وَعَدَنَا الحق تبارك وتعالى في جملة مواضع بأن في القرآن أنباء ستتضح معانيها في مستقبل الأيام كآيات تثبت كل حين أنه الحق للعالمين؛ السابقين واللاحقين, نحو قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ. وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ ص: 87و88, وقوله تعالى: ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ الأنعام: 67, وقوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾ النمل: 93, إذن من القرآن ما يَحَار في دلالته الأولون ويفسره الزمان؛ حتى يستقر في الأذهان, ولم تكن البيئة العربية مؤهلة لِتُخَاطَب بعلوم الكون؛ وإن كانوا أبلغ فُصَحَاء عصرهم, ونصيب اللاحقين إذن يتعلق بكشف أسرار الكون قبل أن تنكشف للناس؛ وفق ما يُفِيدُه صريحًا قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ فصلت: 53.
وفي قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ النمل: 88؛ اجتهد البعض من الأعلام الأجلاء فحملوا الدلالة على المستقبل البعيد حين تدمير العالم استعدادًا للقيامة والحساب, وتردد البعض لأن السياق لا يُساعد, وجزم آخرون فقالوا أن الجبال تتحرك حقيقةً؛ وإن كان بخلاف ما يشاهدون لأنه قول الحق, وأنزل البعض حركة الجبال على حركة كوكب الأرض؛ باعتبار الجبال جزءًا منه, ولكن حركة الأجسام نسبية؛ والغلاف الهوائي المُمَيَّز بالسحاب تابع للكوكب؛ وكذلك الغلاف الصخري المُمَيَّز بالجبال, وإذا تحرك الكوكب تَحَرَّكَا معه, فلا يُمكن وصف حركة جزء إلا بالنسبة لآخر يُعتبر ثابتًا, ولا تصح نسبة حركة طبقة الجبال إلى الكوكب وهي تتحرك معه, والقرآن الكريم صريح في أن طبقة الجبال التي خلقت لاحقا تهيئةً للكوكب فوقه؛ قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا﴾ فصلت: 10, وإنما تُنسب حركة الغلاف الصخري المُمَيَّز بالجبال إلى ما دونه؛ كما تُنسب حركة السحاب إلى طبقة الغلاف الصخري دونها, والمعنى إذن المُصَاغ بتلطف لا يلفت عن غرض؛ بيان قدرة الله تعالى والعلم بما خلق؛ إيذانًا بيوم الحساب على ما فعل من خلق, هو أن الكوكب طبقات؛ والجبال العِظَام تحملها تيارات باطنية وتُحَرِّكَهَا ببطء, كما تحمل تيارات الهواء السحاب وتُحَرِّكُه ببطء.
وقال ابن عاشور: "هذه الآية معترضة من تخلل دليل على دقيق صنع الله تعالى في أثناء الإنذار والوعيد, ومر الجبال غير (السير) الذي في قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال)؛ وقت اختلال نظام العالم, و(صنع الله) اعتبارًا بحالة نظامها المألوف, وفي مادة صنع معنى التركيب والإيجاد، والإتقان إجادة؛ والهدم لا يحتاج إلى إتقان, و(الذي أتقن كل شيء) تعميم؛ أي هو صنع عجيب مماثل لأمثاله من الصنائع الإلهية, وهذا يقتضي أن مر الجبال من نوع التكوين واستدامة النظام؛ وليس من نوع الخرم والتفكيك, وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان وجه تشبيه سير الجبال بسير السحاب، وفي هذا استدعاء لأهل العلم, فهذا من العلم الذي أودع في القرآن ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم, وخص الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام ادخار لعلماء أمته الذين يأتون في وقت ظهور هذه الحقيقة, إذ لا يتعلق بعلمه للناس مصلحة حينئذ, حتى إذا كشف العلم عنه من نقابه؛ وجد أهل القرآن ذلك حقاً في كتابه, فاستلوا سيف الحجة به وكان في قرابه”.
وفي تفسير الخطيب: ”(في الآية) استعراض لبعض مظاهر قدرة الله وحكمته وتدبيره في خلقه, فهذه الجبال التي يراها الرائي فيحسبها جامدة هي في الواقع على غير هذا الظاهر؛ إنها تتحرك في انتظام كما يمر السحاب, حقيقة لا ترى بالعين، والتعبير (صُنْعَ اللَّهِ) فيه دعوة إلى البحث عن هذه الحقيقة؛ حقيقة كامنة تشهد بجلال الله, ولا تنكشف إلا بالعلم والنظر إلى ما خلف صفحة هذا الوجود من نظام، نظرًا يملأ القلوب روعةً وخشوعًا ورهبةً, والتعبير (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) تقرير لتأكيد روعة الصنعة وإحكامها (بنظم مقدرة)؛ وهذا لا يكون واقعا يوم القيامة والجبال وقد تناثرت أشلاء”.
وفي تفسير الشيخ محمد متولي الشعراوي: "البعض فهم الآية على أن مرَّ السحاب سيكون في الآخرة، وقد جانبه الصواب لأنها ستتفتت وتتناثر؛ لا أنها تمر، والكلام هنا مبنيٌّ على الظن {تَحْسَبُهَا} وليس في القيامة ظن؛ إذا قامتْ أحداثها مُتيقنةٌ, ومن الأدلة التي تثبت صحة ما نميل إليه في معنى حركة الجبال أن قوله تعالى {صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}؛ امتنان من الله تعالى بصنعته، والله (تعالى) لا يمتنُّ بصنعته يوم القيامة؛ إنما الامتنان علينا الآن ونحن في الدنيا (ببيان دلائل قدرته وعلمه), ونفهم من هذا القول الكريم أن حركة الجبال ليست ذاتيةً كما يتحرك السحاب تبعاً لحركة الرياح”.
المراجع:
(1) تفسير القاسمي, (2) تفسير ابن عاشور, (3) تفسير الخطيب, (4) تفسير الشعراوي, (5) الموسوعة العربية العالمية, (6) موسوعة المعرفة, (7) Encyclopaedia Britannica 2024 Ultimate Reference Suite, (8) Encarta, (9) Wikipedia, (10) الانترنت
شكرا لك
بارك الله فيك حنونتي