أبو عمرو، أويس بن عامر ابن جزء بن مالك القرني المرادي اليماني.
وقد كان من أولياء الله المتقين ومن عباده المخلصين.
فضــائله:
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ وَلَهُ وَالِدَةٌ وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ ».رواه مسلم.
و عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ نَعَمْ . قَالَ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ قَالَ نَعَمْ.
قَالَ فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ قَالَ نَعَمْ. قَالَ لَكَ وَالِدَةٌ قَالَ نَعَمْ. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « يَأْتِى عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ ». فَاسْتَغْفِرْ لِى. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ الْكُوفَةَ. قَالَ أَلاَ أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا قَالَ أَكُونُ فِى غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَىَّ. قَالَ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَوَافَقَ عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ قَالَ تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ قَلِيلَ الْمَتَاعِ. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « يَأْتِى عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ ». فَأَتَى أُوَيْسًا فَقَالَ اسْتَغْفِرْ لِى. قَالَ أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِى. قَالَ اسْتَغْفِرْ لِى. قَالَ أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِى. قَالَ لَقِيتَ عُمَرَ قَالَ نَعَمْ. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ. قَالَ أُسَيْرٌ وَكَسَوْتُهُ بُرْدَةً فَكَانَ كُلَّمَا رَآهُ إِنْسَانٌ قَالَ مِنْ أَيْنَ لأُوَيْسٍ هَذِهِ الْبُرْدَةُ. رواه مسلم
و عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍأيضا أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَفَدُوا إِلَى عُمَرَ وَفِيهِمْ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَسْخَرُ بِأُوَيْسٍ فَقَالَ عُمَرُ هَلْ هَا هُنَا أَحَدٌ مِنَ الْقَرَنِيِّينَ فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ عُمَرُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ قَالَ « إِنَّ رَجُلاً يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ لاَ يَدَعُ بِالْيَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ قَدْ كَانَ بِهِ بَيَاضٌ فَدَعَا اللَّهَ فَأَذْهَبَهُ عَنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ ».رواه مسلم.
قال النووي:في هذه الأحاديث منقبة ظاهرة لأويس رضي الله عنه وفيه استحباب طلب الدعاء والاستغفار من أهل الصلاح وإن كان الطالب أفضل منهم لقوله صلى الله عليه و سلم (إن خير التابعين رجل يقال له أويس إلى آخره) هذا صريح في أنه خير التابعين وقد يقال قد قال احمد بن حنبل وغيره أفضل التابعين سعيد بن المسيب والجواب أن مرادهم أن سعيدا أفضل في العلوم الشرعية كالتفسير والحديث والفقه ونحوها لا في الخير عند الله تعالى وفي هذه اللفظة معجزة ظاهرة أيضا.
أقواله:
قال أويس القرني لهرم بن حيان : ادع الله أن يصلح قلبك ونيتك فإنك لن تعالج شيئًا هو أشدّ عليك منهما ، بينما قلبك مقبل إذ هو مدبر ، فاغتنم إقباله قبل إدباره ، والسلام عليك .
وقال رحمه الله :ما كنت أرى أن أحداً يعرف ربه فيأنس بغيره .
و كان إذا رماه الصبيان بالحجارة يقول : يا إخوتاه، إن كان ولابد . . . فارموني بالصغار لئلا تدموا ساقي فتمعنوني من الصلاة.
وكان – رحمه الله – إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضْل من الطعام والشراب ، ثم يقول : اللهم من مات جوعاً فلا تؤاخذني به ، ومن مات عرياناً فلا تؤاخذني به.
و من مواقفه في الدعوة و الصبر عليها ما أورده الإمام الشاطبي في الاعتصام قوله: قال أويس القرني: " إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقا تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر فيشتمون أعراضك ويجدون على ذلك أعوانا من الفاسقين وايم الله لا أدع أن أقول فيهم إلا بحق"
وهذا الموقف أخي في الله و أخيتي يجعلنا نفقه مسألة و هي أن التمكين لا يكون إلا بعد الابتلاء. و أن الاشتغال بالدعوة إلى الله لا يمنع المرء من أن يكون قدوة و يضرب به المثل في باب الزهد و الورع و التعبد لله.
وفاته:
قال ابن الجوزي في صفة الصفوة.
وتوفي سنة خمس وتسعين وقيل ست وتسعين بالكوفة وهو ابن تسع وأربعين سنة وقيل ابن نيف وخمسين سنة
وقال هشام الكلبي : قتل أويس القرني يوم صفين مع علي.
تنبيه: حاولت ما أمكن أن أقتصر على ما هو صحيح و ثابت في ترجمة هذا التابعي الجليل، و إن كانت ترجمته مختصرة جدا. و خصوصا أنا أويسا القرني غلا فيه كالعادة الصوفية كما هو ديدنهم في الفضلاء فنسبوا إليه ما نسبوا. و أنا إن شاء الله أجتهد الآن في جمع لترجمة موسعة نسأل المولى جل و علا التوفيق.
و أنبه أيضا أن الإمام مالك رحمه الله أنكر خبر هذا التابعي و هذا لا يضره لأن أمره مستفيكتب الحديث و خاصة أصحها بعد كتاب الله أي صحيح مسلم.
