أخذت تقلب في السجاجيد القليلة التي ألقاها على الأرض .. كانت جميعها متشابهة مع اختلافات بسيطة في اللون ، عدا سجادة واحدة بدت لها مميزة بزخارفها وخامتها. لاحظ البائع اهتمامها بها فأخذ يخترع لها – بخبرته – مزايا متعددة واستخدامات مختلفة ومنافع كثيرة لهذه السجادة..
قلبت السجادة على وجهها الآخر لتجد آثارا مغسولة لبقعة كبيرة ، سألته :"هل هذه السجادة جديدة أم مستعملة ؟" .. أظهر البائع غضبا مصطنعا وهو يؤكد لها أنه لا يبيع إلا بضاعة جديدة يأخذها من محل شهير ويدور بها على المنازل وأنه ليس كباقي الباعة النصابين ، أما هذه البقعة فهي ربما قليل من الماء انسكب على السجادة في المخزن أثناء التنظيف ، وهي ستزول مع أول غسلة وحتى إن لم تزل فهي في الجهة السفلى من السجادة ولن يراها أحد ..
تعرف أنه يكذب وأن كل بضاعته مستعملة يجمعها من البيوت التي تستغني عنها ويغسلها أحيانا بنفسه أو في مغسلة إذا كانت في حالة سيئة جدا .. وإلا لماذا يبيع هذه السجادة الأنيقة بهذا الثمن البخس ؟
وقد وجدت في هذه البقعة سببا وجيها لاعطائه أقل مما طلب مقابل الحصول عليها وهو لم يعترض كثيرا في الواقع .. حمل السجاجيد الباقية وانصرف ، ودخلت هي لمنزلها بالسجادة..
وفي غمرة فرحتها بالصفقة الرابحة ، استيقظت حماتها التي تعيش معها في المنزل.. ففردت السجادة أمامها وهي تسألها عن أفضل مكان لوضعها ، وعرضت عليها أن تأخذها في غرفتها إن رغبت خاصة والشتاء قادم ..
وضعت حماتها نظارة الرؤية وتطلعت للسجادة المفرودة لثانيتين ثم صاحت : "هذه السجادة لا تدخل بيت ابني ، أعوذ بالله ، قلبي منقبض منها !"
دهشت الزوجة من تصرف حماتها وحاولت اقناعها بالهدوء واللين ، إلا أن العجوز خلعت نظارتها ورفضت أن تلقى نظرة أخرى على السجادة ولا أن تناقش قرارها برفض السجادة تماما في أي مكان في الشقة ولا حتى خارج الشقة على السلم ..
ولم يكن بيد الزوجة إلا أن تتصل بزوجها باكية لتخبره بتصرفات أمه التي تتعمد مضايقتها دائما ، فأشار عليها الزوج أن تتحلى بالحكمة وان تنادي بائع السجاجيد ليأخذ سجادته وأن تستبدل بها سجادة أخرى ..
أما حماتها فقد هزت رأسها في تعجب من بنات هذه الأيام اللاتي أصبن بالعمى في البصيرة وإن كانت أبصارهن سليمة ، إذ كيف لا ترى زوجة أبنها أن هذه السجادة لا تصلح لمنزلهم ..
لا تصلح أبدا ..
* * *
وفي منزل آخر ليس بعيدا كان يعيش "فؤاد" مع أخته الصغيرة "فايزة" وحدهما منذ أن توفى والداهما .. وقد تم تقسيم العالم إلى جزئين : داخل البيت وهو الجزء الخاص ب"فايزة" تعرف عنه كل شيء وتتصرف فيه بحريتها التامة ، وخارج البيت وهو عالم "فؤاد" يعمل ويخرج مع أصحابه ويسافر ويعود ويفعل ما يحلو له..
ولأن التقسيم لم يكن عادلا في رأي "فايزة" على الأقل ، فقد كانت هناك ثورات محدودة تقوم بين الحين والآخر تطلب فيه "فايزة" أن تخرج من عالمها المحدود لتقابل صديقاتها أو ترى شيئا من الدنيا التي لا تعرفها إلا من خلال شاشات التلفزيون المحلية. لكن هذه الطلبات لم تكن تلقى أي قبول من "فؤاد" الذي كان يتعلل بالخوف عليها تارة وتارة أخرى بأنها ليست لها صديقات لتخرج معهن ، متجاهلا حقيقة أنها لم تعطى فرصة لتكوين صداقة أصلا ..
وبعد أن تهدأ هذه الثورات كان "فؤاد" يراجع نفسه ويكتشف أنه ربما يكون ظلم أخته قليلا وأنه يجب أن يصالحها بهدية بسيطة .. فهو يعرف أن حدود تقسيم العالمين ربما تحتاج إلى مراجعة قليلا ، لكنه لا يملك الشجاعة الكافية للاعتراف بذلك وليس لديه تصور عن التقسيم العادل ويخشى أن يترك لأخته المجال أكثر مما ينبغي فيتحمل مسؤوليات كبيرة.. فليأخذ بالأحوط ويحتفظ بالتقسيم القديم وليحرص بين الحين والآخر أن يكسب ودها بطريقة أخرى ..
دخل "فؤاد" على أخته هذا اليوم وهو يقول :"أختي حبيبتي ، لقد أحضرت لكي هدية رائعة .. أنا واثق أنها ستعجبك .."
ابتسمت ، فهي رغم كل ثوراتها طيبة القلب سهلة الإرضاء .. الآن أضيف إلى عالمها الصغير شيئا جديدا ..
أصبح لديها سجادة ..
* * *
وضعت "فايزة" الهدية على أرضية الصالة الرئيسية للمنزل ، وبالتالي أصبحت السجادة مشتركة بينها وبين أخيها ، وهي متاحة أيضا لمن يأتي من الضيوف النادرين .. لم تكن تعتبر "فايزة" السجادة ملكها ، ولا كل هدايا أخيها السابقة أيضا ، فهي تعرف أن السجادة ضرورية للصالة وأن أخاها أراد أن يستغل فرصة شرائها من أحد الباعة المتجولين ليوهمها أنه اشتراها لها ..
طيب هو "فؤاد" ، لا تنكر هذا .. لكنه دائما يقابل محاولاتها للخروج من الشرنقة بحزم وكأن اطلاعها على ما هو خارج حدود المنزل سينتقص من عالمه وأنه لا مجال لأن يشتركا معا في مساحة واحدة .. كانت تتمنى أن تذهب بعيدا وأن تتحرك بحرية أكبر.. كانت تنظر لقدميها وتتساءل إن كانت بامكانهما الجري ؟ لا تعرف الإجابة لأن نصيبها من الدنيا محدود بالمنزل الصغير الذي لا يمكن الجري فيه ..
