الموت! أقلق قلوب الخائفين؛ وأذهب نضرة عيش المتقين!
فهل تذكرته يا راكب الذنب؟! ومتى يتذكر الموت من غفل قلبه عن الطاعات؟!
فيا ويل المقصرين إذا حلت سكرات الموت! وتحشرجت النفوس في الصدور!
فكم من حسرات! ولكن ولات حين مندم!
{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}[الزمر: 30، 31].
قال رسول الله r: «أكثروا ذكر هازم اللذات».
[رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة/ صحيح النسائي للألباني: 1823]
قال الدقاق: «من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة».
وقال هرم بن حيان لأويس القرني: أوصني. قال: «توسد الموت إذا نمت، واجعله نصب عينيك إذا قمت»!
أيها المذنب! يا من شغلتك الذنوب عن تذكر الموت.. فإن أهل الطاعات في تذكر دائم للموت.. جعلوه علمًا أمام أعينهم؛ إذا أصبحوا نظروا إليه فتذكروه! وإذا أمسوا نظروا إليه فتذكروه! وإذا قاموا نظروا إليه فتذكروه! وإذا قعدوا نظروا إليه فتذكروه!
* قال أبو أسامة: «كان الثوري إذا جلسنا معه؛ إنما نسمع منه: الموت! الموت»!
* وكان محمد بن واسع يمر على رباع إخوانه بعد موتهم، فيناديهم: «أيا فلان! أيا فلان!» ثم يرجع إلى نفسه، فيقول: «ماتوا والله وبادوا، إن نعلاً فقدت أختها؛ لسريعة اللحاق بصاحبتها»!
* وكان الربيع بن خثيم يقول: «لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة واحدة لفسد»!
* وقال إبراهيم التيمي: «شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله عز وجل»!
* وقال أبو بكر بن عياش: «وكان داود الطائي ماؤه في دن مقير في الصيف والشتاء! فقيل له: لو بردت الماء! فقال: إذا شربت الماء البارد في هذا الحر الشديد، فمتى أحب الموت»؟!
وعن ثابت البناني، قال: «كنت أطوف بالبيت ليلاً، فإذا أنا بجارية، وهي تقول: اللهم اعصمني حتى لا أعصيك، وارزقني حتى لا أسأل غيرك. قلت لها: ممن سمعت هذا؟ قالت: من أبي طاوس. فقلت لها: هل لك في زوج؟! فقالت: والله لو كنت ثابتًا ما فعلت! قال: فقلت: فأنا ثابت! فقالت: يا ثابت، أما كان في ذكر الموت ما يشغلك عن النساء؟! وكبرت وجعلت تصلي»!
فأفق أيها الغافل! وتذكر يوم الرحيل.. يوم رحيلك الأكبر!
وما أشد خسرانك إذا حجبك سوء الذنوب عن تذكر يومك الأخير من الدنيا!
أتته المنيةُ في نومتِهْ
وكم من مقيم على لذةٍ
دهته الحوادثُ في لذتِهْ
وكل جديد على ظهرها
سيأتي الزمان على جدتِهْ
* أيها المذنب! أما لك في الجنائز عظة؟!
يا مشغولاً بالذنوب! وغافلاً مع الشهوات! أما رأيت موت الخلائق؟! أما وعظتك جنائز الراحلين؟!
كم في ذلك من عظة لصاحب القلب السليم! وكم في ذلك من عبرة لصاحب العقل النافع!
فعظ نفسك أيها الغافل برحيل من سبقك! وازجرها عن غيها بعظة الموت!
سمع أبو الدرداء رجلاً يقول في جنازة: من هذا؟ قال: «أنت! وإن كرهت فأنا»!
وقال حاتم الأصم: «اتباع الجنائز فضيلة، والصلاة عليها سنة، ومداواة القلب بها فريضة»!
فكم لك – أيها المذنب – في الراحلين من عظة! ومن اتعظ بغيره؛ فهو العاقل حقًا! ولا أغفل ممن رأى غيره في طريق الهلكات.. ثم لم يزجره ذلك عن غيه!
توفيت أم قاضي بلخ، فقال له حاتم الأصم: «إن كانت وفاتها عظة لك؛ فعظم الله أجرك على موت أمك، وإن لم تتعظ بها؛ فعظم الله أجرك على موت قلبك»!
ودخل الحسن البصري على مريض يعوده، فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم!
فقالوا له: الطعام يرحمك الله! فقال: يا أهلاه! عليكم بطعامكم وشرابكم، فوالله لقد رأيت مصرعًا لا أزال أعمل له حتى ألقاه!
* أيها المذنب! تذكر شدة الموت!
يا عاكفًا على لذات الدنيا.. ولاهيًا بلهوها.. أما سمعت عن الموت ومرارته؟! أما سمعت عن شدة سكراته.. وفظاعة ساعاته؟!
فيا لله! ما أشد سكرات الموت! وما أفظع لحظاته!
وها هو نبينا r يصف لك تلك الغمرات والسكرات – وهو r يومها في مرضه الذي توفي فيه – وفي ذلك عظة لكل عاقل!
عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله r وهو بالموت، وعنده قدح فيه ماء، وهو يدخل يده في القدح، ثم يسمح وجهه بالماء، ثم يقول: «اللهم أعني على غمرات الموت، وسكرات الموت»! [رواه الترمذي]
نظر الحسن البصري إلى رجل يجود بنفسه، فقال: «إن امرءًا هذا آخره؛ لجدير أن يزهد في أوله، وإن امرءًا هذا أوله؛ لجدير أن يخاف آخره»!
