قواعد الحياة السليمة
<فوائد جليلة>
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على محمَّد رسولِه وعبْدِه، وعلى آله وصحْبه من بعْدِه.
وبعد:
هذه فوائد جبتها لكم ؛ رجاء أن ينفعَ الله بهاكلَّ مَن اطلع عليها، وأن يجعلها ذُخرًا ليوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلْب سليم.
فائدة:
العمرُ في الدنيا قليل، والحياة في البرْزخ، وبعد البعْث طويلة جدًّا، بل هي الحياة الخالدة، ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]، فينبغي على المرء أن يعجِّل بالعمل، ويَرْغَب في الآخرة الباقية، وينأى بنفسه وقلْبه عن الدنيا الفانية.
واعتبرْ بحال المختَبر قبلَ الاختبار، فإنَّه يذاكر ويحصِّل ويَجِدُّ؛ لأنه يعتقد قُربَ الاختبار، ولا يبالي بالتعب؛ لأنَّه يعلم أنَّ الراحة بعدَ الاختبار، فهو تعبٌ قليلٌ في سبيل راحة عظيمة كبيرة، والله المستعان.
فائدة:
((كُنْ في الدنيا كأنَّك غريب، أو عابر سبيل))[1]، فلا بدَّ لراغب الآخرة أن يعتبرَ بحالِ الغريب، أو عابرِ السبيل في شأنه كلِّه، وفي معاملته مع الناس، فإنَّه لا يقيم معهم إلا قليلاً، وفي مسْكنه، فإنَّه لا يُقيم فيها إلا يسيرًا، ورَيْثما يرتحل عنه، فلا يتكلَّف في العَيْش، شأنه في ذلك شأن عابرِ السبيل، ويكون هذا في شأنه كله؛ مستفاد من شرح ابن دقيق العيد على الأربعين النووية.
فائدة:
الاعتصامُ بكلام الأوائل – لا سيَّما في الأمور والمسائل التي حصَل فيه اللَّغط والغلط – من أعظم العواصمِ مِن القواصم، فهُم قد سَلِموا من الفِتنة بموتهم، والأحياءُ لا تؤمن عليهم الفتنة.
قد قال بعض السَّلف: "مَن كان مقتديًا فليقتدِ بمَن قد مات، فإنَّ الحي لا تُؤمَن عليه الفتنة"، نسأل الله السلامة والعافية.
فائدة:
على المرء أن يجتهدَ في إصلاح نفسِه، ومعرفة عيوبها والتبصر فيها، ولا يتكلَّم في عيوب غيره، إلاَّ لمصلحة ترجَّحت، وعلى قدْر تلك المصلحة، ولا يكون كمن يبصر القذاةَ في عين أخيه، ويَدَعُ الجِذع معترضًا في عينه!!
قال بعض السلف: أدركتُ بهذه المدينة أقوامًا لا عَيبَ لهم، فعابوا الناسَ فأظهر الله عيوبَهم، وعِيب عليهم، وأدركتُ أقوامًا لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فسَتَر الله عيوبهم، ولم تظهر.
فما أحوجَنا إلى هذا لا سيَّما في هذه الأعصار، في هذا الهرج والمرج! والله الموفِّق وحده.
فائدة:
فرَض الله سبحانه علينا الولاءَ لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراءَ من الشِّرْك والمشركين وأتباعهم.
ولا يخلو مسلِمٌ مِن ذنب أو خَلل، فينبغي أن يكون البراءُ منه على قدر الخَلل الظاهر على اختلاف أنواعِه، وأن يكون الولاء والحبُّ والنصرة، بقدر ما معَه مِن إيمان وإسلام، وهو – الإسلام – لا يَعْدِله ولا يساويه شيءٌ.
ولا يَسْلَم من الوقوع في الخطأ ها هنا إلا مَن جرَّد التوحيد لله، وجرَّد الاتباع لرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – ونحَّى نفسه وهواه، والناسَ وشعورَهم نحوَه، والله المسؤول العفو والمغفرة.
قاعدة:
ترْك الترتيب بيْن الخيرات مِن جملة الشُّرور.
قاعدة جليلة:
"البِرُّ فيما تَكْره، ليس فيما تحبّ".
فائدة:
لَمَّا كان الإنس والجن مخلوقين إمَّا إلى لجنة أو إلى نار، ولا سبيلَ غيرهما، كانت للعقيدة في الجنة والنار وإثباتهما كما وصفهما خالقُهما – عزَّ وجلَّ – وإثباتِ البعْث بعد الموت، والحسابِ المترتّب عليه الوصول إلى إحدى الدارين – أعظمُ الأثر، وكان هذا أصلاً عظيمًا تنبني عليه أشياءُ كثيرة في السُّلوك والعمل، وفي دعوة الناس إلى خالِقهم، وإخراجهم ممَّا هم فيه مِن الضياع والانحطاط، والغَفْلة والتِّيه، والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.
