فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ ، فَلَوْلاَ إِنْ كُنتُمْ غَيْرَمَدِينِينَ ، تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}(1).
توفي للعلّامة محمد أمين شيخو صديق تربطه به علاقة قوية، وفور سماعه نبأ الوفاة وكان صديقه المتوفى قد قاسى سنتين قضاها بالآلام المرضية الصعبة ومرَّ بسلسلة من الأوجاع الشديدة.
شيَّعه حزيناً إلى المقبرة وبعد انفضاض المشيِّعين مكث بجانب قبره مدة طويلة وهو يبكي عليه بكاءً طويلاً، ثم غادره يعتصر الألم نفسه من الحزن النابع من قلب رحيم.
وفي منزله لم يكن الحزن الشديد الذي انتابه على فقدان صاحبه ليفارقه مما جعله يجلس في داره ويتذكَّر صاحبه ويبكي عليه، ومن شدة ما أمضَّه البكاء والإرهاق وتأثّره على فراق صاحبه الذي قاسى الأمراض سنتين حافلتين بالأوجاع حتى أخذته سنة من النوم رأى خلالها صاحبه يقول له:
يا أخي إنني مسرور وفي غاية البسط ولا يُزعجني إلاَّ بكاؤك عليَّ: أنا بخير…
استيقظ السيد محمد أمين من نومه وهو يستعيذ بالله:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لعلَّ هذا شيطاناً يريد تحويلي عن صاحبي ومصيره المؤلم، وعاد للبكاء ثانية حتى انهار جسده.
حلَّ به التعب ثانية فأخذته سنةٌ من النوم، وإذا به يرى صاحبه للمرة الثانية بالرؤيا وهو يقول له: والله أنا مبسوط لكن صوتك الباكي هو الذي يزعجني، أنا بخير.
انظر الآن… سوف أقص لك قصتي لكي لا تقول بعدها عني بأني شيطان… جاءك بالمنام.
* * *
أنت تعرف بأني مريض منذ سنوات ومشلول، وبينما كنت مستلقياً على سريري فجأةً شدَّ عليَّ الألم بقوَّة لم أعاين شبيهاً له منذ بداية الألم والمرض، وعندها التجأت إلى الله بقوة، شعرت بعدها بأنني سليم مُعافى تمام العافية، بل بصحة جيدة جداً… تفحَّصت جسمي ويداي وقدماي… فلم أجد أي ألم، لقد أصبحت سليماً معافى من كل شيء… قفزت من فرحي على الأرض وصرخت منادياً زوجتي وأولادي:
تعالوا انظروني، لقد شُفيت ولدى قدومهم إذا بهم لا ينتبهون إلي، والأشد غرابة دخلت زوجتي وأولادي غرفتي ولم يُعيروا أي اهتمام لكلامي، بل تركوني خارجاً ودخلوا الغرفة فلحقت بهم "لكن ما القصة لا أفهم".
تركوني وألقوا أنفسهم على جسد شخص غريب مُلقى على سريري، لقد كانت زوجتي كاشفة عن وجهها ورأسها وبحالة شديدة من البكاء مع الأولاد.
ثارت ثائرتي وغضبت منهم وصرخت محاولاً منعهم "مالكم وماله"، كيف تكشفون على هذا الغريب، لكن بدون جدوى، بل انفجروا ببكاءٍ شديد.
وبعد قليل أتى المغسِّل وغسَّلوا هذا الميت الغريب، سألتهم: من هذا الميت فلم أتلقَّ أي جواب، بل حملوه على النعش. هنا صمَّمت على معرفة هذا الميت.
وفي الطريق لتشييعه للصلاة عليه وللغرابة الشديدة رأيت أصحابي القدامى الذين كنت منذ سنوات طويلة لم أرهم، فسألتهم عن هذا الميت فلم يجبني أحد. وكنت كلَّما كلَّمت أحداً من أصحابي لا يلبث أن يجهش بالبكاء.
(إذ ذاك كان السيد محمد أمين يشهد في رؤياه أحوال صاحبه المتوفى وما يتكلَّم عنه من أحداث مرَّ بها)، لقد أوصله قلبه الرحيم المفيض بدموع الحزن على صاحبه لهذه الرؤية المشهودة من بداية الموت وحتى اللحظة هذه.
وتابع صاحب هذا الإنسان سرد قصته عليه بعد وفاته، قال:
وصمَّمت على أن أعرف هذا الميت الذي حاز على اهتمام الجميع، وسألتهم ولم يردوا عليَّ.
وخلال مدة بسيطة جُهزت الجنازة للصلاة وصلُّوا على هذا الميت وصلَّيت معهم، ثم خرجت الجنازة، وعند وصولهم المقبرة ووضعهم النعش على الأرض وإخراج جسد الميت ليواروه قبره، صمَّمت على معرفته في اللحظات الأخيرة، نعم سوف أنظر إلى وجهه عندما يضعونه في قبره لأرى من هو.