و"فؤاد" الذي كان يخاف عليها من الخروج من المنزل ، أصبحت لديه في الآونة الأخيرة مخاوف أخرى من العقد النفسية التي ربما يسببها طول الحبس بين الجدران الأربعة .. خاصة بعد أن لاحظ أمورا غير معتادة وليس لها تفسير منطقي ..
"أين اختفى قميصي الجديد ؟" ، سألها وهي نائمة على السرير .. قالت :"لقد تركته في الصالة بعد أن قمت بكيه ولم أره بعد ذلك"..
"ساعتي لا أجدها" .. ترد "ربما تكون وقعت منك في الطريق ، اشتري غيرها ."
"يسعدني أنك أكلت من التفاح ، مع أنك دائما تقولين أنك لا تحبينه " .. تندهش وتقول :"أنا لم آكل شيئا .. أنا صائمة !"
* * *
أكثر من حادثة غريبة وقعت في أسبوع واحد ، كان يفكر "فؤاد" وهو في نائم في غرفته .. حياته الرتيبة مع أخته تتغير ، فكل يوم تقريبا يختلفان على أمر ما ، أحيانا تتحرك أشياء من مكانها وتنكر هي أنها فعلت ذلك ، وأحيانا تختفي الأشياء تماما ! وهذا عجيب جدا ، فهي لا تخرج من البيت فأين ذهبت بساعته التي يضعها في نفس المكان كل يوم منذ سنوات ولا يمكن أن ينسى مكانها أبدا .. لو كانت تخرج لقال إنها سرقتها وباعتها ..
طرد هذا الخاطر من ذهنه ، أخته لا يمكن أن تفعل هذا ، ثم أنه لا يحرمها من أية نقود تطلبها ، ولا يبخل عليها في أكل أو شرب أو ملابس ، وبين الحين والآخر يهبها هدية أو يعطيها مبلغا من المال في يدها ..
التفسير الوحيد هو أن أخته ضاقت بسجنها وأن حالتها النفسية هي التي تدفعها لهذه الأفعال الغير مفهومة .. غدا سيستشير صديقه الذي درس الاجتماع وعلم النفس وسيرشده للحل .. مع أن هذا الصديق لا يعمل في هذا المجال ، لكنه الوحيد الذي يمكن أن ياتمنه على أسرار العائلة ، لا يمكن أن يذهب بأخته لطبيب نفسي حقيقي ويسيء إلى سمعتها وسمعة العائلة التي حافظ عليها طول عمره ..
كان قد أغلق عينيه ، عندما أحس بحركة في الصالة ! لم يسمع أي صوت ولكنه مجرد احساس أن شيئا ما يتحرك هناك .. أخته تنام قبله نوما عميقا ونادرا ما تستيقظ قبل الفجر ، فماذا عساه يكون في الصالة إذن ؟
تسلل بحذر إلى الزاوية التي يمكن أن يرى منها الصالة ، ثم تردد في أن يلقى عليها نظرة.. فالذي يتحرك دون أن يحدث صوتا في الليل هو شخص أو شيء رهيب .. لعله لص محترف !
تراجع للخلف ودخل غرفة أخته ، أيقظها بهلع وقال بصوت منخفض : "هناك لص في الصالة !" .. والحق أنها لم تخف ، فوجود أخيها سيحمها من اللص ، بل إن شيئا من السرور دخل على نفسها لأن اللص أمر جديد في حياتها المملة ، سيكون هناك الكثير من الإثارة وسيجري الأدرينالين في دمائها لأول مرة منذ سنوات .
قامت مع أخيها وبحرص شديد اقتربا من الصالة ، وبدا واضحا لهما أن هناك حركة فيها بسبب انعكاس الضوء على الحائط المقابل .. تسمرا مكانهما للحظة اختفت خلالها حركة الضوء الساقط على الحائط وعاد إلى سكونه.. تبادلا النظرات وقررا أن يقتربا أكثر ببطء حتى أصبحت الصالة كلها أمامهم ..
لم يكن هناك أي شيء غريب في الصالة .. كل قطع الأثاث البسيط في مكانها واللوحات مكانها وحتى الأتربة التي لم تنظفها "فايزة" منذ أسبوع كانت كما هي .. بحسم قال "فؤاد" :"يبدو أني متوتر من العمل ومن التفكير في بعض الأمور .. وربما كان هناك فأر وخرج من حيث دخل .. إنه شباك المطبخ المكسور بكل تأكيد .. " واستدار للمطبخ ليضع لوحا من الخشب على القطعة المكسورة من الشباك مؤقتا حتى يستدعي النجار لإصلاحه ..
أما "فايزة" فلم تقتنع بهذا التفسير ، إنها تعيش في البيت أكثر من أخيها وتعرف كل قطعة فيه .. بل إنها تعرف ترتيب ذرات الهواء في كل غرفة كيف كانت عندما تركتها آخر مرة .. واحساسها الداخلي يخبرها بأن ما كان في الصالة ليس فأرا بالتأكيد .. وبما أن قطع الأثاث القديم ليست من عادتها أن تتحرك ، فإن الأحتمال الباقي هو أن السجادة هي التي تحركت .. وارتجف قلبها لهذا الخاطر وهي تسرح في الزخارف العجيبة التي زينت بها السجادة وخيل إليها أنها عبارة عن وجه ، وأن الوجه يبتسم لها !
* * *
لعدة أيام أخرى لم تجرؤ "فايزة" على تنظيف الصالة أو النظر في "وجه" السجادة ، مع إيمانها بأن السجاجيد لا تتحرك ، ومع أن السجادة فوقها كراسي ومنضدة ثقيلة ، فحتى لو كانت تمشي فإن قطع الأثاث ستمنعها ، مالم تكن السجادة أقوى منهم فتطرحهم أرضا وتسير بحرية في الشقة !
كانت تعرف أن هذه خواطر فارغة وغير حقيقية .. السجاد لا يتحرك ولا يبتسم ، هذه حقيقة يعرفها الجميع .. وقد حان الوقت للقيام بتنظيف الأتربة من الصالة وتجاهل هذه الأوهام .. كان أخوها خارج المنزل وهي لا تجد ما تفعله ككل يوم . اتجهت للصالة وبدأت تنفض التراب عن الكراسي وتمسح اللوحات ..
استغرقت في التنظيف ونسيت كل ما يخص السجادة التي استقرت على أرض الصالة ، تعمل في بطء فهي ليس لديها شيء آخر تفعله حتى نهاية اليوم.. صعدت فوق كرسي لتمسح لوحة وألتفتت عفويا إلى الأرض حيث ستسقط الأتربة التي تنفضها من اللوحات ، والتي ستكنسها بعد ذلك في الخطوة الأخيرة من عملية التنظيف .. ولكنها تسمرت في مكانها عندما لاحظت تلك الآثار .. كانت هناك آثار واضحة لقدم شخص سار على هذه البقعة !!