وتذكر – أيها المسكين – أن الموت له ما بعده.. وما بعده أفظع منه!!
فتأمل في حالك – أيها الغافل – فلا ترحلن من الدنيا وقد أثقلت كاهلك بالخطايا!
امضِ ودَعْهُ فستنساهُ
من عاين الموتَ فذاك الذي
لم ترَ مثلَ الموتِ عيناهُ
كم من شقيق لم تجدْ
غير أن غمَّضَ منْ يهوي وسجَّاهُ
وكم محبٍ لحبيبٍ إذا
سوَّى عليه اللحدَ خلاَّهُ
سمع الحسن البصري امرأة تبكي خلف جنازة، وتقول: يا أبتاه مثل يومك لم أره! فقال لها: بل أبوك مثل يومه لم يره!
فحري بك – أيها المذنب – أن يطول جزعك.. قبل أن تطول حسرتك.. يوم أن تأتيك رسل ربك.. وأنت في سكرات الموت مأخوذ!
قال الثوري: «إذا عاين المريض الموت؛ ذهبت المعرفة بينه وبين أهله»!
قيل لحبيب الفارسي في مرضه الذي مات فيه: ما هذا الجزع الذي ما كنا نعرفه منك؟! فقال: «سفري بعيد بلا زاد، وينزل بي في حفرة من الأرض موحشة بلا مؤنس، وأقدم على ملك جبار، قد قدم إلي العذر»!
* أيها المذنب! هل استعددت للموت؟!
الذنوب شاغل عن الطاعات.. وطريق إلى الهلكات!
وإذا أدمن المذنب الذنوب؛ كان ذلك صارفًا له عن الاستعداد للموت.. بل حتى عن تذكره!
وقد علمت – أيها المذنب – قرب الموت.. وسرعة نزوله.. فماذا أعددت لسكراته؟!
عن السدي في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الملك: 2] قال: أي: أيكم للموت ذكرًا، وأحسن له استعدادًا، وأشد منه خوفًا، فاحذروا»!
أيها المذنب! إنما جعلت أيام الدنيا؛ لتعمروها بالطاعات.. وتؤدي فيها عبادة الله تعالى على أحسن الوجوه.. فكم قبيح أن تضيع منها شيئًا في غير طاعة الله تعالى.. فتلهو.. وتعبث.. ويطول حبل الغفلة؛ حتى تنزل السكرات.. وتحل الحسرات!
فكلٌ بها ضيفٌ وشيكٌ رحيلُهُ
وخذ للمنايا لا أبا لك عدةً
فإن المنايا من أتتْ لا تُقيلُهُ
خطب عمر بن عبد العزيز، فقال: «كم من عامر موثق عما قليل يخرب! وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن! فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، بينما ابن آدم في الدنيا ينافس فيها قرير العين قانع؛ إذ دعاه الله بقدره، ورماه بيوم حتفه، فسلبه آثاره ودنياه، وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه، إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، تسر قليلاً، وتحزن طويلاً»!
فتهيأ – أيها المسكين – وبادر أجلك.. فإن أنفاسك معدودة.. وأيامك محسوبة!
ولا يشغلنك عاجل الدنيا عن الدار الباقية.. ولا تنسيك لذة عاجلة؛ أليم عذاب الله.. وشدة عقابه!
فبادر.. ثم بادر!
عن بعضهم قال: دخلنا على أبي بكر النهشلي وهو في الموت، وهو يومئ برأسه – يرفعه ويضعه – كأنه يصلي! فقال له بعض أصحابه: في مثل هذه الحال رحمك الله؟! قال: إنني أبادر طيَّ الصحيفة!
* أيها المذنب! احذر التسويف!
التسويف! أهلك المذنبين.. وأوبق المقصرين!
لا تزال النفس متطلعة إلى الإمهال؛ فتقول: سوف أتوب! سوف أتوب! حتى يفجأ الموت بكأسه.. وينزل بكسراته!
فاحذر – أيها المذنب – مصرع الغافلين.. وخاتمة المسوفين!
واحذر أن تكون فيمن يقول: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}[الزمر: 56].
قال علي بن أبي طالب t: «فاتقى عبد ربه؛ نصح نفسه، قدم توبته، غلب شهوته، فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكل به، يزين له المعصية ليركبها، ويمنيه التوبة ليسوفها، حتى تهجم منيته عليه أغفل ما يكون عنها»!
وقال دواد الطائي: «يا ابن آدم! فرحت ببلوغ أملك، وإنما بلغته بانقضاء مدة أجلك، ثم سوفت بعملك يومًا بعد يوم، حتى تأتيك منيتك كأن منفعته لغيرك»!
أيها المذنب! بادر إلى الطاعات.. قبل حلول المنايا.. ونزول الرزايا! وإياك والتسويف.. فإنه بئس المطية!
وإن من لم يدر موعد حلول أجله؛ لحري به أن يأخذ للأمر أهبته.. ويحتاط لنفسه من سوء الخاتمة!
من عدَّ يومًا لم يأتِ منْ أجْلِهِ
أيها المذنب! اعتبر بالماضين.. وتذكر عاقبة المسوفين.. وتذكر الموت وكرباته.. واحذر أن يبغتك الموت وأنت لاهٍ بالشهوات.. غافل عن البيات!
فتطول يومها الحسرات.. وتتضاعف الكربات!
والحمد لله تعالى.. والصلاة والسلام على النبي وآله والأصحاب..