وتجمَّع الناس حول القبر وتقدّمت بين الناس لأنظر لوجه هذا الشخص بُغية معرفته ووقفت على حافة القبر لأرى من هو.
وعندما كشف الحفَّار عن وجه هذا الميت شعرت بثقل في رأسي ودوار عظيم أفقدني توازني وسقطت في القبر فصرخت:
يا ناس… يا ناس، لأخرج من هذه الورطة، لكن للغرابة لم يردُّوا عليَّ وقاموا بوضع الشطائح والتراب، وصرخت بهم: يا جماعة أنا عائش، أنا حي، والله حي، لمَ تعملون بي هكذا؟.
لكنهم لم يستجيبوا لطلبي وتركوني في هذه المصيبة.
وتابع هذا الميت يصف وصفاً مشهوداً لصاحبه… السيد محمد أمين الذي بكى عليه ذاك البكاء.
والله لقد مررت بلحظة رعب وفزع شديدين لم أرَ مثيلها في حياتي كلَّها، وفيما أنا في هذه الحالة في القبر من الرعب العظيم والفزع أنبش التراب للنجاة لمست يدي حلقة حديدية فأمسكت بها وشددتها بقوة، وإذ بسرداب يبدأ بدرج، الحمد لله، الحمد لله الذي خلّصني من هذه المصيبة الكبرى.
نزلت الدرج فوجدت حديقة غنَّاء والعصافير تزقزق وتغرد، ورأيت أنواعاً من الطيور والأزهار لم أرَ مثيلها في حياتي كلّها.
وفي داخل هذه الحديقة قصرٌ يحار العقل بجماله لم أرَ شبيهاً له طيلة حياتي الماضية. في هذه الأثناء وعبر هذه المشاهد الرائعة التي أخذت بقلبي وسحرت بصري سمعت صوت الأذان فتذكرت أني لم أُصلِّ صلاة العصر، وبسرعة شمّرت عن ساعديَّ للوضوء من تلك البحرة الجذّابة للقلوب الماثلة أمام هذا القصر، وبدأت بالوضوء وخلال وضوئي؟. سمعت صوتاً غريباً…
يا للعجب!. تذكَّرت بأنني دخلت إلى هنا بالخطأ… ولم أستأذن بسبب حالة الرعب الشديدة، فرفعت صوتي مُنبّهاً الشخص الآتي:
يا جماعة… أنا دخلت إلى هنا بالخطأ، أنا إنسان غريب، لكن لا فائدة، الصوت يقترب والمشية مشية امرأة، فرفعت صوتي: يا أختي… أنا دخلت إلى هنا بالخطأ، ولكن صوت وقع الأقدام كان يزداد قرباً، إنها مصيبة.
أختي أنا غريب، لكنها لم تعبأ بصراخي، بل تقدَّمت نحوي وشعرت بيد تلتف حول عنقي، أعوذ بالله، أعوذ بالله يا أختي أنا غريب.
قالت: أنا زوجتك… إني زوجتك… حوريَّتك.
نظرت إليها وإذ بامرأة ذات قسط من الجمال عظيم، بل لا مثيل له ولا شبيه في الدنيا بأسرها، لكني أشحت بوجهي عنها قائلاً:
أعوذ بالله، أنا زوجتي أم فلان (حيث لم يكن في ذاك الزمان كشف وجه، وكان الحجاب مضروباً على وجوه كافة النساء المسلمات)، فأجابت:
أمُّ فلان زوجتك بالحياة الدنيا!.
يا للغرابة، أدركت عندئذٍ أني بالبرزخ.
وتابع هذا الميت لصاحبه الذي انكبَّ عليه من بين كل أحبابه، فلم يتأثَّر أحد عليه كما تأثَّر عليه هذا الإنسان المحب، بل ولم يشعر بالتفات عظيم من أحد كالتفات هذا الصديق والصاحب الوفي.
وأنا الآن بخير عظيم… والله إني في غاية البسط والسرور، لكن والله لا يزعجني ويقلقني سوى صوت بكائك… والحمد لله… والله تفضّل عليَّ وجعلني في غاية السعادة والنعيم.
والآن أنت نائم وقبل قليل رأيتني وظننت بأنني شيطان ولست بشيطان، أنت الآن سوف تستيقظ من نومك فلا تقل عني شيطان، أنا والحمد لله في غاية النعيم والبسط المقيم.
* * *
ويقول السيد محمد أمين صاحب هذا الميت: فو الله عندما تحدَّث لي بذلك ما كان ينطق بشيء إلا وكنت أرى هذه المشاهد أثناء نطقه عنها.
وفعلاً استيقظ السيد محمد أمين من نومه فحمد الله كثيراً على حالة صاحبه الجيدة، ومن بعدها اطمأنَّ قلبه عليه وهدأ روعه وحمد الله كثيراً على نجاته.
(1)سورة الواقعة: الآية (83-87).
منقول