نزلت من على الكرسي وأخذت تتفحص الآثار .. ففي الأسبوعين السابقين لم تسر هي في هذا المكان من أرض الصالة بالتأكيد ، ولا أخوها يسير حافيا على البلاط هكذا .. ثم إن هذه القدم أكبر بكثير من قدمها أو قدم أخيها .. هناك شخص ما كان يسير هنا ، ويبدو أنه نسي أن يزيل آثار أقدامه أو لم ينتبه لها أصلا ..
لكن السؤال الذي دار بذهنها هو : مين أين جاء صاحب هذه الآثار ؟ وأين اختفى ؟ هل هو رجل خفي يسير ولا يراه أحد لكنه يترك آثاره على الأرض كما يحدث في الأفلام ؟
كان لديها شعور بأن للسجادة دور في هذه الأمور كلها ،لعلها هي التي كانت تتحرك ، وربما كان لها أرجل أيضا .. ورغم سذاجة الفكرة إلا أنها لم تستطع أن تقاوم رغبتها في رؤية السجادة من الجهة السفلى لتتأكد من أنها بلا أرجل !
قلبت السجادة ، وخاب ظنها عندما رأتها سجادة عادية جدا . كل ما يميزها هو بقعة من سائل ما ، يبدو أنه انسكب عليها وقد غسلت آثاره من الجهة العلوية فقط . واضح أن هذه السجادة مستعملة ، وهي لم تتفاجأ بالأمر فمنذ أن دخل بها أخوها حاملا إياها هو والبائع وهي تدرك هذا. إن للسجاد الجديد رائحة وملمس لا يخطئهما أحد ..
القصة تتضح إذن ، هذه سجادة انكسب عليها شيء فتخلص منها أصحابها ، وقد غسلها بائع السجاجيد وباعها لأخيها.. لكن ما علاقة هذا بآثار الأقدام ؟ وما الذي يتحرك في الصالة في الليالي ؟ بل أين أختفت ساعة أخيها والأغراض الأخرى ؟
خطر تفسير واحد ببالها ، وهو تفسير علمي تماما ، نابع من متابعتها لبرنامج الدكتور مصطفى محمود عن العلم والإيمان وبعض حلقات الخيال العلمي الأجنبية ورواياتين أو ثلاثة للدكتور نبيل فاروق أحضرهم لها أخوها ذات يوم كهدية صلح بعد أحد الخلافات ..
التفسير هو أن هذه البقعة هي فجوة بين عالمين ! هناك سائل رهيب انكسب على السجادة وفتح الحاجز الذي يفصل بيننا وبين الجن أو الأشباح أو أي مخلوقات أخرى. وهذه المخلوقات تخرج من البقعة لتمرح في الشقة وتسرق الأغراض ، ثم تعود إلى عالمها !
سوف يضحك أخوها من هذا التفسير ويتهمها بالجهل ولن يصدقها أحد .. حتى هي نفسها ستشك في عقلانية الفكرة واحتمال حدوثها إذا جادلها أخوها قليلا .. عندما يعود ستسأله إن كان هو صاحب هذه الآثار أو إن كان لديه تفسيرا أكثر عقلانية لوجودها ..
أما الآن فقد نوت أن تغسل آثار السائل التي على ظهر السجادة ، فإن لم تكن هذه الآثار بوابة بين عالمنا وعالم آخر ، فهي بقعة غير نظيفة يجب أن يتم غسلها بالماء والصابون المعطر والكلور.. جهزت أدوات التنظيف وبدأت العمل دون أن تدرى أن ما تفعله خطير .. وأن ما سيترتب عليه أشد خطورة !
* * *
عاد أخوها في نهاية اليوم وقبل أن يخلع ملابس العمل أخذته من يده إلى آثر القدم المطبوعة في التراب.. كانت قد غسلت السجادة جيدا وأزالت ما كان بها من أوساخ ولكنها لم تكمل تظيف الصالة حتى تظل آثار الشخص أو الشيء الذي كان يسير عليها موجودة ..
وعندما أتمت شرح نظريتها حول العالمين الذين انفتحا على بعضهما من خلال بقعة في سجادة الصالة ، مؤيدة كلامها بآثار الأقدام التي لم تكن لأخيها طبعا ، بدأ هو يحلل الأمور من وجهة نظر أخرى مستعيدا كلام صديقه ومستشاره في الأمور النفسية ، والذي كان قد فاتحه في مشكلة أخته على استحياء .. فقال الصديق :
"أختك تعاني من الوحدة ، إن الحبس الأنفرادي كعقاب للمجرمين هو من أقسى العقوبات لما يحدثه من تدمير لطاقة الفرد الحيوية والنفسية ، وأنت مخطيء في تعاملك مع أختك ، وهي حاولت أن تنبهك بالكلام والنقاش وأحيانا بالشجار حول أي سبب مهم أو تافه ، فقط لتظهر لك عدم رضاها ..
وأخيرا عندما لم تفلح كل هذه الوسائل ، بدأت في محاولة لفت انتباهك بطريقة أخرى وذلك عندما تركت شباك المطبخ المكسور مفتوحا ليدخل منه فأر ، واستغلت وجود الفأر لتصنع قصة عن لص أو شبح .. ولا أستغرب إن كانت ستؤلف لك غدا قصة عن كائنات فضائية تخرج من الثلاجة !
اسمع يا "فؤاد" ، أختك بحاجة إلى أهتمام أكبر منك وبأن تفتح لها مساحة في عالم الواقع بدلا من أن تفتح لنفسها هي بابا لعالم الأوهام والأمراض النفسية المعقدة ، وعندها لن استطيع أن أفيدك وستضطر للذهاب إلى طبيب نفسي حقيقي .. أرجوك حاول أن تساعدها وإن كان هذا سيتطلب منك مجهودا أكبر ، وتذكر أن لا الهدايا ولا الأموال يمكنها أن تنفع من كان في الحبس الإنفرادي .."
لقد اختلقت أختى كل هذه الأحداث وربطتها مع بعضها بخيال تحسد عليه ، ولم تكتف بهذا ، بل صنعت هذه الآثار بمهارة .. إنها تبدو حقيقة لولا أنه يستحيل أن يكون هناك من سار في هذه المنطقة من الصالة دون علمه أو علمها.. كما أن أثر القدم الي صنعتها "فايزة" تبدو غير متقنة ولا يمكن أن تكون أدمية أبدا ..