الترجمة الثانية: الحسن البصري
قال ابن الجوزي في صفة الصفوة: يكنى أبا سعيد وكان أبوه من أهل بيسان فسبي فهو مولى الأنصار ولد في خلافة عمر وحنكه عمر بيده وكانت أمه تخدم أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم فربما غابت فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجىء أمه فيدر عليه ثديها فيشربه فيربها فكانوا يقولون فصاحته من بركة ذلك.
قال أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء: ومنهم حليف الخوف والحزن أليف الهم والشجن عديم النوم والوسن أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن الفقيه الزاهد المتشمر العابد كان لفضول الدنيا وزينتها نابذا ولشهوة النفس ونخوتها واقذا.
قال محمد بن سعد: كان الحسن رحمه الله جامعا، عالما، رفيعا، فقيها، ثقة، حجة، مأمونا، عابدا، ناسكا، كثير العلم، فصيحا، جميلا، وسيما.
قال مسلمة بن عبد الملك: كيف يضل قوم فيهم مثل الحسن البصري.
نشأ الحسن بن يسار الذي عرف فيما بعد بالحسن البصري في بيت من بيوت أمهات المؤمنين و هو بيت أم سلمة و هي هند بنت أبي سهيل. و ربي في حجرها فكفى به شرفا. و كيف لا و أم سلمة كانت من أكمل نساء العرب عقلا و أوفرهن فضلا و أشدهن حزما، و أكثرهن علما و رواية عن النبي صلى الله عليه و سلم.
ظل الحسن يتقلب في أجواء بيوت أمهات المؤمنين بأجوائها العبقة بطيوب النبوة، المتألقة بسناها.
ثم رحل إلى البصرة و استقر فيها مع أبويه و من هنا نسب إلى البصرة "البصري" ، و لزم حلقات العلم خاصة حلقة حبر الأمة عبد الله بن عباس فأخذ عنه التفسير و الحديث و القراءات.
كما أخذ عن غيره من علماء البصرة الفقه و اللغة و الأدب. حتى غدا علما فقيها فانتشر صيته و فشا ذكره بين العباد.
و قد عرف الحسن البصري رحمه الله بمواعظه البليغة و بأمره بالمعروف و نهيه عن المنكر من غير خوف، و مواقفه الكثيرة المروية عنه تشهد لذلك.
و من مواقفه ما جرى له مع الحجاج بن يوسف الثقفي، و ذلك أن الحجاج لما بنى لنفسه بناءا في واسط، و فرغ منه، نادى في الناس أن يخرجو للفرجة عليه و الدعاء له بالبركة، فاستغل الحسن هذه الفرصة ليعظ الناس و يذكرهم، و يزهدهم بعرض الدنيا، و يرغبهم بما عند الله عز و جل.
أقبل رحمه الله على جموع الناس الذين بهرهم منظر القصر بروعة بنائه و زخارفه، فقام فيهم خطيبا واعظا ناصحا:
لقد نظرنا فيما ابتنى أخبث الأخبثين، فوجدنا أن فرعون شيد أعظم مما شيد، و بنى أعلى مما بنى..
ثم أهلك الله فرعون، و أتى على ما بنى و شيد…
ليت الحجاج يعلم أن أهل السماء قد مقتوه، و أن أهل الأرض قد غروه.. حتى قال له أحد الحاضرين شفقة عليه من سيف الحجاج: حسبك يا أبا سعيد.
فقال له الحسن : لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننه للناس و لا يكتمونه..
و في اليوم التالي دخل الحجاج إلى مجلسه و هو يتميز من الغيظ فقال لجلسائه: تبا لكم و سحقا…
يقوم عبد من عبيد أهل البصرة و يقول فينا ما شاء الله أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يرده أو ينكر عليه. و الله لأسقينكم من دمه، ثم أمر بالسيف و النطع…فأحضرا، و دعا بالجلاد، فمثل واقفا بين يديه، ثم وجه للحسن بعض شرطه و أمرهم أن يأتوا به.. و ما هو إلا قليل حتى جيء بالحسن، فشخصت نحوه الأبصار، و وجفت عليه القلوب. فلما رأى الحسن السيف و النطع و الجلاد حرك شفتيه…
ثم أقبل على الحجاج و عليه جلال المؤمن، و عزة المسلم، و وقار الداعية إلى الله.
فلما رآه الحجاج على هذه الحال هابه أشد الهيبة و قال له بلسان المقال هاهنا ياأبا سعيد ها هنا.. ثم لا زال يوسع له المجلس و يقول ها هنا و أعين الحاضرين شاخصة لهذا الموقف مستغربة فهذه ليست حال الحجاج المعهودة، فقربه حتى أجلسه على فراشه، و بدأ يسأله عن بعض أمور الدين و الحسن يجيب بعلمه الواسع. فقال له الحجاج: أنت سيد العلماء يا أبا سعيد.
ثم دعا له بغالية و طيب له بها لحيته و ودعه.
و بعد خروجه قال له الحاجب و الله لقد دعاك الحجاج لغير هذا الذي رأيت، فبما حركت شفتاك عند دخولك عليه؟ فقال الحسن: لقد قلت : يا ولي نعمتي و ملاذي عند كربتي، اجعل نقمته بردا و سلاما علي كما جعلت النار بردا و سلاما على إبراهيم.
