرابات التّوحّد.
الأعراض:
ضعف التفاعل الاجتماعي المتبادل:
ضعف القدرة على استخدام لغة الجسد و طرق التواصل غير اللفظية مثل التقاء العينين أو تعابير و إيحاءات الوجه.
فقدان إدراك مشاعر الآخرين و التعبير عن المشاعر؛ مثل ربط الفرح بالضحك أو الحزن بالبكاء، لأسبابٍ تبدو عصيّةً على الفهم من قبل الآخرين.
البقاء وحيداً.
صعوبة التفاعل مع الآخرين وعدم القدرة على تشكيل الصداقات مع الأقران.
عدم الموافقة على العِناق.
6عدم القدرة على اللعب بشكل اجتماعي أو تفضيل اللعب بطريقة غريبة.
عدم الاستجابة للإشارات اللفظية (تصرّف المُصاب و كأنّه أصمّ).
فقدان التواصل:
تأخر أو انعدام تطوّر القدرة على النّطق.
في حال تطوّر النّطق، غالباً ما يكون ذا محتوىً و نوعيّة غير طبيعيّة.
صعوبة التّعبير عن الرّغبات و الاحتياجات، سواءً بالكلام أو بغيره.
تكرار الكلمات و العبارات الموجّهة للمُصاب (ما يعرف بالصّدى اللفظي).
عدم القدرة على بدء المحادثة أو الحفاظ على سيرها.
ضعف القدرة على اللعب الوهمي أو انعدامها كلياً.
مجال محدود من الاهتمامات و التصرفات و النشاطات:
الإصرار على النّمطيّة والتّكرار و رفض التّغيير.
تصرّفات قهريّة أشبه بالطّقوس و الشّعائر.
الإصرار على اللعب بطرق غريبة.
تكرار بعض حركات الجسد مثل الرّفرفة باليدين و هزّ الجِذع، بالإضافة إلى الحفاظ على وضعيّاتٍ غير طبيعيّةٍ (كالمشي على أطراف الأصابع).
الانشغال الكامل بأجزاءٍ من أدواتٍ معيّنة أو الانبهار بالحركات ذات الطابع التّكراريّ (العجلات التي تدور، إشعال و إطفاء الأضواء).
طيف ضيّقٌ و محدودٌ من الاهتمامات (التّواريخ/التّقويم، الأرقام، حالة الطّقس، شارات نهاية الأفلام).
يظهر أن الأطفال المصابين بأحد أشكال طيف اضطرابات التوحّد أكثر عُرضةً من باقي الأطفال للإصابة بحالاتٍ أخرى ترافق الإصابة بالتوحّد؛ وتشمل هذه الحالات كُلّاً من "تناذر الصّبغي X الهش" (الذي يُسبّب التّخلف العقلي)،و التّصلّب الحدبيّ (الّذي يُسبّب نموّ الأورام على الدّماغ)،و النّوبات الصَّرَعيّة (ينشأ الصرع عند 20-30% من مرضى التوحّد حين الوصول لمرحلة البلوغ)،و "تناذر توريت"، و العجز عن التعلم،و اضطراب نقص الانتباه. و في حين أن المُصابين بانفصام الشّخصيّة يُبدون بعض التّصرّفات المُشابهة للتّوحّد، فإنّ الأعراض لا تظهر عليهم حتّى آخر مرحلة المُراهقة أو بداية النّضوج؛ كما تشيع لدى مرضى الفُصام الهلوسات و الأوهام الّتي لا تشاهد في حالات التّوحّد.
متى يجب أن يُدقّ ناقوس الخطر؟
تتضمّن المُشعرات الباكرة جداً و التي تتطلّب تقييماً من قبل خبير ما يلي:
عدم التّكلّم (بطريقة الأطفال) أو الإشارة بالأصابع في عمر السّنة.
عدم القدرة على النطق بالكلمات المفردة في عمر ال16 شهراً أو النطق بمقاطع من كلمتين في عمر السنتين.