* * *
في تلك الليلة ساد الهدوء الشقة ولم تكن هناك أي أصوات غريبة ، حتى أن "فايزة" قررت أن تنام نوما هنيئا بعد أن أغلقت بوابة الجحيم كما تصورت .. كانت تتخيل أنها لا تقل بطولة عن أقوى الرجال ، فهي بغسيلها للبقعة التي كانت على ظهر السجادة قد حمت الأرض كلها من شر لا يعرف أحد حدوده !
وفي غمرة فرحها بالإنجاز الذي لم يعترف به أخوها ، شعرت بالعطش فتوجهت للمطبخ لتحضر كوبا من الماء .. تحركت في خفة حتى لا يستيقظ أخوها منزعجا ، ولما اقتربت من الصالة أحست بحركة خاطفة .. انتابها القلق من أن يكون انجازها الكبير في تنظيف الصالة لم يؤت كل ثماره وأن الفجوة لا تزال مفتوحة ، فوقفت خلف ستارة بعيدة تنظر للصالة في الظلام متفحصة كل شبر فيها ..
كان كل شيء في مكانه ، لا يوجد ما يثير الاستغراب أو يدعو للقلق .. لكنها استمرت واقفة في مخبئها ربع ساعة لا تتحرك لتتأكد تماما من أن كل شيء على ما يرام.. وبعد فترة من الاختباء أدركت أنها لا فائدة مما تفعله فهمت بالعودة إلى المطبخ لتحضر كوب الماء ، عندما لمحت حركة خفيفة على سطح السجادة ..
لم تتبين طبيعة الحركة وهي بعيدة نسبيا عن السجادة ، وخافت أن تقترب فتتوقف الحركة .. انتظرت في مكانها حابسة أنفاسها وهي ترى خيوط السجادة تخرج منها وتدور حول نفسها في الهواء كأنها اعصار صغير ، ثم تتجمع في شكل غير واضح ..
مرت ثوان والشكل يتكون .. حتى ظهر بوضوح رغم الظلام رجل كامل ! رجل ضخم من خيوط ووبر مختلفة الألوان ، لكنها بدت متناسقة عليه كأنها لباس مزخرف وكان بها شبه كبير من زخرفة السجادة التي بدت في هذه اللحظات عارية إلا من بعض الخيوط القليلة التي بقيت متعلقة بأطرافها ..
كان وجه الرجل ينظر إلى زاوية غير التي تختفي فيها "فايزة" ، ولهذا لم يلمحها وهي تفتح فمها في انبهار وخوف دون أن يصدر عنها أي صوت.. قام رجل السجادة بتحريك جسده كأنه كان محبوسا في صندوق ضيق وتحرر منه.. أخذ يشد أطرافه في حركات أشبه بتمارين رياضية ، فبدت عضلاته المكسوة بالخيوط الملونة للسجادة في منتهى التناسق والجمال ، وأطراف الخيوط تتمايل مع حركاته في مشهد ساكن رهيب ..
وكان هذا فوق احتمال "فايزة" فشهقت في فزع شهقة قوية انتبه لها رجل السجادة ، فالتفت فجأة إليها والتقت عيناه بعينيها لمدة لا تزيد عن جزء من مائة جزء من الثانية ، تفكك بعدها فورا وعادت الخيوط إلى أماكنها في ثانية واحدة !
وعلى صوت الشهقة استيقظ "فؤاد" مفزوعا ومتضايقا في نفس الوقت ، متوقعا من أخته حكاية جديدة تلفت بها انتباهه لمشاكلها التي يعرفها وقد قرر بالفعل أن يبدأ في حلها .. في كلمات متقطعة أخذت تصف له الرجل الذي تكون جلده من خيوط السجادة وكيف أنه كان يقف في الصالة ويتحرك ثم عاد مرة أخرى إلى السجادة عندما رأها ..
كان الوقت متأخرا و"فؤاد" يريد أن ينام ليلحق بعمله في الصباح الباكر ، ولذلك وقف بعصبية على السجادة وأخذ يقفز عليها قائلا :"هذه هي السجادة .. لا شيء فيها ، لا رجال ولا نساء ولا شيء ، انظري إليها ، تعالي قفي عليها ، امسكيها.. هل فيها أي شيء غريب ؟ هل أصابك الجنون ؟ هل .." ثم قطع عبارته بغتة عندما لاحظ شيئا وأخذ يتأمل السجادة لحظة ..
قطعت تأمله "فايزة" عندما ارتمت عليه باكية ، ورجته ألا يتركها في البيت وحدها ، وأن يلقي بالسجادة خارج المنزل .. وأن يأخذها معه إلى العمل إذا لم يكن هناك مكان تذهب إليه .. ضمها إليه وأخذها إلى غرفتها مهدئا إياها دون جدوى ، إذ ظلت تبكي حتى الصباح رافضة أن تنام أو تتركه ينام إلا في نفس الغرفة جوارها قبل الفجر بقليل عندما نفذت طاقتها ونامت هي أيضا ..
* * *
كان قد تأخر على ميعاد العمل بسبب سهرة الليلة الماضية .. فأسرع الخطوات نحو الطريق العمومي ليستقل سيارة أجرة.. لكنه لمح على ناصية الشارع المقابل رجلا يحمل سجاجيد ، إنه البائع الذي اشترى منه السجادة.. أسرع نحوه وحياه.. استقبله الرجل بترحاب عارضا عليه سجاجيده الجديدة ومذكرا إياه بأنه باع له في المرة السابقة سجادة مميزة. فقال "فؤاد" عندئذ :" هذا ما جئت لك من أجله ، كنت أريد أن أسألك من أي منزل أشتريت هذه السجادة التي بعتها لي من قبل ؟" ، بدأ الضيق على الرجل وحاول انكار أنه يبيع سجاجيد مستعملة ، وعاد يكرر حكاية شركة السجاد التي يعمل بها كمندوب مبيعات !
قال "فؤاد" : "اسمعني جيدا ، ساعطيك ثمن السجادة مرة أخرى لو أخبرتني من أين أخذتها ، أي بيت باعها لك ؟ إنه ليس بعيدا عن هنا بالتأكيد فأنت لن تقدر على حمل السجاد لمسافة كبيرة دون سيارة"
رد البائع وهو بين الرجاء في الانتفاع بالمال من "فؤاد" وبين الخوف على سمعته إن اعترف بأن سجاده مستعمل :"أنا لم يسألني أحد من قبل هذا السؤال رغم أني أعمل في بيع السجاد منذ كنت طفلا.. لم يطلب أحد أن يعرف أين كانت سجادته قبل أن تصل إليه .. إن هذا سيسبب لي مشكلة مع أصحابها الأولين ولن يفيد صاحبها الجديد.."
