من السهل التعرّف على لوحات اميديو موديلياني وتمييزها عن لوحات غيره من الرسّامين. إذ تبدو نساؤه بأعناق طويلة وعيون لوزية ووجوه بيضاوية.
كما أن في لوحاته طبيعة غنائية يمازجها بعض الغموض الذي يختصر رؤية موديلياني عن الجمال الخالد وروح الإنسان.
غير أن بعض أعماله لا تخلو من حسّية لإظهارها بعض المناطق الخاصّة من الجسد. ونساؤه إجمالا رقيقات مع شيء من الحزن والتأمّل. وميلان الشفاه الخفيف والأعين المظلمة أو الغائرة وسمات زوايا الجسد تعطي إحساسا بالهجر والغربة والانفصال.
وليس في نساء موديلياني شيء من رعونة نساء روبنز أو أناقة محظيّات انغر أو فخامة آلهة بوتيشيللي أو تمثالية ملامح نساء مايكل انجيلو.
أما نساؤه الجريئات فيبدين جادّات وأحيانا كئيبات.
وبالتأكيد هنّ لسن لعوبات ولا جذّابات كثيرا، كأنما علّمتهن الحياة أن الرومانسية مجرّد حماقة وعبث.
ولوحات موديلياني تعكس إلى حدّ كبير شخصيّته الأسطورية. فقد توفّي بمرض السلّ وعمره لا يتجاوز الخامسة والثلاثين. وهو كان نموذجا للرسّام الوسيم الذي عاش حياة بوهيمية في باريس مطلع القرن الماضي. كان إباحيا، مشاكسا، هشّا وموهوبا. غير انه مات فقيرا في غرفة بائسة فوق سطح إحدى البنايات القديمة.
وبعد يومين من موته لحقت به صديقته وأمّ ابنه جاني هيبوتيرن التي كانت تصغره بتسعة عشر عاما بعد أن ألقت بنفسها من النافذة لتقتل هي وجنينها الذي لم يكن قد ولد بعد.
وأسطورة موديلياني ليست واضحة في فنّه. قد يكون في لوحاته حزن وصمت وإحساس بالهدوء والعزلة، لكنها تخلو من مشاعر الغضب والتمرّد أو الإحباط.
وقد ظلّ حبّه لوطنه الأصلي ايطاليا ملازما له على الدوام. وألوانه الخفيفة والباردة يبدو أنها تحاكي ما ترسّب في لاوعيه من ذكريات عن مناظر متلاشية لمبان وطبيعة كان قد رآها في مطلع حياته في بلدته توسكاني.
درس موديلياني الرّسم في فلورنسا وروما. وكان معجبا كثيرا بـ تيتيان وغيوتو وبوتيشيللي، كما عُرف عنه شغفه بالفنون الأفريقية والمصرية واليونانية والهندية القديمة.
وقد أخذ عن الايطاليين الأوائل إنسانيتهم الروحانية وعن المتأخّرين منهم إعجابهم حدّ التقديس بجسد الأنثى وتصويرهم العميق للطبيعة الإنسانية. كما ورث عن اليونانيين نقاء وعظمة الشكل وبساطة ورمزية الشكل الأنثوي الاسطواني، وعن الهنود الحسّية العالية وحركة الآلهة الهندوسية الراقصة، وعن المصريين هالة الآلهة والنبل الذي تعكسه ملامح الملكات.
انتقل موديلياني إلى باريس في العام 1906 وعاش جنبا إلى جنب مع الرسّامين الطليعيين. كما صاحب النحّات الروماني برانكوزي الذي تعلّم على يديه فنّ النحت. وفي ما بعد صنع بعض الأعمال النحتية أشهرها رأس مصنوع من الحجر الجيري يبيّن بوضوح تأثّره بالفنّ الأفريقي.
شهرة موديلياني تجاوزت فنّه بكثير. كما أن أسلوب حياته المنغمس في المتع حجب عن الأعين كثيرا من تراثه وإبداعه الفني. وقد كانت النساء منجذبات بقوّة إلى هذا الشابّ المتخلّع الآسر. كان يقول: عندما تستعدّ امرأة للجلوس أمام رسّام فيجب أن تهبه نفسها بالكامل".
وربّما لهذا السبب لم يسمح لصديقته جاني هيبوتيرن بأن تجلس أمام رينوار لرسمها.
كان موديلياني مصرّا منذ البداية على خلق نموذجه الصوري الخاصّ والشائك عن الجمال. وقد نجح في اختراع جنس جديد من الكائنات ذوات الأطراف المستطيلة والخصور الضّيقة والوجوه الدقيقة اللاتي يغلب على ملامحهنّ الهدوء والبرود وأحيانا الانفعالات الجامدة والمحايدة.