و مواقفه و مواعظه كثيرة فنأخذ منها قطوف لعل الله عز و جل ينفعنا بها.
من ذلك قوله لسائل سأله عن الدنيا و حالها:
فقال رحمه الله: تسألني عن الدنيا و الآخرة!!..إن مثل الدنيا و الآخرة كمثل المشرق و المغرب، متى ازددت من أحدهما قربا ازددت من الآخر بعدا.
و تقول لي صف لي هذه الدار!! فماذا أصف لك من دار أولها عناء و آخرها فناء…
و في حلالها حساب، و في حرامها عقاب…
من استغنى فيها فتن، و من افتقر فيها حزن..
و من مواقفه أنه مر ببعض القراء على بعض أبواب السلاطين فقال أفرحتم حمائمكم وفرطحتم نعالكم وجئتم بالعلم تحملونه على رقابكم إلى أبوابهم فزهدوا فيكم أما إنكم لو جلستم في بيوتكم حتى يكونوا هم الذين يرسلون إليكم لكان أعظم لكم في أعينهم تفرقوا فرق الله بين أعضائكم.
و قال : "والله لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا حزن وذبل وإلا نصب وإلا ذاب و إلا تعب"
"والله يا ابن آدم لئن قرأت القرآن ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حزنك وليشتدن في الدنيا خوفك وليكثرن في الدنيا بكاؤك"
و قال : "خصلتان من العبد إذا صلحتا صلح ما سواهما الركون إلى الظلمة والطغيان في النعمة قال الله عز و جل( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) وقال الله عز و جل (ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي)
تمنى رجل فقال: ليتني
بزهد الحسن، وورع ابن سيرين، وعبادة عامر بن عبد قيس، وفقه سعيد بن المسيب، وذكر مطرف بن الشخير بشئ، قال: فنظروا في ذلك، فوجدوه كله كاملا في الحسن.
و قال رحمه الله : تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء : في الصلاة وفي الذكر وقراءة القرآن فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق.
قال ابن الجوزي في صيد خاطره "ولقد سبرت السلف كلهم فأردت أن أستخرج منهم من جمع بين العلم حتى صار من المجتهدين، وبين العمل حتى صار قدوة للعابدين، فلم أر أكثر من ثلاثة: أولهم الحسن البصري، وثانيهم سفيان الثوري، وثالثهم أحمد بن حنبل."سأل فرقد السنجي الحسن البصري عن شيء فأجابه فقال: إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن ثكلتك أمك فريقد وهل رأيت بعينيك فقيها إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه الذي لا يهمز من فوقه ولا يسخر بمن دونه ولا يبتغى على علم علمه الله تعالى أجرا.
و في ليلة الجمعة من غرة رجب سنة مائة و عشر، لبى الحسن نداء ربه، فارتجت البصرة لموته رجا، و قد عمر نحوا من ثمانين عاما ملأ الدنيا خلالها علما و حكمة و فقها، و كان من أجل ما ورثه للأجيال رقائقه التي ظلت على الأيام ربيعا للقلوب.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه للربيع "يا أبا يزيد لو رآك رسول الله صلى الله عليه و سلم لأحبك وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين "
و سئل الإمام الكبير شيخ الكوفة أبو وائل شقيق بن سلمة: أنت أكبر أو الربيع بن خثيم ؟ قال: أنا أكبر منه سنا، وهو أكبر مني عقلا.
و عن عمر بن سعد، قال: كان الربيع بن خثيم يأتي علقمة فيقول: ما أزور أحدا غيرك أو ما أزور أحدا ما أزورك.
عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل، و شقيق بن سلمة قيل أنه روى عن أبي بكر الصديق و كان من أئمة الدين، و علقمة فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها، الإمام، الحافظ، المجود، المجتهد الكبير.
و غيرهم كثير….نعم صاحبهم الربيع و صاحبوه فكفى بهذه الصحبة شرفا، فالربيع مخضرم لم يرى النبي صلى الله عليه و سلم و لكنه رأى من صحبوا النبي صلى الله عليه و سلم.
فمن هو الربيع بن خثيم الذي قال فيه ابن عباس "لو رآك النبي صلى الله عليه و سلم لأحبك"
و هنا أقول: ماذا لو رآنا النبي صلى الله عليه و سلم نحن اللكع، هل سيحبنا كما قال ابن عباس أم سيعاتبنا، كل منا أدرى بحاله. هل سيرضى حبيبنا صلى الله عليه و سلم عن حالنا، عن بيوتنا، عن أخلاقنا، عن استقامتنا، عن اتباع سنته، عن تبليغنا دعوته..!!
اترك لكم الجواب فكل منا أدرى بحاله. فالله الله في إصلاح الأحوال. فوالله ما بلغ القوم بالتمني و لكن …بما تقرؤونه في تراجمهم.
قال الذهبي: كان يعد من عقلاء الرجال.
كان الربيع بن خثيم إذا قيل له: كيف أصبحتم ؟ قال: ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا.
