توحيد الله عز وجل وتوحيد شرعه – علمًا وقولًا وعملًا. وليس معنى التوحيد، كما يظنه غالبية المسلمين مجرد قول "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، باللسان فحسب، مهما لجأوا إلى غير الله تعالى في دعاء، واستغاثة، واستعانة، وتوكلٍ، وخوفٍ، وإنابة، ورجاء، وذبحٍ ونذرٍ، وحلف، وتعظيم وإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته بالتحريف، والتعطيل، والتكييف، والتمثيل، والتشبيه، ومهما حكموا بغير ما أنـزل الله، وشرعوا ما لم يأذن به الله، فحللوا ما حرم الله، وحرموا ما أحل الله.
وليس معنى التوحيد كذلك، ما يظنه كثير من المسلمين، الاعتقاد بأن الله هو الخالق البارئ المصور الرزاق المعطي المانع المحيي المميت المدبر لأمر هذا الكون كله فحسب، لأن هذا هو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم -، فقد قال تعالى مبينًا وضعهم: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [سورة يونس: 31].
ويقول تعالى: ﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ [سورة المؤمنون: 84 – 89].
ومع هذا الاعتقاد لم يدخلهم ذلك في التوحيد، واعتبروا باقين على شركهم، ولم يؤمنوا بتوحيد الأسماء والصفات ولا بتوحيد الألوهية، بل كذّبوا بالحق وكذبوا على الله، فقال تعالى: ﴿ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [سورة المؤمنون: 90 – 91].
وعجبوا لدعوة الرسول – صلى الله عليه وسلم – إياهم إلى توحيد الألوهية ليفردوه جل وعلا في عبادته فقالوا: ﴿ أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [سورة ص: 5].
إنما العقيدة الصحيحة هي إفراد الله تعالى في ربوبيته، وفي أسمائه وصفاته، وفي ألوهيته، وفي شرعه، ومن ثم يَتَجرَّدُ القلب لله تعالى وحده تجريدًا تتحطم أمامه الطواغيت بكل أنوعها أحياءً وأمواتًا، وَيتَخَلَّصُ من شوائب الشرك وضلالات البدع، وحكم الطغاة والذل لسلطان المتجبرين المتكبرين من البشر، ومشاغل الحياة الدنيا التي تفسد إخلاص القلب لله وحده في جميع أعماله، أفرادًا وأسرًا ومجتمعات ودولًا، واجتماعًا واقتصادًا، وسياسةً، وحكمًا، وسلمًا، وحربًا، فتتجرد القلوب من الفواحش والمنكرات بأنواعها، تتجرد من الظلم، والغل، والحقد، والتدابر، والتقاطع، والغش، والغيبة، والنميمة، والكبر، والخبث، تتجرد من جرائم الاعتداء على دين الله، وعلى النفوس، والعقول، والأموال، والأعراض، وتلفظ المبادئ الخبيثة المدمرة، وتصفو القلوب لبارئها وحده، وتسقط عبادة الطواغيت جميعًا، فتصلح كل الأعمال، وتَخْلُصُ وجهتُها لله رب العالمين لا شريك له.
وقد أمر الله تعالى رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن يعلن هذه الحقيقة موجزة مركزة؟ ويحذر من يخالفها، وذلك في قوله تعالى:﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ * وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [سورة الزمر: 11 – 18].
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياكم من هؤلاء الذين هداهم الله عز وجل وبهذا الأصل العظيم – العقيدة الصحيحة – تتميز دعوة الصدق إلى الإسلام عن غيرها من دعوات تُنْسَبُ إلى الإسلام ويُرادُ بها الإصلاح، ولا تُدخِل في حسبانها هذا الأصل الهام. لذلك نجد كثيرًا من الدعاة يُفنُون أعمارَهُمْ في معالجة قضايا فرعية جزئية في الإسلام جاهدين أنفسهم، وباذلين كل قدراتهم، ومُجَنْدين جميع قواتهم لينشروا دعوة لا تقوم على أساس العقيدة الصحيحة، فيجتمع لديهم أخلاطٌ ممن يحملون عقائد زائغة متنوعة، وممن تَذِلُّ قلوبهم للطواغيت من الموتى، ومن الحجر، والشجر، والنحاس، والحديد، فضلًا عن الطواغيت من البشر الذين يخدعونهم بولايات زائفة، ويُرْهِبُونهم بشعوذاتٍ وضلالاتٍ، ويحرصون على صياغتهم صياغة يسيطر عليها الرعبُ والفزعُ، وصَبْغِهم صِبغةً تنافي الإسلام، ومن ثم لا يَقْوَوْن على إقامة أمة تجعل الدين كله لله، ولذلك حين تُمَعِن فيهم النظر تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، فلا تذهب معهم جهود الدعاة إلا أدراجَ الرياح.
يتبع
بهذا الأصل العظيم – بالعقيدة الصحيحة – تميزت تلك المجموعة المؤمنة الذين عاشوا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فنهلوا من المنبع الأصيل للوحي، وأخذوا من مشكاة من قامت الأدلة القاطعة على عصمته، وصرح الوحي السماوي بوجوب طاعته، وهو الصادق المصدوق محمد – صلى الله عليه وسلم -، الذي لا ينطق عن الهوى ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [سورة النجم: 4].
تميزت تلك الفئة المؤمنة التي أثنى الله تبارك وتعالى عليها في التوراة والإنجيل والقرآن، وسبق لهم على لسان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، إذ قال "خير الناس قرني" فلم يأتِ بعدهم أحد يساويهم في إيمانهم وأعمالهم وآرائهم، وكيف يساويهم وكان أحدهم يرى الرأي، فينـزل القرآن بموافقته، كما رأى الخليفة الثاني للمسلمين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في أسارى بدر أن تُضرب أعناقهم، فنـزل القرآن بموافقته ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [سورة الأنفال: 67 – 68].
هذا حمام الموت قد صَليتِ
وما تمنيت قد أعطيتِ
إن تفعلي فعلهما هديتِ
يريد صاحبيه زيدًا وجعفرًا فقاتل حتى قتل.
وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي
فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
وقد خيروني الكفر والموت دونه
وقد هملت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت
ولكن حذاري جحم نار ملفع
فو الله ما أرجو إذا مت مسلمًا
على أي جنب كان في الله مصرعي
فلست بمبد للعدو تخشعًا
ولا جزعًا إني إلى الله مرجعي
هذه الصور المشرفة التي لا نجد لها في عالمنا اليوم مثيلًا، تلك الصور إنما هي من آثار العقيدة الصحيحة التي ملأت قلوب أولئك الأصحاب الأبرار، – رضي الله عنه -م أجمعين.
منقوووووووووول