قال "فؤاد" : "الجميع يعلم أن سجادك مستعمل وأنك تأتي به من المنازل ، لا تضيع وقتي من فضلك وأعطني عنوان المنزل الذي اشتريت منه السجادة ، إن السجادة تعجبني وأريد أن أعرف من أي مصنع حصلوا عليها وبكم ، لن يسبب لك هذا أية مشاكل .." ، وأخرج من جيبه بعض النقود ليعدها أمامه ..
قال البائع وعينه على النقود التي تتحرك في يد "فؤاد" : "لقد نسيت العنوان يا سيدي ، إن هذا الأمر كان من فترة طويلة".
ولكن النقود التي يعدها "فؤاد" وصلت إلى ما يساوي ثمن السجادة مرة ونصف ، وهو مبلغ لا يكسبه البائع إن عمل أسبوعا متواصلا خاصة في هذه الأيام التي ليس فيها بيع ولا شراء ..
قال البائع :"حسنا ، لقد تذكرت .. إن أصحاب هذه السجادة ليسوا هنا .. إنهم في حي (..) ، شارع (..) ، تدخل يمينا إلى شارع صغير ، ستجد محلا اسمه (..) وعلى الجهة المقابلة ستجد سيدة جالسة على كرسيها في الشارع ، اسألها عن منزل الأستاذ (..) ، وحاول أن تخبرها في البداية أنك لست من الحكومة لأن مظهرك يوحي بأنك موظف ، وهي تبيع الدجاجات المذبوحة بطريقة لا تخضع لرقابة "الصحة" ، اذهب إلى المنزل واصعد الدور الثالث ، أول شقة على يمينك هي التي أخذت منها السجادة "
اختطف البائع النقود من يد "فؤاد" ، واستدار راجعا للشارع الرئيسي وهو ينوي ألا يبيع أو يشتري اليوم احتفالا بهذه المكسب.. رفع هاتفه المحمول إلى أذنه وتحدث إلى أحدهم طالبا منه أن يحضر السيارة.. هنا فهم "فؤاد" كيف وصلت السجادة من ذلك الحي البعيد إلى هنا ، إن هناك سيارة ربما لصديق أو شريك للبائع تحمل السجاد من منطقة لأخرى .. بدا هذا منطقيا ، إذ لا يصح أن يبيع السجاد المستعمل لجيران في نفس المنطقة فيزور بعضهم بعضا ويشاهدون سجادهم ، وينكشف أمره ويعرف الناس أن السجاد كله مستعمل.
وضع "فؤاد" العنوان في جيبه ، وتوجه إلى عمله وهو لا يدري لماذا أنفق هذا المبلغ الكبير على العنوان .. ربما يكون قد تسرع قليلا ، فماذا سيفيده معرفة أصحاب السجادة السابقين ؟ إن السجادة عادية تماما وليس فيها أي شيء مريب ، ماعدا شيء واحد كان قد لاحظه بالأمس لكنه لا يتذكر ما هو .. عموما العنوان لن يضر في شيء.. وأخته الآن في أمان ، فحتى لو كانت هناك وحوش تخرج من السجادة فإنها لن تغامر بالخروج في وضح النهار ..
هدأ باله وهو يدخل لمكان عمله ويجلس على مكتبه ويشعر أن الأمور كلها تحت السيطرة ، وهو لا يدري أنه قد ترك أخته التي كان يخاف عليها من نسيم الهواء وحدها في شقة صغيرة مع كائن ضخم مخيف .. كائن لا يعرف معنى الليل ولا النهار .. ولكنه يخرج من السجادة متى يحلو له ..
* * *
استيقظت "فايزة" من النوم متأخرة ، وتذكرت أحداث الليلة السابقة ولكنها لم تكن خائفة فقد كانت تحلم للتو بحلم جميل ، فيه رجل قوي يحتضنها ويأخذ بيدها ويقبلها .. بينما تراقصت على شفتيه خيوط ملونة بتناسق بديع وكانت له نفس عين رجل السجادة..
إنها تلك الأحلام المركبة ، الرغبة في الزواج تداخلت مع شكل رجل السجادة لتصنع هذا الحلم العجيب .. وانتبهت "فايزة" إلى أن رجل السجادة هذا هو أول رجل تراه في حياتها غير أخيها منذ سنوات ! خرجت إلى الصالة وجلست بالقرب من السجادة وأخذت تحدثها :"لا داعي للاختباء ، أنا وأنت نعرف أنك موجود .. اخرج وكلمني ، أنا وحيدة مثلك .. أعرف أنك لن تؤذيني ، وأنا أيضا لن أضرك في شيء .. هيا .. تكون كما تكونت بالأمس ولا تخف .. لن يعود أخي الآن"
استمرت تتكلم هكذا دون أن يحدث شيء حتى بدا لها أنها جنت .. ولكن أطراف السجادة بدأت تتحرك .. خفق قلبها وارتعدت أطرافها كطفل يقرأ في كتب الجن غير مصدق لها وفجأة يظهر له جنيا ! أعادت كلماتها ورجاءها مرات ومرات ..
إنها وحدها في المنزل وليس هناك أكثر إثارة من مداعبة هذه السجادة الغريبة .. لكن السجادة لم تكن تلعب . إن اللعب ليس موجودا في قاموس رجل السجادة ، فعندما يناديه أحد بهذه العبارات فإن هذا معناه أن يخرج .. يخرج لمهمة محددة طال انتظارها ..
* * *
فجأة وبدون مقدمات تذكر "فؤاد" وهو على مكتبه في العمل .. زخارف السجادة التي رآها بالأمس لم تكن منتظمة ! هذا ما لفت نظره قبل أن تبدأ أخته في البكاء.. فعندما عاد الرجل بسرعة إلى السجادة لم تنتظم الزخارف في نفس الأشكال بالظبط ..
إذن ربما تكون أخته على صواب .. رغم صعوبة تقبل الفكرة ، لكنه التفسير الأقرب للمنطق لما حدث لزخارف السجادة .. ليس معقولا أن أخته هي التي فككت الخيوط والوبر وفعلت هذا ..
أخرج العنوان من جيبه واستأذن من عمله ليغادر مبكرا .. سمح له مديره بصعوبة فقد جاء متأخرا أصلا ، لكنه أخبره أن اخته مريضة وهو يرجو في داخله ألا يتجاوز الأمر مسألة المرض والخيالات ..
استغرق الطريق إلى ذلك المنزل ساعتين ، لكنه وصل إلى الشقة التي كانت ترقد على أرضها تلك السجادة الرهيبة ذات يوم.. طرق الباب بحرج ، وهو يحاول أن يتذكر الكلمات التي جهزها طوال الطريق ليقولها في هذا الموقف..