فائدة:
تحقيق الاستقامة يكون بتحقيق الإيمان بأسماء الله وصفاته – عزَّ وجلَّ – وخُذْ مثالاً صِفتي السمع والبصر وثمرات ذلك.
فإذا علم العبدُ وتحقَّق، واستحضر أنَّ الله سبحانَه يسمعه ويراه، هل يفعل ما يُغضِبه، ويترك ما يُرضيه، ولا يستحيي منه، ولا يجتهد في الوصول إلى مرضاته؟!
كلاَّ، بل يفعل كلَّ خير مما تتمُّ به الاستقامة؛ ولذلك قال – تعالى -: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [هود: 112].
فكأنَّ الإيمان بأنه – سبحانه – بصيرٌ يُعِين على تحقيق الاستقامة، وهو كذلك إنْ شاء الله، نسأل الله الاستقامةَ على طريق نبيِّه – صلَّى الله عليه وسلَّم .
فائدة:
((ما عرفتُم مِن القرآن فاعملوا به، وما جهلتُم فردُّوه إلى عالمه))[2].
فيه: النهي عن معارضة آيات القرآن بعضها ببعض، والنهي عن التشبُّه بالكفَّار في هذا.
وفيه: الزجر عن ضدِّ هذا الأمر، وهو أنْ لا يسألوا مَن لا يعلم[3].
وقوله – تعالى -: ﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ﴾ [التوبة: 69] فيه: أنه لا ينبغي الخوضُ فيما لا يَنْبني عليه عمل، بل هو يؤدِّي إلى الاختلاف والتناحُر، لا سيَّما في هذه الأعصار؛ مستفاد بعضُها من "اقتضاء الصراط المستقيم"؛ لابن تيمية.
فائدة جليلة:
أصل الدِّين في اتباع طريقة المرسَلين، فلا بدَّ من تكريس الجهود، وبذْل الأوقات للاقتداء بالمرسَلين، بمعرفة ودراسة طريقتهم وأحوالهم، والاتِّباعُ جامعٌ لكل أمور الدِّين، فيندرج تحته كلُّ العقائد والشرائع، والله المستعان، قال الله – تعالى -: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾ [الأنعام: 90]، ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21].
وهذه الأُسوة في كلِّ جانب من جوانب حياته – صلَّى الله عليه وسلَّم – فهو أُسوةٌ في كلِّ شيء لكلِّ البشر: المربِّي والعالِم، والداعي والعابد، والزاهد، والتاجر… إلى غير ذلك، فاللهمَّ ارزُقْنا اتباعه، وألْحقنا به على ذلك، بفضلك وجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
فائدة:
قال الشاعر:
إِذَا مَا وَضَعْتَ الْقَلْبَ فِي غَيْر مَوْضِعٍ
وغَيْرِ إِنَاءٍ فَهْوَ قَلْبٌ وَضِيعُ
فالقلْب خُلِق للذِّكْر، والعلمِ والتفكُّر.
مثل سائرِ وظائف الأعضاء، وإنما يكون ذلك بالإعراض عن ضدِّ ذلك مِن الانشغال بغير ما خُلِق له مِن الدنيا، وغير ذلك، والله الموفق؛ مستفادة من "رسالة في القلب"؛ لشيخ الإسلام.
فائدة:
قال الشاعر:
تَمَنَّيْتَ أَنْ تُمْسِي فَقِيهًا مُنَاظِرًا
بِغَيْرِ عَنَاءٍ وَالْجُنُونُ فُنُونُ
يريد أن يكن عالمًا وفقيهًا مناظرًا وهو نائمٌ على الفراش، فهيهات هيهات!!
في معناه قولُ الآخر:
وُقُلْ لِمُرَجِّي مَعَالِي الْأُمُورِ
بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ رَجَوْتَ الْمُحَالاَ
فائدة وقاعدة جليلة:
قال الله – تعالى -: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]، وقال ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249].
وقال شيخُ الإسلام بن تيمية – رحمه الله -: "لا تُنال الإمامةُ في الدِّين إلا بالصبر واليقين".
وسطَّر تلميذُه ابنُ القيم كلامًا ماتعًا، ذَكَر فيه أنَّ طريق الله – سبحانه – لا يتَّسع إلا للموقِنين الصابرين، أما غيرُهم فلا[4].