عدم الرد عند النداء على الطفل بالاسم.
فقدان اللغة أو المهارات الاجتماعية.
قلّة التّواصل بالعينين.
الإفراط بترتيب الألعاب أو الأجسام الأخرى بشكل صفوف.
انعدام الابتسام أو الاستجابة الاجتماعية.
أما المشعرات المتأخرة فتتضمن:
عدم القدرة على تشكيل الصداقات مع الأنداد.
عدم القدرة على بدء المحادثة أو الحفاظ على سيرها.
غياب أو ضعف القدرة على اللعب الوهمي.
استخدام اللغة بشكل أحادي النمط و تكراري أو بشكل غير شائع.
ضيق مجال الاهتمامات و التي غالباً ما تكون غريبةً من حيث التّركيز و الحدّة.
الانشغال بأدوات أو أشياء معينة.
الالتزام العنيد بطقوسٍ أو تصرّفاتٍ مُعيّنة.
حتّى في حال كان أحد هذه المُشعرات صحيحاً بالنّسبة للطّفل، لا بد أن يقاوم الوالدان الرّغبة في الانتظار و مراقبة الوضع؛ لأن المشاكل من هذا النّمط قد تُشير إلى نوعٍ من أنواع الإعاقة في حال لم يكن التوحّد هو المشكلة.
التشخيص:
لا يوجد اختبارٌ مخبريّ أو صورةٌ شُعاعيّة تؤكّد تشخيص التّوحّد، بل يجب أن يُبنى هذا التّشخيص على المحاكمة السّريريّة المتعلقة بمراقبة تصرفات الفرد. ويتطلب التقييم الكامل فريقاً متعدد المجالات يضم عالِماً نَفسياً و طبيب أعصاب و طبيباً نفسياً و مُعالجاً كلامياً و خبراء آخرين لتشخيص الإصابة بأحد أشكال طيف اضطرابات التوحّد. كما قد يتطلّب التقييم الشّامل لطفلٍ مُصابٍ بالتّوحّد ما يلي:الحُصول على التّاريخ الطّبّي الكامل للمريض وعائلته، الفحص الفيزيائي، تقييم سمعي رسمي كامل، إجراء تحاليل مخبرية أو طبية يتم انتقاؤها بشكل فردي حسب الحالة (مثلاً مستويات الرّصاص، و الاختبارات الجينية، الاختبارات الاستقلابية، مرنان مغناطيسي MRI للدماغ، تخطيط الدماغ الكهربائي EEG)، تقييم اللغة و الحديث و التواصل، تقييم الإدراك و السلوك ( مع التركيز على المهارات الاجتماعية و العلاقات، التصرفات الخاطئة، التحفيز و التعزيز، الوظائف الحسية، و التحكم بالذات) إضافةً إلى التقييم الدراسي (مدى الفعالية التعليمية و نمط التعلم).
العلاج:
لا يوجد علاج للتوحّد.و قد كان يتم ارسال أغلب المصابين بهذا الداء إلى المصحّات منذ بضعة عقودٍ مضت؛ إلا أنه و لحسن الحظ لم تعد الظروف كما كانت سابقاً و يعيش أغلب الأطفال المصابون بهذا الداء مع أسرهم.
لقد أظهرت المعرفة المتزايدة بهذا الداء أنّه، و بغضّ النّظر عن شدّة الحالة المَرَضيِّة، يُمكن للعلاج المناسب و التعليم الملائم أن يساعدا العديد من الأطفال المُصابين بالتوحّد على الاندماج مع مُجتمعهم.