فتح الباب رجل عجوز يتحرك بصعوبة ، وإن كانت نظراته تشي بذكاء واضح .. أرتبك "فؤاد" قليلا وهو يشرح سبب حضوره :"لقد اشتريت سجادة من أحد البائعين و .." ، لم يكمل عبارته فقد قاطعه الرجل باشارة من يده داعيا إياه للدخول !
زال الارتباك عن "فؤاد" وحلت مكانه الدهشة ، فالرجل يبدو وكأنه يتوقع قدومه .. جلس "فؤاد" حيث أشار إليه الرجل وظل صامتا في انتظار أن يسمع منه شيئا عن السجادة ، لكن الرجل لم يتكلم .. فتنحنح "فؤاد" وقال :"هي سجادة جميلة ، ولكن أختي الصغيرة لديها خيال واسع ، تقول إن هناك رجل يخرج من السجادة .. طبعا أنا لم أصدق هذا الكلام لكن بالأمس فقط لاحظت أن زخارف السجادة قد تغيرت. لا أعرف إن كانت هذه تهيؤات أم حقيقة .. قررت أن أحسم الأمر وآتي إليك لتخبرني ما أمر هذه السجادة ؟"
لم يجب الرجل مباشرة ، بل التقط نفسين أو ثلاثة قبل أن يرد بهدوء :"اسمح لي أن أعرفك بنفسي في البداية ، أسمي هو "عماد" ، وأنا رجل عجوز وحيد لا يؤنس وحدتي إلا أحفادي الذين يأتون من منزلهم في الشارع الخلفي .. وفي الصيف الماضي كنت في رحلة طويلة وطلبوا مني مفتاح المنزل لكي يأتوا مع أصحابهم ويوصلوا جهاز الألعاب بالتلفزيون الجديد الذي اشتريته.. لا أحب أن يدخل أحد بيتي في غيابي ، لكن هؤلاء الأولاد كثيرا ما يسألون عني وعندما تصل إلى مثل عمري ستفهم معنى أن يسأل أحد عنك وأنت لم تعد لك فوائد كثيرة"
"لا أعرف ماذا حدث بالظبط ، لكني عندما عدت من الرحلة أخبروني أن الملل قد أصابهم قليلا فقرروا أن يخترعوا لعبة غريبة ، أنت تعرف المراهقين وجنونهم ، كانت اللعبة أن ينزف كل منهم بعضا من دمه حتى يصاب بالإغماء ، ومن يستطيع أن يصمد أكثر يكون فائزا .. نوع من اختبار القوة الاحمق"
"كانت هناك أدوات حادة لقطع الأوردة والشرايين ، وكؤوس لقياس كميات الدم ، وقطع من القطن توهموا أنها كافية لإيقاف النزيف عند الحاجة .. طبعا انتهى الأمر بطلب الإسعاف ولم يصب أحد بسوء كبير من هذه الحماقة ، إلا أنا .. فقد انسكبت كميات كبيرة من الدماء فوق سجادتي التي كانوا يلعبون عليها .."
"أعطيت السجادة لحارس العمارة ليغسلها ، وقد بذل مجهودا كبيرا حتى أعادها كما كانت تقريبا .. بعد تلك الحادثة مباشرة بدأ رجل السجادة في الخروج"
شهق "فؤاد" مفزوعا وقال :"إذن هناك رجل فعلا في السجادة .. اختي لم تكن تتخيل"
قال "عماد" وهو يهز رأسه نافيا :"لا ، أختك لم تتوهم ، لقد أدت تلك الحادثة إلى تحرير روح السجادة فتشكلت على شكل رجل ، وهو شكل مناسب لنموذج القوة التي كان الأولاد المراهقون يتخيلونها أثناء لعبتهم .. إن الأرواح ليست لها أشكال بالمعنى الخاص بنا كما تعلم"
بدا الارتياب على "فؤاد" وهو يفكر بصوت عال قائلا :"ولكن كيف يكون انسكاب الدم وحده هو الذي أتى بهذا الكائن ؟ أعطني سجادة وساسكب عليها طن من الدماء وأتحداك لو تلبس بها جني أو أي روح .. أعتقد أن هؤلاء الصبية كانوا يمارسون طقوسا سحرية أو أي شيء من هذه التخاريف التي تدعي تحضيرالجن".
رد "عماد" : "لقد أصبت في جزء من كلامك ولكن بقيته ليست كذلك .. أنا متفق معك في أن انسكاب كمية من الدم على السجادة لا يحدث تأثيرا على الاطلاق .. لابد أن يكون هناك تعويذة ما ، هذه قاعدة أساسية في السحر أن المواد التي تدخل في الطقس السحري لا تتفاعل مع نفسها تلقائيا هكذا ، لابد أن يلقى شخص ما عبارات معينة أو يقوم بحركات مثلا.. وغالبا ما يكون واعيا لهذا.. لكن هؤلاء الأولاد لن يقولوا الحقيقة أبدا ، ربما تكون قصة لعبة الدم من وحي خيالهم ليداروا بها لعبة أكبر لتحضير الجن مثلا كما قلت.. ولأنهم يعرفون خطورة اللعبة فإن المكان المناسب لتجربتها كان هو بيت جدهم العجوز ، الرجل الذي لم يبق في عمره ولا صحته الكثير ، وأي ضرر سيصيبه فلن تكون الخسارة كبيرة"
كان يتحدث عن تقدمه في العمر بمرارة واضحة ، ويبدو أنه أدرك أن أحفاده يتقربون إليه طمعا فيه ، لا ريب أنه يعطيهم من النقود بعلم آبائهم أو بدون علمهم ليكسب ودهم .. ثم قرر هؤلاء الأوغاد ناكري الجميل أن يلوثوا شقته بالأفعال السحرية. إنه لأمر محزن فعلا ولكن "فؤاد" لم يات ليناقش هذه المشاكل العائلية ..
قال "فؤاد" : "وما الذي أخطأت فيه إذن ، مادمت متفقا معي ؟"
رجع العجوز برأسه للخلف ، وقال :"أنت تعتقد أن هناك روحا قد تلبست بالسجادة ، أليس كذلك ؟" .. هز "فؤاد" رأسه موافقا. فتابع الرجل :"هذا الخطأ شائع جدا للأسف ، ولكن الحقيقة غير ذلك .. كل الجمادات التي تراها وتعتقد أنها بلا حياة بداخلها شكل من أشكال الروح مثلك تماما. في جلسات تحضير الأرواح لا تأتي روح من خارج المكان أبدا ، إنما الذي ينطق ويتحرك هو روح لشيء موجود !"