فالذين يستعجلون، ولا يُحقِّقون الإيمان واليقين، لا نَصْرَ لهم؛ لأنَّهم مخالفون لسُنَّة الله ربِّ العالمين: ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ [فاطر: 43].
والصبر: يكون بحَبْس اللِّسان عن الشَّكْوى، وحبس القلْب عن الجَزع، وحبس الجوارح عن كلِّ ما يُنافي الصبر:
صبْر على الطاعة، وصبْر عن المعصية، وصبر على أقدار الله – عزَّ وجلَّ – وسُنُنه في خَلْقه.
واليقين – رزقنا الله إيَّاه -: يكون بتدبُّر معاني القرآن، والثِّقة بها، والإيمان بها على ما جاءتْ، وكذلك السُّنَّة الصحيحة، وتلقِّي نصوص الكتاب والسُّنة بالقلْب، وإلْقاء السمع مع الشهادة ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]، والله المستعان.
فائدة لغوية:
فُعُول – بضم فائه -: نفْس الفِعل [السُّحُور: نفس التسحُّر، الطهور: التطهُّر].
فَعُول – بفتح فائه -: ما يُفعل به الفعل [الطَّهُور – ما يُتطهَّر به (الماء، أو التراب)، السَّحور: ما يُتسحَّر به (الطعام)][5].
فائدة جليلة:
لا يَشعر بعَظمة الإسلام، وبالتالي عظمة تعاليمه، وعظمة كلِّ الشرائع إلا مَن تعلَّق بها وتمثلها قلبُه وقالبُه، وعمل بها، أمَّا مَن جعل الدين والعلم مجرَّد مماحكاتٍ لفظية، ونقاشات جدلية، فكبِّرْ عليه تِسعًا، والله المستعان.
وشاهد هذا: إعدادُ الله سبحانه للصحابة، وتهيئتهم للأمر الجليل، والقول الثقيل بفَرْض قيام الليل عليهم حتى يتهيَّؤوا له، ويستعدُّوا لحمْل هذا الدين العظيم؛ قال الله – جلَّ ذِكْره -: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾ [المزمل: 1 – 5].
فلا بدَّ أن يكون الجهْد الجهيد في العملِ، وترتيل القرآن ترتيلاً، والله وحده المستعان، ونسأله أن يرحمَ ضعفْنا، ويغفرَ معصيتَنا، ويتجاوزَ عن تفريطنا، وهو حسبُنا ونعم لوكيل، والحمد لله ربِّ العالمين.
ومنه: قوله – تعالى -: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [المائدة: 68].
وكذلك نحن لسْنا على شيءٍ حتى نُقيمَ ما أُنزل إلينا من ربِّنا، ولفظة (الإقامة) فيها معنى الامتثال على أكملِ الوجوه، وأحسن الأحوال.
فائدة:
قال ابنُ القيِّم – رحمه الله تعال – كلامًا حاصلُه: أنَّ الجاهل يُزهِّد الناسَ ويُكرِّههم في الدنيا التي يتعلَّقون بها، فيكرهونه ولا يزهدون في الدنيا.
والعالِم يُحبِّب الناسَ في الله، ويُعلِّقهم به سبحانه، فيحبُّون الله، وبالتالي يَزْهدون في الدنيا، والله المستعان.
فائدة:
مِن أصول الأدلَّة عند أهل السنة والجماعة: الكتاب والسُّنة والإجماع، وهذه الأصول موازينُ يَزِنُون كلَّ الناس، فلا يَزِنُونهم بقول فلان ولا علان، فما وافَق هذه الأصولَ وافقوا عليه، وما خالفها ردُّوه، وهذا هو العدلُ والتجرُّد الذي ينبغي الاعتمادُ عليه، والله المستعان.
فائدة جليلة:
المخلِص الصادِق في اتباعه للنبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – يجعل نفسَه كالعجين، يتشكَّل حيث شاءتِ السُّنة، وكيف شاءتْ، لا يعترِض ولا يجمُد ويتصلَّب، بل لا بدَّ أن يستعدَّ للتشكُّل في كل لحظة، فإذا استقرَّ عنده شيء، وجاء الشرْع بخِلافه، تَشكَّل حيث شاء الشَّرع ولا يُبالي بالناس، ويتذكر قاعدة: "البِرُّ فيما تكره وليس فيما تُحب"، وأنَّ "الإحسان يكون للمُسيء لا للمُحْسِن"، وهذا على سبيل المدْح، وإلا فكلٌّ مِن البرِّ والإحسان مطلوبان لكلِّ أحد، لكن المقصود أنهما يُمدحان أكثرَ في هذه الحالة.
والله الموفِّق والهادي إلى سبيل الرشاد.