وعن ابنة للربيع، قالت: كنت أقول: يا أبتاه، ألا تنام ؟ ! فيقول: كيف ينام من يخاف البيات.
فمن هو الربيع بن خثيم؟
إنه علم من أعلام التابعين…
و أحد الثمانية الذين انتهى إليهم الزهد في عصرهم…
عربي الأصل…
مضري الأرومة…يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في جديه إلياس و مضر.
قال الذهبي في السير: ابن عائذ، الإمام القدوة العابد، أبو يزيد الثوري الكوفي، أحد الاعلام.
أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسل عنه.
وروى عن عبد الله بن مسعود، وأبي أيوب الانصاري، وعمرو بن ميمون وهو قليل الرواية إلا أنه كبير الشأن.
حدث عنه: الشعبي، وإبراهيم النخعي، وهلال بن يساف، ومنذر الثوري، وهبيرة بن خزيمة، وآخرون.
ومن غريب ما يحكى عنه:
أن أمه كانت تنام ثم تصحو ، فتجد ابنها اليافع الذي قارب البلوغ ما زال صافا في محرابه..سابحا في مناجاته..مستغرقا في صلاته…
فتناديه وتقول:
يا بني يا ربيع ألا تنام!؟
فيقول: كيف يستطيع النوم من جن عليه الليل، و هو يخشى البيات!؟
فتتحدر الدموع على خدي الشيخة العجوز و تدعو له بالخير. لكن لما كثر تضرعه، و شد نحيبه في عتمات الليل و الناس نيام أرقها حاله حتى ظنت به الظنون…
فصارت تناديه قائلة:
ما الذي أصابك يا بنيّ!؟ لعلك أتيت جرما.. لعلك قتلت نفسا.
فقال: نعم يا أمه، لقد قتلت نفسا.
فقالت في لهفة : و من هذا القتيل يا بني حتى نجعل الناس يسعون إلى أهله لعلهم يعفون عنك؟ و الله لو علم أهل القتيل ما تعاني من البكاء، و ما تكابد من السهر لرحموك.
فقال: لا تكلمي أحدا…فإنما قتلت نفسي…لقد قتلتها بالذنوب…
نعم هذا هو الربيع الذي قال فيه ابن مسعود رضي الله عنه :ما رأيتك مرة إلا ذكرت المخبتين.
نعم لم يبالغ ابن عباس في قوله هذا، فلقد بلغ الربيع بن خثيم من الخشية، و الورع، و التقوى مبلغا عاليا، و أثرت عنه في ذلك أخبار كثيرة ما تزال تزهو بها صفحات التاريخ.
هؤلائي آبائي فجئني بمثلهم***إذا جمعتنا يا جرير المجامع
من ذلك ما رواه أحد أصحابه قال:
صحبت الربيع بن خثيم عشرين سنة، فما سمعته يتكلم إلا بكلمة تصعد.
و كان الربيع إذا جن الليل ووجد غفلة الناس خرج إلى المقابر فيقول: يا أهل المقابر كنا وكنتم. فإذا أصبح فكأنه نشر من قبر.
مواقف الرجل كثيرة و لو أردنا ذكرها لطال المقال و لكن بالإشارة يفهم اللبيب.
ومن جميل ما قال:
إذا تكلمت فاذكر سمع الله إليك، وإذا هممت فاذكر علمه بك، وإذا نظرت فاذكر نظره إليك، وإذا تفكرت فاذكر اطلاعه عليك، فإنه يقول تعالى "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا" سورة الإسراء: آية 36.
السرائر التي تختفي على الناس وهي لله بواد، التمسوا دواءهن التمسوا دواءهن. ثم يقول: وما دواءهن? دواءهن أن تتوب فلا تعود.
و قال :" إياك أن يقول الرجل حرم هذا ونهي عن هذا فيقول الله له كذبت "
و قال لرجل لا تلفظ إلا بخير فإن العبد مسئول عن لفظه يحصى ذلك عليه كله "أحصاه الله ونسوه "سورة المجادلة آية 6.
هكذا عاش الربيع بن خثيم زاهدا في الدنيا ورعا تقيا.
فلما سقط شقه كان يهادى بين رجلين إلى مسجد قومه، وكان أصحاب عبد الله يقولون له يا أبا يزيد لقد رخص الله لك لو صليت في بيتك فيقول: إنه كما تقولون، ولكني سمعته ينادي: حي على الفلاح فمن سمع منكم فليجبه ولو زحفا، ولو حبوا.
قال سفيان الثوري: عن العلاء بن المسيب، عن أبي يعلى الثوري، قال: كان في بني ثور ثلاثون رجلا، مامنهم رجل دون الربيع بن خثيم.
توفي الربيع بن خثيم رضي الله عنه قبل سنة خمس وستين. كما قال الذهبي في السير.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح.
حكيم هذه الأمة و ريحانة الشـام.
العابد. أدرك الجاهلية وأسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم المدينة حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستخلف أبو بكر.
كان فاضلاً ناسكاً عابداً وله كرامات وفضائل.
قال عثمان بن أبي عاتكة "لقد تفانى أبو مسلم في العبادة حتى صار يقول : لو رأيت الجنة عيانا أو النار عيانا ما كان عندي مستزاد"
قال عنه الذهبي: سِّيد التابعين وزاهد العصر… قدم المدينة وقد قبض النبي صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر، وكانت له مواقف محمودة ضد الأسود العنسي الذي تنبَّأ باليمن.