بدا عدم الفهم على وجه "فؤاد" ، فتابع "عماد" شارحا :"إذا كانت هناك شمعة مثلا فإن الروح تكون هي روح الشمعة ، تتشكل كما يطلب منها الحاضرون حسب التعويذات التي يقومون بها ، لذلك إذا كان الفعل السحري له علاقة بشخص فإن الساحر يطلب أثرا منه ، قطعة من ملابسه مثلا تستطيع روحها أن تتعرف على من قام بلبسها وإذا وجهت لها تعويذات معينة ربما تؤثر عليه. لاحظ أن هذه الأرواح مختلفة عن أرواحنا ، يمكنك أن تتصورها أطيافا ناقصة ليس لها شكل .."
"رجل السجادة ليس روحا أو جنيا سكن السجادة ، إنه هو السجادة نفسها ! والسجادة التي تراها أنت هي قشرته الخارجية ، كما أنك لست الجسد الذي يجلس أمامي . الجسد هو غلاف لروحك .. "
امتلأ قلب "فؤاد" بالرهبة وهو يقلب الفكرة في رأسه .. ولم يمنع نفسه من النظر حوله في قطع الأثاث والمفارش والساتئر وكأنه يتخيل كل هذه الكائنات التي كانت تحيط به من قبل ساكنة جامدة قد دبت فيها الحياة وأصبحت أفرادا ، رجالا ونساء ..
قال "عماد" : "دعنا نعود لقصتنا ، كان رجل السجادة قد بدأ يخرج ويتحرك في المنزل وأنا أشعر به ولكني لم أهتم كثيرا.. في البداية ظننتها تهيؤات رجل عجوز.. كانت السجادة في ذلك الوقت قد أمتلأت بالأتربة وربما وقعت عليها بقايا من الطعام دون أن أنتبه .. كنت مهملا لها ولم أعد أحافظ عليها كما كنت أفعل قبل لعبة الدم تلك .. وعندما بلغت القذارة فيها حدا معينا ، بدأ الرجل في الظهور أمامي.."
"إنه لا يحب أن يتلوث جسده ، لا أحد يحب هذا.. لكنه أيضا لا يملك تنظيفها بنفسها ، فهذه الأطياف ضعيفة ومحدودة الإمكانيات ، ولكنها قادرة على الإيذاء أحيانا.. إن السجادة التي تبقى بلا تنظيف لفترة طويلة قد تصيب صاحبها بأمراض كالربو والحساسية.. سيقول الأطباء أن لهذه الأمراض أسبابا علمية ويضيعون وقتهم في تحليلها ، ولن يصدق أحد أن هذا انتقام من طيف السجادة أو روحها.."
شرد "فؤاد" قليلا وهو يقول :"لقد نظفت أختي السجادة أمس .. أعتقد أنها لا تزال نظيفة حتى الآن"
قال "عماد" : "جميل جدا ما فعلته أختك ، سوف يحبها رجل السجادة ولن يؤذيها أبدا.. لنعد لقصتنا مرة أخرى ، عندما ظهر لي الرجل بوضوح مستنكرا ما فعلته بسجادته كان هذا فوق احتمالي ، فأنا رجل عجوز كما ترى .. أعطيت السجادة مرة أخرى لحارس العمارة لكي ينظفها ثم يتخلص منها ، لن أحتفظ بسجادة تخرج منها روحها وتسير بحرية في شقتي كما لابد أنك لو كنت مكاني كنت ستفعل نفس الشيء .. الحارس طلب مني أن يأخذها لنفسه فرفضت وأصررت أن يبيعها لأتأكد من أنها ستذهب بعيدا عني.. وذات يوم جاء الحارس ومعه بعض النقود وقال إنه باع السجادة.. أعطيته جزءا من النقود واحتفظت لنفسي بالباقي ونسيت أمرها تماما حتى جئت لي اليوم "
ساد الصمت للحظات ، حتى قال "فؤاد" : "معك حق ، يبدو أن هذا هو الحل الأمثل لهذه السجادة ، ساذهب الآن وأتخلص منها.. اعذرني لانصرافي هكذا فجأة ولكن يجب أن أعود للمنزل قبل المساء حتى لا يظهر ذلك الشبح لأختي ."
ثم وقف عازما على مغادرة المكان فاضطر مضيفه "عماد" إلى أن يقوم أيضا ، ولكن وجهه كان يحمل استغرابا وهو يقول :"ومن قال لك أنه يظهر في المساء فقط ؟ إن رجل السجادة يستطيع أن يخرج منها في أي وقت ، وفي الغالب هو الآن جالس مع أختك إذا لم يكن هناك غيرها في المنزل !"
امتقع وجه "فؤاد" وطلب أن يستخدم هاتف المنزل الخاص بالرجل ليتصل باخته فورا .. وعندما سمع صوتها صاح بها :"أخرجي فورا من الشقة .. أفتحي الباب ونادي على الجيران .. لا تجلسي وحدك في المنزل .. هناك عفريت في السجادة .. اهربي .."
ولكن أخته "فايزة" كانت هادئة وهي ترد عليه :"أعرف ، لقد خرج من السجادة وتفاهمنا سويا .. لن أستطيع أن أخرج من الشقة ولا أن أطلب مساعدة الجيران يا "فؤاد" .. أنا لا أعرفهم وليست لي بهم أي علاقة ، كما أنه ليس مخيفا ولا مؤذيا .. إنه لطيف جدا ، لقد دعاني للذهاب معه إلى عالمه وسوف نرحل بعد قليل .. جميل أنك اتصلت الآن كي أودعك .. كنت أتمنى أن أسلم عليك بنفسي قبل أن أذهب ولكن يبدو أني لن استطيع .. وداعا يا أخي .. وداعا "
وضعت السماعة بينما أخوها كان لا يزال ممسكا سماعة هاتف الرجل بيده مذهولا لنصف دقيقة لم يستطع الكلام ، حتى سأله الرجل عما به .. لم يجب ولكنه وضع السماعة مكانها وسأله في كلمات متقطعة :"هل .. هل يمكن أن يذهب إنسان إلى داخل السجادة مع ذلك الرجل ؟ اختى تقول إنها ستذهب معه إلى هناك .. هل هذا ممكن ؟"
بدا التعاطف على وجه "عماد" ، وأجاب بنبرة الخبير بهذه الأمور :"في عالم السحر لا أحد يسأل إن كان شييء ما ممكنا أم لا .. كل شيء ممكن إذا عرفت التعويذة المناسبة وكانت هناك الروح المناسبة .. لكن هذا قد يستغرق بعض الوقت ، فإذا كان منزلكم قريبا من هنا فقد تتمكن من إيقاف الأمر وإنقاذها .."
قال "فؤاد" بعدم حيلة وهو شبه منهار :"لا ، إن بيتنا بعيد .. ساحتاج إلى نصف ساعة على الأقل وليس معي سيارة".
