تخطى إلى المحتوى

كرة الثلج قصة قصيرة لأشرف العشماوى 2024

ترجل متكاسلا تلك المرة فى طريقه لمبنى المحكمة العتيق بوسط القاهرة القديمة والمنزوى وسط عشوائيات تكاد تبتلعه من كثرة تشعبها بجواره.. استقر بمقعده وطوال الطريق كان يغطى وجهه بشال مزركش باللونين الأبيض والأسود كان قد عثر عليه بالميدان أثناء تردده عليه الشهر الماضى حتى تنحى رئيس الجمهورية فغادره.. عاد يتحسس جبهته ويضغط عليها بأصابعه فقد لفحته رياح شهر مارس المتربة وزادت من شعوره بآلام الصداع النصفى الذى يعانى منه منذ سنوات بعيدة..

بدت عيناه تائهتين بينما أذناه تلتقط جملا متناثرة من هنا وهناك من الجالسين بجواره عن لجان شعبية تحمى منازلهم وفئات محتجة بمقار عملهم وأخرى معتصمة بمحافظات نائية ولهم مطالب فئوية كانت صعبة حتى غدت مستحيلة.. لم يلتفت كثيرًا لما يقال ويفرض على مسامعه فتركه ينساب بهدوء من أذنيه حتى فرغت رأسه من التفكير فيه..!

صعد الدرج المتهالك حتى استقر أمام مكتب وكيل النيابة.. كان الساعى ودودًا للغاية عن الشهرين السابقين فطلب له مشروبًا ساخنًا ودارت السجائر بينهما وهما يتجاذبان أطراف الحديث الذى انتهى بعد أن فرغت سجائره على عبارة باتت أثيرة "لا أحد يعرف ماذا سوف يحدث غدًا" مع إنها حقيقة مؤكدة فى كل وقت..!! سُمح له بمقابلة وكيل النيابة والذى تفحصه بنظرة ثاقبة للحظات ثم بادره قائلًا: أنت تعلم الظروف الأمنية وغياب الشرطة وموضوعك يحتاج إلى طلب تحريات ونحن مشغولون بتحقيقات قضايا فساد عديدة ومقبلون على استفتاء وقضيتك ليست إلا منازعة حيازة بسيطة فقاطعه قائلا: ولكن من دخلوا مسكنى هم أقربائى وأنا مالك البيت وفاتنى أن أسجله فكيف أخرج منه وهم يبقون فيه لحين وصول التحريات التى لن تزيد على ما قلته لك الآن؟! هب وكيل النيابة واقفا وربت على كتفه برفق قائلا: لا بد أن نتبع القانون انتظر شهرين أو ثلاثة على الأكثر، وسوف تعود الأمور إلى نصابها الصحيح وحاول التفاهم معهم فقد تفلح..

خرج يجر أذيال الخيبة كعادته منذ ثلاثة أشهر ولم يفلح فى التقرب لأقاربه فقد كانوا كثيرين متماسكين فتكتلوا فى وجهه ورفضوا التفاهم معه بينما لم يشأ هو التفاوض مع محاميهم لجهله بالقوانين وحتى لا يوقع على ما لا يعرف فيخسر حقه المؤجل منذ فترة فهو حتى الآن على الأقل ما زال موجوداً..

طرق الباب فلم يتلق ردًا والساعى غير موجود.. دفع الضلفة اليمنى برفق وهو لا يزال يدق عليها بأنامله بصوت غير مسموع تعمد أن يظهره عندما التقت نظراتهما.. كان وكيل النيابة يجلس متراخيًا بمقعده نوعا ما وقد تخفف من رابطة العنق فقد كانت حرارة الطقس فى شهر يوليو لا تطاق بادره بالسؤال: أعتقد أننى رأيتك من قبل؟ أجابه بدهشة قفزت بسرعة إلى وجهه: نعم أنا أتردد عليك منذ سبعة أشهر من أجل قضية اغتصاب حيازة مسكنى فى مصر القديمة وأقاربى احتلوه تماما وأتوا بآخرين غيرهم ولا يقبلون التفاهم معى ولم يعد لى مكان بينهم..

