الحمد لله الذي جعل رمضان سيد الأيام والشهور، وضاعف فيه الحسنات والأجور، أحمده سبحانه وأشكره وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى والنور، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم النشور. أما بعد:
فإن الأيام تمر مرّ السحاب، وتمضي السنون سراعاً، ونحن في غمرة الحياة ساهون، وقلّ من يتذكر أو يتدبر واقعنا ومصيرنا، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62].
المسلم في عمره المحدود وأيامه القصيرة في الحياة، قد جعل الله تعالى له مواسم خير، وأعطاه من شرف الزمان والمكان ما يشد به الخلل ويقوّم المعوجّ في حياته، ومن تلك المواسم شهر رمضان المبارك، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
ففي رمضان تخف وطأة الشهوات على النفس المؤمنة وترفع أكف الضراعة بالليل والنهار.
فواحد يسأل العفو عن زلته، وآخر يسأل التوفيق لطاعته، وثالث يستعيذ به من عقوبته، ورابع يرجو منه جميل مثوبته، وخامس شغله ذكره عن مسألته فسبحان من وفقهم، وغيرهم محروم.
من فضائل شهر رمضان
إن شهر رمضان شهر قوّة وعطاء، فيه غزا رسول الله غزوة الفتح، وكان يصوم هو والمسلمون، وفيه كانت غزوة بدر الكبرى، وفي تلك الغزوات انتصرت راية الإسلام وانتكست راية الوثنية والأصنام، وفيه وقع كثير من معارك المسلمين وحملات جهادهم وتضحياتهم.
وفي رمضان كان رسول الله وأصحابه أكثر ما يكونون قوة وحيوية ومثابرة على العبادة ومضاعفة لها.
لذا فإن شهر رمضان شهر العمل وشهر الصبر والعطاء، وليس شهر الضعف والكسل والنوم، وخمول بعض الصائمين ولجوئهم إلى النوم في نهاره، والإقلال من العمل يخالف الحكمة من الصوم، ولا يتفق مع الغاية منه.
كان المسلمون الأوائل يعيشون رمضان بقلوبهم ومشاعرهم فإذا كان يوم صوم أحدهم فإنه يقضي نهاره صابراً على الشدائد متسلحاً بمراقبة الله وخشيته، بعيداً عن كل ما يلوث يومه ويشوّه صومه، ولا يتلفظ بسوء ولا يقول إلا خيراً، وإلا صمت.
أما ليله فكان يقضيه في صلاة وتلاوة للقرآن وذكر الله تأسياً برسوله .
ثمار الصوم ونتائجه مدد من الفضائل لا يحصيها العد ولا تقع في حساب الكسول اللاهي الذي يضيع شهره في الاستغراق في النوم نهاراً وزرع الأسواق ليلاً، وقتل الوقت لهواً.
الصيام جنة من النار: كما روى أحمد عن جابر أن النبي قال: { إنما الصيام جنة، يستجنّ بها العبد من النار }.
الصوم جنة من الشهوات: فقد جاء في حديث ابن مسعود أن النبي قال: { يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء } [أخرجه البخاري ومسلم].
الصوم سبيل إلى الجنة: فقد روى النسائي عن أبي امامة رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله مرني بأمر ينفعني الله به، قال: { عليك بالصيام فإنه لا مثل له }.
وفي الجنة باب لا يدخل منه إلا الصائمون: فعن سهل بن سعد أن النبي قال: { إن في الجنة باباً يقال له: الريّان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون، فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد } [أخرجه البخاري ومسلم].
الصيام يشفع لصاحبه: فقد روى الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي قال: { الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفّعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفّعني فيه، قال: فيشفعان }.
الصوم كفارة ومغفرة للذنوب: فإن الحسنات تكفر السيئات، فقد قال من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: { من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه } [رواه البخاري ومسلم].
الصيام سبب للسعادة في الدارين: فقد قال من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: { وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك } [رواه البخاري ومسلم].
استغلال الفرص في رمضان
هل يكون شهر رمضان في هذا العام موسماً للعودة إلى الله وفرصة للمحاسبة وطرح التقصير في جنب الله؟
هل يكون فرصة للمسرفين على أنفسهم ليعودوا إلى الله بقلوب واعية وحياة إسلامية صادقة؟
وفرصة للدعاة إلى الله ليعيدوا النظر بمهمتهم ويدركوا أنهم يحملون أشرف دعوة، ويعملون لأنبل غاية، فيتخلصون من همّ النفس والطواف حول الذات فما عند الله خير وأبقى.
وفرصة لكل مسلم لينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً، ينصر المظلوم برد ظلامته، وينصر الظالم بالأخذ على يديه فتسود المفاهمة الصف المسلم.
