تخطى إلى المحتوى

غادة السمان : الأبدية لحظة صدق 2024

غادة السمان : الأبدية لحظة صدق


الونشريس


غادة السمان : الأبدية لحظة صدق

– أيتها المرأة الحزينة،

ما الذي تفعلينه منتصف ليل السنة الجديدة؟

– أحمل المثقاب الكهربائي، واغرسه في الجدار،

أصنع ثقباً صغيراً لتعليق خارطة وطني على مسمار،

وبعدها أغرس المثقاب في ظلام الليل الصلد

حتى أثقبه ، فقد ألمح ضوءاً في الطرف الآخر…

– أيتها المرأة الحزينة، أما زلتِ تحبينني؟

– هذا العمر كله لا يكفيني لأقول كم أحبك …

إنه أقصر من أن يتسع للرحلة معك

وأطول من أن نقضيه في الفراق…

– أيتها المرأة الحزينة، لماذا إذن هجرتني؟

– لأنك طالما اعتبرت تقديسي للحرية

مرضاً بحاجة إلى علاج…

ولأنك وضعت لنفسك هدفاً ثابتاً:

إن تبدّلني كي تحبني…

كنتَ تحب امرأة أخرى وهمية، وتحاول حشري في قالبها،

ماسحاً ملامحي النفسية بممحاة حبي لك…

***

– أيتها المرأة الحزينة، أراضية أنت الآن بحريتك؟

– من الذي سجن روحي في هذا الجسد المهترئ؟

لو استطعت أن أختار جسداً،

لاخترت جسد الأمواج الحرة،

التي تهرول كما يحلو لها في وضح الليل،

على رمل قارات الأسرار وتنحت مغاورها معلنة حقيقتها…

– أيتها المرأة الحزينة ، ألا هاجس لكِ غير الحرية؟

– وكل شيء يحاول سجني!…

حتى السطور على ورقتي البيضاء

التي أخط عليها الآن هذه الكلمات،

تبدو لي كقضبان السجن…

لهذا أحب الكتابة،

بين السطور وخلف الورقة على الريح…

– أيتها المرأة الحزينة، هل تعرفين نفسك؟

– أحدق في المرآة ، وأرى صورتي غريبة عني،

فأسألها: من أنتِ أيتها البومة؟

من هو ليلك؟ أي الرياح رياحك؟

أي الأوطان وطنك؟

لا تجيب…

لكنها تفتح باب المرآة، ولا تقول شيئا…

وتطير بعيداً…

***

– أيتها المرأة الحزينة، ما الذي تبقّى من حبنا!

– لم يبق من الدورة الدموية لحبنا،

غير الحبر في قلمي…

وها أنا أعيد صياغة حرائقنا، وأمزجتنا الموسمية،

وأبني قصور الأبجدية من رمادنا…

– دعينا نحاول من جديد…

– أعذرني.. ليس لي صبر الأمواج

لأقرع باب شطآنك دهوراً من الذل…

لي حرية الأمواج وفضولها…

وكالعصفور أمضي خلف الغصن المستحيل،

المرتسم داخل بحيرات الدهشة…

وكالعصفور، لا أحطّ على شرفتك إلا لأطير…

***

– أيتها المرأة الحزينة سعيدة أنت في باريس؟

– جيوب الغربة،

مليئة بالسكاكر الشهية والبالونات الملونة،

والمناديل الحريرية، والأرانب البيض،

ولكنها لا تصلح رشوة لمشردة مشاكسة مثلي،

محصّنة بشوقها إلى الوطن،

رافضة لقارئة الكف ونقر الدف…

– وبيروت؟

– حين أكتب عنها يصير الفضاء لحظة تنّهد…

بيروت؟ آه كيف يمشي البكاء في الشوارع…

والحزن مكواة تركض فوق الملامح،

وتمسح عنها التعابير الآدمية، كالابتسامة

والشوق واللهفة والحلم،

وتبدو وجوهنا جميعاً،

مثل قميص أبيض خاو في مصح عقلي،

خرج للتو من الغرفة المطاطية للقمع

بعدما استجوبه الجنون طويلاً…

في ليالي الانتحاب الأخرس.

***

– أيتها المرأة الحزينة، كيف ترين ما كان بيننا؟

– أحاول أن أتذكر التفاصيل، وأفشل،

قأقوم باختراع ماض جميل لنا خارج تناقضاتنا…

كيف أطيق أيامي بدونك وأخطو في نفق غدي

إذا لم أخترع لنا زمناً يليق بأسطورتنا؟

وثمة لحظات أرى فيها ما كان حقاً

في ومضة صدق مختزلة… فيدمع قلبي.

– وماذا ترين؟

– التقينا. حملتني. سوّرت أحد حقولك وزرعتني فيه

فزّاعة طيور تحت الثلج، ونسيتني شتاءات طويلة،

ثم سألتني ليلة رأس السنة: لماذا أنت شاحبة هكذا؟!

    الونشريس

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.