تأفف وكيل النيابة قليلا ثم سرعان ما رسم ابتسامة على شفتيه وهو يقول بصوت مرهق يتخلله الضجر: نعم نعم ولكن تحريات الشرطة لم ترد بعد ونحن مشغولون بالمحاكمات بعد أن حققنا مع الفاسدين فليكن موعدنا بعد الإجازات القضائية.. أحضر فى أكتوبر ولا بد أن موضوعك سيكون قد انتهى.. لا أعتقد أنه سيستغرق أكثر من ذلك.. عاد يسترحمه: الوقت ليس فى صالحى وإنما لصالحهم وأنا لدى شهود ولا أريد انتظار التحريات و.. قاطعه وكيل النيابة بحسم: الشهود بعد التحريات لا تقلق.. قالها وهو يضع يده برفق على كتفيه وكأنه يوجهه نحو باب الخروج..!.

خرج متوجساً فهو يثق فى وكيل النيابة ولكنه لا يطمئن لنصوص القانون وترتيب الإجراءات هناك أولويات فلماذا نضعها فى المؤخرة..! لم يعد يدرى إلى أين يذهب.. قادته قدماه إلى مقهى صغير.. جلس يدخن ويحتسى شايًا ثقيلاً ويتصفح جريدة وجدها متروكة على منضدته فالتقطها.. اخترقت أذنيه مشاحنات رواد المقهى رغماً عنه.. حوارات طويلة عن الدستور والانتخابات والأحزاب ومرشحى رئاسة محتملين، فلم يحتمل أكثر من ذلك وغادر تاركًا صحيفته تتطاير أوراقها واحدة تلو الآخرى وتتناثر فى أرجاء المقهى، بينما ظل مقعده خاليًا وكوب الشاى الممتلئ لنصفه فقط على المنضدة فلم يكن قد أكمله ولم يلتفت إليه أحد..

ارتدى معطفه القديم ثم تحسس ثقوبه خجلا وكأنه يراجع مواضعها ليتأكد من عدم اتساعها ومسح حذائه قبل أن يدخل مكتب وكيل النيابة.. طرق الباب الذى كان مواربًا طرقتين فلم يتلق ردًا فدفعه برفق وهو يطل برأسه أولاً.. كانت الغرفة خاوية وكأن أحدًا لم يدخلها منذ شهور استغرقته الدهشة لفترة وسار فى وجوم حتى التقى الساعى فتهلل وجهه قليلا.. سأله عن وكيل النيابة فأجابه دون أن ينظر إليه وكأنه لا يعرفه من قبل بأنه يتولى الإشراف على الانتخابات.. انصهر فى زحام المتقاضين المترددين على المحكمة فى طرقة شبه مظلمة رغم ضوء النهار الذى يتسلل باستماتة عبر شروخ نوافذ متسخة على جانبى الردهة..

استوقفه مجموعة من الشباب وهو يسير على غير هدى شاردًا مطرقا فى آسى: إلى أين أنت ذاهب يا أستاذ؟ أجابهم متلعثماً فى خوف ظنًا منه أنهم بلطجية: أنا متوجه إلى المقهى القريب من هنا.. أخبروه بأن الطرق كلها مغلقة بجدران سميكة عزلتهم عن الآخرين.. بسبب أحداث العنف بوسط القاهرة وقبل أن يستفسر منهم لماذا يضعون كمامات على أفواههم وأنوفهم دوى صوت انفجار قريب سرعان ما تصاعدت معه أبخرة بيضاء فدمعت عيناه كالسيل وظل يسعل ككهل فى الثمانين من عمره..

لم يمنعه الجو العاصف الممطر فى ذلك اليوم من التوجه لمبنى المحكمة وقد صمم على ألا يغادره حتى يحصل على قرار بتمكينه من مسكنه المغتصب.. قبل أن يخرج من شارعه ألقى بنظرة على شرفة مسكنه فشاهد أقربائه يتكدسون بها ويلوحون له باستهزاء..

وقف أمام مكتب وكيل النيابة طالبًا من الساعى لقاءه.. أجابه ببرود أكثر من المرة السابقة هل لديك موعد؟ رد فى غضب: أنا دائما فى موعدى.. تركه الساعى ينتظر طويلا ثم سمح له بالدخول بعد أن أخبره بورود التحريات فى قضيته ليقبض بأصابعه على جنيهات قليلة دسها له فى يده قبل دخوله.. وقف أمام وكيل النيابة متسمرًا فى مكانه بلا حراك وقد زادته الهموم ثقلا فلم يقو على الحراك.. بينما كان وكيل النيابة يقرأ على مسامعه قراره: يبقى الحال على ما هو عليه وعلى المتضرر اللجوء للقضاء.. ثم طوى الملف بكلتا يديه.

    أه الحمال دا

    مشكورة

    لا حول ولا قوة إلا بالله

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.