قال الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب: ومن نوادر أخباره وكراماته ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان…. أن الأسود ابن قيس بن ذي الخمار تنبأ باليمن فبعث إلى أبي مسلم فلما جاءه قال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع. قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع قال: أتشهد أن محمداً رسول الله قال: نعم. فردد ذلك عليه كل ذلك يقول له مثل ذلك قال فأمر بنار عظيمة فأججت ثم ألقي فيها أبو مسلم فلم تضره شيئاً قال: فقيل له: انفه عنك وإلا أفسد عليك من اتبعك. قال فأمره بالرحيل فأتى أبو مسلم المدينة وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد ودخل المسجد وقام يصلي إلى سارية فبصر به عمر بن الخطاب فقام إليه فقال: ممن الرجل قال: من أهل اليمن قال: ما فعل الرجل الذي أحرقه الكذاب بالنار؟. قال: ذلك عبد الله بن ثوب قال: أنشدك بالله أنت هو؟ قال: اللهم نعم. قال: فأعتنقه عمر وبكى ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين أبي بكر وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله عليه السلام. قال إسماعيل بن عياش فأنا أدركت رجلاً من الأمداد الذين يمدون من اليمن من خولان. يقولون للأمداد من عنس صاحبكم الكذاب حرق صاحبنا بالنار فلم تضره.
و من عجيب ما يحكى عنه أنه لم يكن يجالس أحدا يتكلم في شيء من أمر الدنيا إلا تحول عنه، فدخل ذات يوم المسجد فنظر إلى نفر قد اجتمعوا فرجا أن يكونوا على ذكر الله تعالى، فجلس إليهم وإذا بعضهم يقول: قدم غلامي فأصاب كذا وكذا. وقال آخر: جهزت غلامي، فنظر إليهم وقال: سبحان الله أتدرون ما مثلي ومثلكم؟ كمثل رجل أصابه مطر غزير وابل فالتفت فإذا هو بمصراعين عظيمين فقال: لو دخلت هذا البيت حتى يذهب هذا المطر، فدخل فإذا البيت لا سقف له.
جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على ذكر وخير فإذا أنتم أصحاب دنيا.
فمن هو أبو مسلم الخولاني:
قال الذهبي في السير: اسمه على الأصح: عبد الله بن ثوب، وقيل: اسمه عبد الله بن عبد الله، وقيل: عبد الله بن ثواب. وقيل: ابن عبيد. ويقال: اسمه يعقوب بن عوف.
وحدث عن عمر، ومعاذ بن جبل، وأبي عبيدة، وأبي ذرالغفاري، وعبادة بن الصامت.
روى عنه أبو إدريس الخولاني، وأبو العالية الرياحي، وجبير بن نفير، وعطاء بن أبي رباح، وشرحبيل بن مسلم – وما أدركاه – وعطية بن قيس، وأبو قلابة الجرمي، ومحمد بن زياد الالهاني وعمير بن هانئ ويونس بن ميسرة، ولم يلحقوه، لكن أرسلوا عنه.
مواقف الرجل كثيرة، كراماته دالة على مكانته و مقامه، درر الكلام نابعة من فيه، قال الذهبي: ويروى عن مالك بن دينار، أن كعبا رأى أبا مسلم الخولاني، فقال: من هذا ؟ قالوا: أبو مسلم، فقال: هذا حكيم هذه الأمة.
من هذه المواقف و قد مر موقفه مع الأسود العنسي. مواقفه مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
ذكر ابن عساكر في تاريخه أن أبا مسلم الخولاني قام إلى معاوية بن أبي سفيان وهو على المنبر فقال: يا معاوية إنما أنت قبر من القبور إن جئت بشئ كان لك شئ وإلا فلا شئ لك، يا معاوية لا تحسب أن الخلافة جمع المال وتفريقه إنما الخلافة القول بالحق والعمل بالمعدلة وأخذ الناس في ذات الله، يا معاوية إنا لا نبالي بكدر الأنهار ما صفا لنا رأس عيننا، يا معاوية وإياك أن تميل على قبيلة من العرب فيذهب حيفك بعدلك، ثم جلس فقال له معاوية: يرحمك الله يا أبا مسلم يرحمك الله يا أبا مسلم.
وذكر أيضا أن أبا مسلم الخولاني دخل على معاوية بن أبي سفيان فقام فيما بين السماطين فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقيل له مه ! فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعرف بما يريد فتقدم أبو مسلم فقال: السلام عليك أيها الأجير فقال معاوية: وعليك السلام يا أبا مسلم، فقال أبو مسلم: يا معاوية اعلم أنه ليس من راعي استرعى رعية إلا ورب أجره سائله عنها فإن كان داوى مرضاها وهنأ جرباها وجبر كسراها ورد أولاها على أخراها ووضعها في أنف من الكلأ وصفو من الماء وفاه الله تعالى أجره وإن كان لم يفعل حرمه، فانظر يا معاوية أين أنت من ذلك فقال له معاوية يرحمك الله يا أبا مسلم الأمر على ذلك.