التداخلات التعليمية و التربوية: يستخدم المعالجون جلساتٍ تدريبيّةٍ عالية البُنية و شديدة التّركيز على المهارات بهدف مُساعدة الأطفال على تطوير المهارات اللغوية و الاجتماعية، مثل تحليل السّلوك التّطبيقي. لقد طُوِّرَت عدّة أنظمةٍ خاصّةٍ للمُصابين بالتّوحّد، منها:
TEACCH وهو برنامجٌ تمّ تطويرُهُ في ولاية "كارولينا الشمالية"،و هو قائمٌ على مبدأ أنّ البيئة المُحيطة يجب أن تتلاءَم مع المُصاب بالتّوحّد وليس العكس. لا يُركِّز هذا البرنامج على تغييرِ تَصرُّفاتٍ مُعيّنة بقدر ما يهتمّ بتزويد الطّفل بالمهارات الّتي يحتاجها لفهم بيئتهِ و إيصال احتياجاته.
Floor Time وهو مُقاربَةٌ تُساعِدُ الطِّفل المُصاب بالتّوحّد على التّقدم على سُلّم التّطوّر الطّبيعي.
Social Stories مقاربةٌ تَستخدمُ القِصص لتعليمِ الطّفل المَهاراتِ الاجتماعيّة الأمر الّذي يُساعد الطّفل على فهم الرّد المُلائم أو المُتوقَّع لموقفٍ مُعيّن. يتمّ تأليف القِصص بشكلٍ فرديٍّ يتوافق مع كلّ حالةٍ على حدة و غالِباً ما تَحتوي هذه القصص على الموسيقا و الرسومات.
قد تساعد المشورة العائلية لوالديّ و أشِقّاء الطّفل المُصاب بالتّوحّد العائلةَ ككلّ على التّأقلم مع التّحدّيات النّاتجة عن العيش مع الطّفل المتوحّد.
الأدوية: قد يَصف الأطِبّاء أدويةً خاصّةً بعلاج بعض أعراض التوحّد مثل القلق و الاكتئاب و الاضطراب الوسواسي القهري. غالباً ما تستخدم الأدوية المضادّة للذّهان لعلاج اضطرابات السّلوك الشّديدة، بينما يُمكن علاج نوبات الصَّرَع بواحدٍ أو أكثر من مُضادّاتِ الاختلاج. كما و يُمكن استخدام أدويةَ علاج خلل نقص الانتباه بفاعِليّة بهدف إنقاص فرط النّشاط و الاندفاع.
العلاجات الأخرى: هناك الكثير من التداخلات أو العلاجات المتوافرة التي تثير الجدل نظراً لأن الكثير منها (إن لم يكن جميعها) يفتقر إلى دراساتٍ علميّةٍ صحيحةٍ تدعمه. يجب أن يتوخّى الأهل الحذر الشّديد قبل اتّخاذ قرارَ اتبّاعِ طريقة علاجٍ غير مُثبتة. إضافةً إلى أنّه، و على الرُّغم من نجاح التّداخلات الغِذائيّة عند عددٍ من الأطفال، لا بُدّ أن يَحرِص الأهلُ على مُتابَعةِ حالة الطّفل الغذائيّة.
الأبحاث الجديدة في مجال التوحّد:
في 30-3- 2024 قامت جامعة "نوتنغهام" بإجراء دراسةٍ كشفت أنّ الأطفال المُصابين بالتّوحّد قادِرون على فهم الحالة العقليّة لللآخرين بمُجرّد النّظر إلى العينين، الأمر الّذي يُعارض المُعتقدات السّابقة. تم نشر النَتائج في دراسةٍ بعنوان "الجوابُ في العينين- نتائج مذهلة تكشفها أبحاث التوحّد" بقلم د."أسكوش فيدفارثي".
