أن يمشي أحدنا وهو يتكلم مع نفسه، ليس بالضرورة شيئا سيئا أو علامة على الجنون كما يقول البعض، بل ربما هو أحد الأفعال الحكيمة كما يقول الباحثون الكنديون المختصون في علم النفس في إحدى الدراسات الطبية الحديثة. ووفق ما تم نشره في عدد سبتمبر (أيلول) الماضي من مجلة «أكتا سيكولوجيكا» الطبية، فقد أظهرت نتائج دراسة الباحثين من قسم علم النفس بجامعة تورنتو أن استخدام وسيلة التخاطب مع النفس، أو ما يعرف بـ«الصوت الداخلي» ‘inner voice’، يلعب دورا مهما في بلوغ القدرة على ضبط النفس، خاصة نجاح التحكم في لجم صدور السلوكيات المتهورة. وكان عنوان الدراسة «صوت السيطرة على النفس: إعاقة الصوت الداخلي ترفع من حدوث التفاعلات المتهورة».
وقال الباحثون في مقدمة الدراسة إن الحكماء والفلاسفة وعلماء النفس لطالما قالوا إن الصوت الداخلي الذي نسمعه في رؤوسنا ربما يساعدنا على ضبط أفعالنا. وهناك كثير من الأبحاث والدراسات النفسية التي تحدثت عن جدوى الكلمات والعبارات الإيجابية في مساعدتنا على التركيز وأداء المهام بنجاح، مما يقدم دواعي للاعتقاد بأن حديث الإنسان مع نفسه بشكل إيجابي وبناء يسهم في المساعدة على ضبط النفس ومنعها من التصرفات المتهورة.
وأضاف الباحثون: «يرسل الناس إلى أنفسهم رسائل في كل وقت بهدف العمل على ضبط السيطرة على سلوكياتهم، مثل إخبار النفس أن عليها أن تستمر بالسعي في أي عمل يقوم به المرء، وذلك عندما يعترينا الإعياء أو التعب، وأيضا مثل إخبار النفس بضرورة التوقف عن تناول مزيد من الطعام حفاظا على الصحة، أو ضرورة ضبط الانفعالات حال المناقشات الحادة أو التعرض للاستفزازات. وما أردنا معرفته في دراستنا هو: هل صحيح أن ثمة فاعلية وتأثيرا إيجابيا لهذا الحديث مع النفس؟».
وقام الباحثون بسلسلة من التجارب التي تثير حديث الإنسان مع نفسه خلال قيامه بمجموعة من الأفعال والمهمات التي تتطلب ضبط التصرفات وتحاشي التهور في الأداء. ولاحظ الباحثون أن الشخص حينما تترك له فرصة للحديث المباشر مع نفسه خلال قيامه بأداء أحد المهمات، فإن الفرص تقل لارتكاب التصرفات المتهورة والخاطئة. أما إذا تمت إعاقة قدرة المرء على الحديث مع نفسه، كأن يطلب منه ترديد جمل وكلمات خلال أداء المهمة، فإن فرص الوقوع في الأخطاء والتصرفات المتهورة ترتفع. وأضاف الباحثون القول: «وأظهرت لنا الدراسة أن حديث أحدنا مع نفسه بالصوت الداخلي، هو بالفعل يساعد على تنمية القدرة على ضبط النفس ويمنع المرء من اتخاذ قرارات متهورة وخاطئة».
وتأتي أهمية هذه الدراسة من أهمية نجاح أحدنا في ضبط سلوكياته وتصرفاته، ومن نجاح أحدنا في تجنب الوقوع في أخطاء الأفعال والقرارات المتهورة. وما تحاول الدراسة قوله هو أن لدينا في أنفسنا إحدى الوسائل التي يمكن لنا الاستفادة منها لتحقيق تلك الغاية.
ومن مراجعة ما هو مكتوب في مدونات علم النفس، ثمة خلط بين عدة أنواع من الحديث الداخلي في النفس الذي يختلف باختلاف المواقف والظروف. ولذا يختلف ما يدور في الذهن من حديث عند التفكير في مشروع ما، عن تلك الكلمات التي يسمعها المرء حال مواجهته ظروفا طارئة، كالمناقشات الحادة أو الشعور بالألم المفاجئ أو غير ذلك.
ولكن من الجوانب المهمة، التي لم تتطرق إليها البحوث والدراسات الطبية كثيرا، دور الحديث مع النفس في مساعدة الإنسان لنفسه حال تعرضه للأمراض. ومعلوم أن الأمراض، خاصة المزمنة منها، تتطلب تكرار مراجعة الأطباء والاستمرار لسنوات في تناول أنواع من الأدوية، والالتزام بأنواع شتى من الحميات الغذائية والعمل على ضبط وزن الجسم والتحكم في شهية تناول الأطعمة وإجبار النفس على الامتناع عن تناول المشروبات الكحولية والتدخين، والحرص اليومي على ممارسة الرياضة البدنية وغيرها من السلوكيات الصحية في الحياة اليومية.
وبالمراجعة العلمية، ثمة القليل جدا من الدراسات التي بحثت في موضوع «الحديث مع النفس»، هذا على الرغم من أن المرء يقضي أكثر وقته مع نفسه، وأكثر إنسان يتحدث معه المرء هو نفسه!
منقوول