وفرصة للأغنياء والمترفين لمراجعة الحساب والإحساس بحاجة الفقراء، وشكر النعمة بوضعها حيث أراد المنعم، فيساهموا في إنقاذ الجائعين في الأمة الإسلامية، فإيمانهم معرض للخطر إذا لم يطعم جائعهم ويكس عاريهم ويغث ملهوفهم.
وفرصة لكل مسلم ليدرك أن التساهل يؤدي إلى الكبائر، فيقلع عن الغيبة والنميمة وسوء الظن والاحتقار والازدراء.
وفرصة لأن نرسم لأنفسنا منهجاً نتدرب من خلاله على المعاني الإسلامية، لنملك اليد المسلمة، الرجل المسلمة، العين المسلمة، الأذن المسلمة، اللسان المسلم، بحيث تتحرك الجوارح جميعها كما أراد لها ربها وخالقها: { وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها } [رواه البخاري].
كل ذلك يمكن أن يتحقق في مدرسة الصيام التي تربي على الإرادة الجازمة والعزيمة الصادقة، تلك التي تكسر غوائل الهوى، وترد هواجس الشر.
أيّ إرادة قوية، بل أي نظام أدق من أن ترى المؤمن في مشارق الأرض ومغاربها يمسك عن طعامه وشرابه مدة من الزمن، ثم يتناوله في وقت معين، ثم يمسك زمام نفسه من أن تذلّ لشهوة أو تسترق لنزوة أو ينحرف في تيار الهوى الضال.
بل إنه يقول لسلطان الهوى والشهوة: لا، وما أروعها من إجابة إذا كانت في مرضاة الله.
لا يرفث ولا يصخب ولا يفسق، ولو جرح جاهل مساعره واستثار كوامنه لجم نوازع الشر بقوله: ( إني امرؤ صائم ).
إن كثيراً من الناس أسرى لما تعوّدوه، وكلما حاولوا ترك العوائد راجعوا، ذلك لأن للعادات سلطاناً على النفوس وهيمنة على القلوب، كم منا من تملكه عاداته في طعامه وشرابه ونومه ويقظته، فلا يستطيع الفكاك منها، والصوم علاج نافع لكثير من هذه العادات فيتخلص به من أعبائها وأثقالها، وبه يستطيع المسلم – إذا عزم وصمّم – أن يترك ما شان من العادات ويتخلى عنه دون أن يصيبه أذى أو يلحقه ضرر، ثم ينتقل إلى محاربة عادات لها مضارها ومآثمها كالليالي الساهرة، والحفلات المستهترة، والعلاقات الخبيثة، وكالإدمان على الدخان والششية والقات، ونحوه من المفتّرات والمخدرات أو الشهوات، من كل ما هو نتيجة لضعف الإرادة والاستسلام المخزي الذي لا يليق بالرجولة ولا يتفق مع الخلال الشريفة.
إذا أردتم أن تصوموا فصوموا فيه عن الأحقاد والمآثم والشرور، كفّوا ألسنتكم فيه عن اللغو، وغضّوا أبصاركم عن الحرام، فمن الصائمين من ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ذلك الذي يترك الطعام ويأكل بالغيبة لحوم إخوانه، ويكف عن الشراب، ولكنه لا يكف عن الكذب والغش والعدوان على الناس.
وصية للصائمين
كونوا أوسع صدوراً، وأندى ألسنة، وأبعد عن المخاصمة والشر، إذا رأيتم زلة فاحتملوها، وإن وجدتم إساءة من إخوانكم فاصبروا عليها، وإن بادأكم أحد بالخصام فلا تردوا بمثله، بل ليقل أحدكم: إني صائم.
بركات هذا الشهر
من بركة هذا الشهر عظم فضل الأعمال الصالحة فيه، ومنها:
قيام الليل: فقد كان رسول الله يرغب في قيام رمضان فيقول: { من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه } [رواه البخاري ومسلم].
الصدقة: فقد { كان النبي أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل } [رواه البخاري ومسلم]، فيستحب الجود والصدقات، ولا سيما الإكثار منها في شهر رمضان المبارك.
يستحب الإكثار من تلاوة القرآن الكريم: وكان السلف الصالح رضوان الله عليهم يكثرون من تلاوة القرآن في الصلاة وغيرها.
الاعتكاف: وهو ملازمة المسجد للعبادة تقرباً إلى الله عز وجل و { كان النبي يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله } [رواه البخاري ومسلم].
العمرة في رمضان تعدل حجة: كما ثبت عن النبي فيما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
يستحب للصائم السحور: كما أخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي أنه قال: { السحور أكله بركة، فلا تدعوه ولو يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحربن }.
ويستحب تعجيل الفطر والدعاء عند الإفطار: فقد روى الترمذي أن النبي قال: { ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم.. }.
اللهم تقبل من الصائمين صيامهم، ومن المتصدقين صدقاتهم، ومن القائمين قيامهم، ومن الداعين دعائهم، واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وأخرجنا من هذا الشهر مغفور لنا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.