جذب الرجل مفتاح سيارته من أحد الأدراج وقال له :"أنا سأوصلك .. فالذنب ذنبي في الأساس .. لا وقت لأغير ملابسي .. هيا بنا بسرعة قبل أن يأخذها الرجل معه ولا تراها مرة أخرى".
هم "فؤاد" بالاعتراض واقناع "عماد" بأنه سيذهب بسيارة أجرة ، لأنه ظن أن الرجل العجوز سيقود ببطء شديد ، لكنه فوجئ بالسرعة التي يقود بها "عماد" سيارته كأي شاب طائش في العشرينيات من عمره.. هذا الرجل لا يريد أن يعترف بأنه تجاوز سن الشباب .. ربما تكون قصة أحفاده ولعبهم بالدم فوق السجادة غير دقيقة .. إن الفكرة الأقرب للمنطق هي أن من قام بالطقوس السحرية "عماد" نفسه.. يبدو أنه يعرف الكثير عن السحر ولعله قرأ في كتاب ما عن وصفه تعيد الشباب فقام بتجربتها فكان من نتائجها تحرير رجل السجادة من سجنه..
لكنه لم يصارح "عماد" باستنتاجه هذا ، واكتفى بمراقبة الطريق وأعصابه مشدودة وهو يتخيل أخته مع هذه الروح الغريبة التي تحررت من سجادتها على شكل رجل شاب قوي .. ولكن لماذا تذهب معه "فايزة" بإرادتها ؟ هل تأثرت بشكله الخارجي أو يكون لذلك الشيء قدرات نفسية لجذب القلوب أو تنفيرها ؟
اختصرت سيارة "عماد" زمن الطريق إلى ربع ساعة فقط ، وما أن اقتربت من المنزل حتى فتح "فؤاد" الباب ونزل يجري ، تاركا صاحب السيارة يبحث عن مكان مناسب ليوقفها فيه .. وعندما اقترب من المنزل سمع صوتا بداخله فاطمأن فليلا ، لازالت الطقوس مستمرة وهناك أمل في إيقافها ، فتح الباب بسرعة وألقى نظرة على السجادة الملقاه في الصالة وخيل إليه أن هناك حركة خافتة فوق سطحها اختفت بمجرد اقترابه .. بحث في الشقة كلها عن "فايزة" أو أي أثر لها فلم يجد شيئا .. لقد انتقلت إلى عالم السجادة في اللحظة التي كان هو يفتح فيها الباب !
ارتمى "فؤاد" محبطا على أحد الكراسي تاركا باب الشقة مفتوحا ، وبعد قليل صعد "عماد" وعندما تلاقت نظراتهما أدرك الأخير أن "فايزة" قد رحلت .. قام "فؤاد" ووقف على السجادة وأخذ يقفز فوقها بهسيتريا وهو يصيح :"أخرج ، أخرج أيها الجبان وواجهني" ..
جذبه "عماد" من ذراعيه وأجلسه مرة أخرى على الكرسي ، وقال له :"لا تحاول .. لن يخرج إلا برغبته ولو حرقت السجادة " .. رد "فؤاد" بحزن :"لا أستطيع حرقها و"فايزة" بداخلها" .. ربت "عماد" على كتفه وقال وهو يغادر الشقة :" إذا أردت رأيي : تخلص من هذه السجادة بالطريقة التي تريحك .. لكن من فضلك لا تذكر أسمي أو عنواني لأحد ، ولا تخبر أحدا بما قلته لك .. لقد أردت أن أريح ضميري وساعدتك قدر استطاعتي ، وأخبرتك ما لدي من المعلومات عن السجادة ، أو ما يهمك أن تعرفه على الأقل .. والآن هي مسؤوليتك وأنا لا صلة لي بها .. اسمح لي أن أنصرف بعد إذنك" ..
* * *
بقيت السجادة في صالة المنزل شهرا كاملا وكل يوم يجلس أمامها "فؤاد" ويحاول مع رجل السجادة بالترهيب أو الترغيب لعله يخرج ويكلمه ، لكن الرجل لم يكن يسمع شيئا من هذا الكلام فليس للسجادة آذان ولا عيون لتسمع وترى ، إنها تستقبل من العالم الخارجي عندما تريد فقط وهي لا ترغب في ذلك الآن.. ومع مرور الوقت بدأ "فؤاد" يشك في أن كل هذا قد حدث فعلا .. لم لا تكون "فايزة" قد اختلقت قصة شبح السجادة لتهرب من المنزل ؟ ولم لا يكون الرجل المدعو "عماد" مجرد شخص مخبول وجد فرصة ليتسلى بسذاجته وقام بتأليف موضوع الأرواح هذا من عقله المريض ؟
وذات يوم بعد أن انتهى من صلاة المغرب جاءته فكرة لا بأس بها ، أن يهدي السجادة للجامع فيصلي عليها الناس وتحل الرحمة والسكينة على من في السجادة ، وربما تخرج "فايزة" مرة أخرى من السجادة ببركة الصلاة .. وإن كانت كل هذه القصة كذبة كبيرة فهو لم يخسر شيئا ، على الأقل سيأخذ ثواب هديته للمسجد ..
حمل السجادة وانطلق للجامع وتحدث مع أحد العاملين فيه ، أخبره العامل أن الجامع ليس بحاجة إلى سجادة حاليا ولكنه سيضعها في المخزن لعلهم يحتاجونها قريبا بعد توسعة المسجد .. وبعد أسبوع اكتشف العامل أن التوسعة الجديدة سيكون فيها "موكيت" وأن السجادة لم تعد مفيدة للجامع فقرر أن يبيعها ويساهم بثمنها في شراء "الموكيت" الجديد .. وفي نيته أن يظل الثواب قائما لصاحبها بإذن الله ..
* * *
وفي أحد المنازل القريبة من منزل "فؤاد" ، دخل الزوج لمنزله ففاجأته زوجته بالسجادة التي اشترتها من أحد البائعين وطلبت رأيه فيها .. أبدى الزوج اهتماما مصطنعا وأخذ يمدح ألوانها وذوق زوجته ، قالت الزوجة بفرح :" هذه هي السجادة التي أردت شراءها من شهرين ولكن أمك – رحمها الله – رفضت بدون سبب مقنع .. لم أصدق نفسي حين وجدتها مع نفس البائع مرة أخرى .. إنها مصادفة غريبة .. أرأيت كم هي سجادة جميلة ؟ "
تذكر الزوج والدته التي توفت ، وهم بالاعتراض على وجود السجادة التي رفضتها والدته ، ولكنه قرر أن يتجنب معركة لا فائدة منها مع زوجته .. ثم إن السجادة لا تبدو سيئة بالفعل..
أجاب في استسلام : "نعم .. سجادة جميلة .. جميلة جدا .."
تمت بحمد الله
بقلم: معاذ رياض
بس فين التكمله
نورتوني