تدّعي دراسةٌ تمّ إجراؤها بإشراف معهد (UC Davis MIND) في 2-2019 أنّ "أعراض التّوحّد السّلوكيّة تتوضّح بين عُمْر 6-12 شهراً". امتدت فترة الدّراسةِ لـ5 سنواتٍ قام خلالها الباحثون بتسجيل كلّ مرّةٍ قام فيها الأطفال المُشاركون بإصدار صوتٍ أو بالابتسام أو حدث فيها تواصلٌ بالعينين حتّى بلغ الطّفل عُمر الثّلاث سنواتٍ و بيّنت النّتائج أنّه عندما بلغ الأطفال عمر السّنة (وليس عمر السّتة أشهر كما تذكر أغلب الدّراسات) كانت أغلب أعراض و علامات التّوحّد قد أصبحت جليّةً بعد أن نشأت ببُطءٍ خلال النّصف الثّاني من السّنة الأولى للحياة.
ذكرت "فيبي كالدويل"، التي تلقّت جائزة (Times/Sternberg Active Life Award) عن علاجاتها الرّائدة، في بحثٍ بعُنوان " كيفيّة التّواصل مع الأطفال المُتوحّدين" المنشور في 4-5-2019؛ أنّ استخدام مبدأ التّفاعل المُكثّف الّذي طرحه "جيراينت إفرايم" في الثّمانينات قد يُساعد في التّواصل مع الأطفال المُتَوحّدين. كما يذكر البحث أنّ "استخدام لغة الجسد للتّواصل يُحفّز التّواصل بالعينين و الرّغبة في الدُّنوّ و الاقتراب كما يزيد من الاستجابةِ الاجتماعيّة".
ذكر "ريتشارد ألين" في19-7-2019 النّتائج المذكورة في دراسةٍ منشورةٍ في (Proceeding of the National Academy of sciences) و الّتي تقول بأنه يمكن أن يتم اكتشاف التوحّد في أصوات الأطفال باستخدام جهاز يدعى LENA(language Environment Analysis) أو تحليل طبيعة اللغة؛ وذلك بتسجيل حديث الطّفل على مدى يومٍ كاملٍ و نقل النّتائج إلى نظامٍ حاسوبيّ خاص يقوم بمُقارنتها مع تلك الخاصّة بأطفالٍ تأكّدت إصابتهم بالتّوحّد، و تبلغ دقّة هذه الطريقة الـ86%.
تحقّقت للعالم نَقلةٌ نوعيَّةٌ في تشخيص و اكتشاف التّوحّد عندما أعلن الباحثون في "مشفى ماكلين التّابع لجامعة هارفارد" و "جامعة يوتاه" أنهم تمكّنوا من تطوير أفضل استقصاءٍ ذا أساسٍ حيويٍّ حتى الآن يُساعد على وضع تشخيصٍ للتّوحّد و ذلك حسب دراسةٍ نُشرت في 2-12-2019. و هذا الاستقصاء هو عبارةٌ عن تصويرٍ ماسحٍ للدّماغ يستطيع التقاط التّغييرات الطّارئة على النّقل ضمن الدّماغ ممّا يَسمح بالتقاط حالة التّوحّد بدقة تقارب الـ100%.
الخلاصة:
الأطفال المُتوحّدون مُحتجزون في عالمٍ من صُنعِهم عَصيَّ الاختراق على الآخرين؛ الأمرُ الّذي يَزيد مِن صُعوبة تقديم المُساعدة و تَلقّيها.
لقد منحنا العلم وسائلَ مُتعدّدة تُتيح لنا التّأقلم مع هذه الحالة و تتيحُ لهؤلاءِ الأطفالَ حياةً هي أقربُ ما يمكن للحياة الطّبيعيّة. إلّا أنّ الاكتشاف المُبكر يبقى هو المُفتاح الأساسيّ الّذي يُتيح لنا الاستفادة من هذه المعرفة.
لا توجد حدود لأهميّة المُلاحظة و التّشخيص المُبكر بهدف تحقيق الاستفادة الكبرى من كل العلاجات المُتوافرة حالياً.
يجب أن نتعلم كيف نحب هؤلاء الأطفال كما هم، بدلاً من أن نمضي الوقت في تبادل الاتهامات حول السبب الذي أدى إلى نُشوء هذه الحالة أساساً.