ومن كراماته ما ذكره الذهبي : روى محمد بن زياد الالهاني، عن أبي مسلم الخولاني، أنه كان إذا غزا أرض الروم، فمروا بنهر فقال: أجيزوا بسم الله، ويمر بين أيديهم، فيمرون بالنهر الغمر، فربما لم يبلغ من الدواب إلا الركب، فإذا جازوا قال: هل ذهب لكم شئ ؟ [ فمن ذهب له شئ فأنا ضامن له ] فألقى بعضهم مخلاته [ عمدا ].
فلما جاوزوا قال [ الرجل ]: مخلاتي وقعت، قال: اتبعني فاتبعه، فإذا بها معلقة بعود في النهر، قال: خذها.
وذكر أيضا: أن أبا مسلم أتى على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها فذهب عليها، ثم حمد الله وأثنى عليه، وذكر مسير بني إسرائيل في البحر، ثم لهز دابته، فخاضت الماء، وتبعه الناس حتى قطعوها، ثم قال: هل فقدتم شيئا [ من متاعكم ] فأدعوا الله أن يرده [ علي ].
كان رحمه الله مستجاب الدعوة، قال الذهبي : وروى بقية عن محمد بن زياد: عن أبي مسلم، أن امرأة خببت عليه امرأته، فدعا عليها، فعميت، فأتته فاعترفت وتابت، فقال: اللهم إن كانت صادقة، فاردد بصرها، فأبصرت.
تأملوا أيها السالكون هذا الموقف !!!
عن عطاء الخراساني، أن امرأة أبي مسلم قالت: ليس لنا دقيق.
فقال: هل عندك شئ ؟ قالت: درهم بعنا به غزلا.
قال: ابغينيه وهاتي الجراب، فدخل السوق، فأتاه سائل، وألح، فأعطاه الدرهم، وملا الجراب نشارة مع تراب، وأتى وقلبه مرعوب منها، وذهب، ففتحته، فإذا به دقيق حوارى.
فعجنت وخبزت، فلما جاء ليلا، وضعته، فقال: من أين هذا ؟ قالت: من الدقيق، فأكل وبكى.
نعم بكى، بعدما علم أن مولاه جل و علا بيده ملكوت كل شيء، و إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون. قال جل و علا للنشارة و التراب كوني دقيقا فكانت، فكانت دقيقا في بيت أبي مسلم الخولاني. فحق له أن يبكي، و حق له أن يتشوق للجنة، و حق له، أن يتحدى الأسود العنسي حين رماه في النار. لأنه علم من نفسه أن لا شيء يحول بينه و بين مولاه، لا ذنوب و لا معاصي و لا تهاون في العبادات، حتى قال: "لو رأيت الجنة عيانا أو النار عيانا ما كان عندي مستزاد" زهد و ورع و جهاد و…، أفلا يخجل الواحد منا، ألا يبكي الواحد منا دما بل قيحا، تقلب في النعم، مال و بيت و أبناء، و عشرات الأقمصة للأخ، و عشرات الأثواب للأخت، و لا يتصدق الواحد منهم بثوب واحد على أخيه في الله و لا الأخت على أختها في الله. و نريد أن نمشي على واد دجلة لتحرير العراق، فو الله إن الواحد منا يخاف من أن يمشي على أرض مبسوطة فيخسف به عقوبة من المولى جل و علا. و لكن هي رحمته سبحانه بهذه الأمة.
مواقف هذا الحكيم كثيرة فلنكتفي بهذا النزر القليل، و نختم مقالنا هذا بما قاله الذهبي عن وفاته.
قال سعيد بن عبد العزيز: مات أبو مسلم بأرض الروم، وكان شتا مع بسر بن أبي أرطاة، فأدركه أجله، فعاده بسر، فقال [ له أبو مسلم ]: يابسر، اعقد لي على من مات في هذه الغزاة، فإني أرجو أن آتي بهم يوم القيامة على لوائهم.
قال أحمد بن حنبل: حدثنا عن محمد بن شعيب عن بعض المشيخة قال: أقبلنا من أرض الروم فمررنا بالعمير على أربعة أميال من حمص في آخر الليل، فاطلع راهب من صومعة، فقال: هل تعرفون أبا مسلم الخولاني ؟ قلنا: نعم.
قال: إذا أتيتموه، فأقرؤوه السلام، فإنا نجده في الكتب رفيق عيسى ابن مريم، أما إنكم لا تجدونه حيا.
قال: فلما أشرفنا على الغوطة، بلغنا موته.
قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: يعني سمعوا ذلك، وكانت وفاته بأرض الروم.
وروى إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم، عن سعيد بن هانئ قال، قال معاوية: إنما المصيبة كل المصيبة بموت أبي مسلم الخولاني.
حديث تطيب به النفوس، تشحذ به الهمم، و تحيى به القلوب. سير ملأت و أزهرت أوراق التاريخ و أنارت صفحاته بمواقف جليلة، و بأقوال تكتب بماء منذهب. فكيف لا تكون كذلك؟ و هي شاهدة زمن الوحي او قريبا منه. و مشت فوق تربة مشى فوقها خير خلق الله نبينا محمد صلى الله عليه و سلم.
حديثنا في هذه الترجمة الخامسة من سلسلة الزهاد الثمانية. عن عابد اسمه عامر اشتهر بزهده و عبادته.
قال كعب الأحبار لما رآه: هذا راهب هذه الأمة. نعم، كان عامر حقا راهبا. فهذا إن دل إنما يدل على مقام عال في الزهد و العبادة.
تمنى رجل فقال ليتني بزهد الحسن وورع بن سيرين وعبادة عامر بن عبد قيس وفقه سعيد بن المسيب وذكر مطرفا بشيء لا يحفظه فنظروا ذلك فوجدوه كاملا كله في الحسن.
قيل لأبي عبد الله أحمد بن حنبل مات بشر بن الحارث. قال: مات رحمه الله وماله نظير في هذه الأمة إلا عامر بن عبد قيس فإن عامرا مات ولم يترك شيئا وهذا قد مات ولم يترك شيئا ثم قال لو تزوج كان قد تم أمره.
و أقول كما قال جرير:
هؤلائي آبائي فجئني بمثلهم***إذا جمعتنا يا جرير المجامع
عامر بن عبد قيس. العابد من هو؟ ما هي مواقفه؟
قال الحافظ في الإصابة: عامر بن عبد قيس بن قيس ويقال عامر بن عبد قيس بن ناشب بن أسامة بن حذيفة بن معاوية التميمي العنبري أبو عبد الله أو أبو عمرو النصرى الزاهد المشهور يقال أدرك الجاهلية حكاه أبو موسى في الذيل وروى البخاري في تاريخه من طريق أبي كعب قال كان الحسن وابن سيرين يكرهان أن يقولا عامر بن عبد قيس ويقولان عامر بن عبد الله وذكر سيف في الفتوح من طريق أبي عبيدة العصفري انه كان فيمن شهد فتح المدائن وقال العجلي: تابعي ثقة من كبار التابعين وعبادهم"
و قال الذهبي: القدوة الولي الزاهد أبو عبد الله، ويقال: أبو عمرو التميمي، العنبري، البصري.
روى عن عمر وسلمان.
وعنه: الحسن، ومحمد بن سيرين، وأبو عبد الرحمن الحبلي وغيرهم، وقلما روى.
وقال أبو عبيد في " القراءات ": كان عامر بن عبد الله الذي يعرف بابن عبد قيس يقرئ الناس.
"أما والله لأجعلن الهم هما واحدا " أقسم و وفى بقسمه. فجعل الهم هما واحدا. جعله في مرضات الله و طاعته و مناجاته. قال الحسن وفعل. نعم فعل، لذلك شهد له بقدم السبق في العبادة و الزهد فهو من زهاد التابعين الثمانية كما لا يخفاكم، و كم عدد التابعين؟ لا غرابة فالقوم عرفوا الطريق فسلكوها بصدق.
أما نحن فهل جعلنا الهم هما واحدا؟ بالله عليك أخي و أخيتي هل جعلت الهم همـــــوما؟ نعم قل جعلته. و هل هذه الهموم هي لله أم للدنيا؟ نعم جعلتها للدنيا، و يا ليتني جعلتها لله فإنما الاعمال بالنيات و لكل امرئ ما نوى. اسمع لمقول عامر و تأمله فلعله يجعل همك هما واحدا: "أحببت الله عز و جل حبا سهل علي كل مصيبة ورضاني في كل قضية فما أبالي مع حبي إياه ما أصبحت عليه وما أمسيت".
قال ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان: قال بعض العارفين مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها قيل : وما أطيب ما فيها قال : محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وطاعته
وقال آخر : إنه ليمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب
وقال آخر : والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته وقال أبو الحسين الوراق : حياة القلب في ذكر الحي الذي لا يموت والعيش الهني الحياة مع الله تعالى لا غير.
ولهذا كان الفوت عند العارفين بالله أشد عليهم من الموت لأن الفوت انقطاع عن الحق والموت انقطاع عن الخلق فكم بين الانقطاعين
وقال آخر : من قرت عينه بالله تعالى قرت به كل عين ومن لم تقر عينه بالله تقطع قلبه على الدنيا حسرات.
و قال رحمه في حديثه عن فوائد الذكر: "أنه يورثه المحبة التي هي روح الإسلام وقطب رحى الدين ومدار السعادة والنجاة وقد جعل الله لكل شيء سببا وجعل سبب المحبة دوام الذكر فمن أراد أن ينال محبة الله عز و جل فليلهج بذكره فإنه الدرس والمذاكرة كما أنه باب العلم فالذكر باب المحبة وشارعها الأعظم وصراطها الأقوم"
من مواقفه و أقواله رحمه الله:
أن أمير البصرة بعث إليه فقال: إن أمير المؤمنين أمرني أن أسألك مالك لا تزوج النساء قال ما تركتهن وإني لدائب في الخطبة قال ومالك لا تأكل الجبن قال أنا بأرض فيها مجوس فما شهد شاهدان من المسلمين أن ليس فيه ميتة أكلته قال وما يمنعك أن تأتي الأمراء قال إن لدى أبوابكم طلاب الحاجات فأدعوهم وأقضي حوائجهم ودعوا من لا حاجة له إليكم.
قال رحمه الله: "وجدت أمر الدنيا تصير إلى أربع المال والنساء والنوم والأكل فلا حاجة لي في المال والنساء فأما النوم والأكل فأيم الله لئن استطعت لأضرن بهما".
" أأنا من أهل الجنة أو أنا من أهل الجنة أو مثلي يدخل الجنة"
و كان يسأل ربه أن ينزع شهوة النساء من قلبه، فكان لا يبالي أذكرا لقي أم أنثى.
وسأل ربه أن يمنع قلبه من الشيطان وهو في الصلاة فلم يقدر عليه.
وقيل: إن ذلك ذهب عنه.
وعن أبي الحسين المجاشعي، قال: قيل لعامر بن عبد قيس: أتحدث نفسك في الصلاة ؟ قال: أحدثها بالوقوف بين يدي الله، ومنصرفي.
قال أبوعمران الجوني: قيل لعامر بن عبد قيس: إنك تبيت خارجا، أما تخاف الأسد ! ؟ قال: إني لاستحيي من ربي أن أخاف شيئا دونه.
لقي رجل عامر بن عبد قيس، فقال: ما هذا ؟ ألم يقل الله: (وجعلنا لهم أزواجا وذرية) [ الرعد: 38 ] ؟ قال: أفلم يقل الله تعالى: (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) [ الذاريات: 56 ] .
ومن كراماته أنه كان يأخذ عطاءه، فيجعله في طرف ثوبه، فلا يلقى مسكينا إلا أعطاه، فإذا دخل بيته، رمى به إليهم، فيعدونها فيجدونها كما أعطيها.
وفاته :
قيل: توفي في زمن معاوية. و الله أعلم.
———————————
سئل الشعبي -رحمه الله- عن الأسود بن يزيد فقال: "كان صواما قواما حجاجا."
حديثنا في هذه الترجمة المباركة عن صحابي مخضرم أدرك الجاهلية و الإسلام، فكان لهذه المرحلة التي عاشها ما قبل الإسلام –الجاهلية- و مرحلة الإسلام الأثر البليغ، فقد عاش الجاهلية و استشعر واقعها. و عاش الإسلام بسماحته و سمو شريعته و علو منزلته عند الله (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) سورة آل عمران: 19
أي لا دين مرضي عند الله تعالى سوى الإسلام.
قال الذهبي في السير: ابن قيس، الإمام، القدوة، أبو عمرو النخعي الكوفي.
وقيل: يكنى أبا عبد الرحمن، وهو أخو عبد الرحمن بن يزيد، ووالد عبد الرحمن بن الأسود، وابن أخي علقمة بن قيس، وخال إبراهيم النخعي.
فهؤلاء أهل بيت من رؤوس العلم والعمل.
وكان الأسود مخضرما، أدرك الجاهلية والإسلام.
وهو نظير مسروق في الجلالة و العلم والثقة والسن يضرب بعبادتهما المثل. اهـ. كلام الذهبي.
قلت : "كان من أهل بيت من رؤوس العلم و العمل" صدق الذهبي رحمه الله، فإبراهيم النخعي خاله هو الإِمَامُ، الحَافِظُ فقيه العراق، َكَانَ بَصِيْراً بِعِلْمِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ، وَاسِعَ الرِّوَايَةِ، فَقِيْهَ النَّفْسِ، كَبِيْرَ الشَّأْنِ، كَثِيْرَ المَحَاسِن.ِ و علقمة فَقِيْهُ الكُوْفَةِ، وَعَالِمُهَا، وَمُقْرِئُهَا، الإِمَامُ، الحَافِظُ، المُجَوِّدُ، المُجْتَهِدُ الكَبِيْرُ. أما أخوه عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ يَزِيْدَ فهوالإِمَامُ الفَقِيْهُ. فهذا هو النشء الذي تربى فيه الأسود فكيف لا يكون قدوة إماما، صواما قواما.
كان رحمه الله من كبار التابعين، ومن رواة عبد الله بن مسعود. روى عن أبى بكر، وعمر، وعلىّ، وحذيفة، وبلال، وغيرهم. وكان رحمه الله ثقة، صالحاً، على جانب عظيم من الفهم لكتاب الله تعالى.
قال فيه الإمام أحمد: ثقة من أهل الخير. وقال فيه يحيى بن معين: ثقة. وقال ابن سعد: ثقة وله أحاديث صالحة. وهو عند أصحاب الكتب الستة.
وذكره إبراهيم النخعى فيمن كان يُفتى من أصحاب ابن مسعود.
وقال ابن حبان فى الثقات: كان فقيهاً زاهداً.
أحواله الإيمانية:
كان الأسود يختم القرآن في كل ست وفي رمضان في كل ليلتين وكان علقمة يختمه في خمس.
كما كان رحمه الله يصوم الدهر، وذهبت إحدى عينيه من الصوم.
وروى يزيد بن عطاء عن علقمة بن مرثد قال كان الأسود بن يزيد يصوم حتى يخضر جسده ولقد حج ثمانين من حجة وعمرة.
وفاته:
توفى بالكوفى سنة 74 هـ (أربع وسبعين، أو خمس وسبعين من الهجرة) على الخلاف فى ذلك.