من نعم الله علينا وعلى البشرية بأسرها أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما بُعِث إلا لتحقيق ونشر الرحمة بين الناس جميعا، كما قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }( الأنبياء:107) ، وقال تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }(التوبة:128) ، ويؤكد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك بقوله : ( أنا نبي الرحمة ) رواه مسلم .
فمن سمات الكمال التي تحلّى بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم – خُلُقُ الرحمة والرأفة بالغير، تلكم الرحمة التي صارت له سجيّة، فشملت الصغير والكبير، والمؤمن والكافر، والطائع والعاصي، وإذا كان الناس ـ عامة ـ بحاجة إلى الرحمة والرعاية، فإن الذي زل ووقع في المعصية بحاجة خاصة أن نأخذ بيده لا أن نتركه واقعا، أو نهيل عليه التراب فنكون عونا للشيطان عليه، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أُتِيَ برجل قد شرب الخمر، فقال: اضربوه، فمنا الضارب بيده ، والضارب بثوبه، والضارب بنعله، ثم قال: بكتوه، فأقبلوا عليه يقولون: ما اتقيت الله ؟ ! ما خشيت الله ؟ ! وما استحييت من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ؟ ! ، فقال بعض القوم: أخزاك الله ! قال: لا تقولوا هكذا ! لا تعينوا عليه الشيطان، ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ) رواه أبو داود .
وسيرة النبي ـ صلى الله عل يه وسلم ـ وأحاديثه عامرة برحمته مع العصاة، تلكم الرحمة التي لا تضيق بضعفهم وتقصيرهم، فإنهم بشر من بني آدم، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون ) رواه الترمذي .
الأمل والرجاء :
من هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع العاصي مهما ارتكب من ذنوب أن نفتح له أبواب الأمل والرجاء والطمع في رحمة الله وعفوه، فعن عبدالرحمن بن جبير – رضي الله عنه – عن أبي الطويل: شطبٍ الممدود قال: ( أنه أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : أرأيت من عمل الذنوب كلها، ولم يترك منها شيئا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة (صغيرة أو كبيرة) إلا أتاها، فهل لذلك من توبة؟! ، قال: فهل أسلمت ؟، قال : أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. قال: تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك خيرات كلهن، قال : وغدراتي وفجراتي ؟ قال: نعم، قال: الله أكبر ، فما زال يكبر حتى توارى ) رواه الطبراني .
الرفق :
كان هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أصحاب المعاصي الرفق، وكان يعظهم ويبين لهم الحكمة التي شرعها الله في تحريم الحرام، فعن أبي أمامة – رضي الله عنه – قال : ( إن فتى شابا أتى النبي – صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: مه مه، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ادْنُه ، فدنا منه قريبا، فجلس، قال : أتحبه لأمك ؟، قال: لا والله ، جعلني الله فداءك، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال : أفتحبه لابنتك ؟، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال : أفتحبه لأختك ؟، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال : أفتحبه لخالتك ؟، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، ثم وضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء ) رواه أحمد .
وإذا كان العاصي جاهلاً وارتكب المعصية وهو يظن جوازها، تلطف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معه بالإنكار عليه ولم يعنفه، فعن معاوية بن الحكم السلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: ( بينا أنا أصلي مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : واثُكْلَ أُمِّياه (وافَقْد أمي لي)، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟!، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت ، فلما صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني (ما نهرني ولا عبس في وجهي)، ولا ضربني، ولا شتمني، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ) رواه مسلم .
قال النووي : " فيه بيان ما كان عليه رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ من عظيم الخُلق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته وشفقته عليهم .. وفيه التخلق بخلقه ـ صلى الله عليه و سلم ـ في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه " .
ومع أن الرفق هو الأصل في معاملة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للعاصي إلا أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان أحيانا يغلظ في الإنكار على العاصي لمصلحة تربوية يراها، فعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: ( رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: أأمك أمرتك بهذا؟، قلت: أغسلهما، قال: بل أحرقهما )، وفي رواية: ( إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما ) رواه
مسلم .الثياب المعصفرة ليست من ملابس الرجال، وإنما تلبسها النساء، فإذا لبسها الرجل تشبه بالمرأة، وقد لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعلها قد كانت من ملابس الروم أو فارس، فلذلك قال: ( من ثياب الكفار ) .
بل ربما بالغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تأديب العاصي، فهجره وأمر الناس بهجره، إن كان في ذلك مصلحة تربوية للعاصي نفسه أو لمن حوله، كما حصل مع الثلاثة الذين خُلفوا في غزوة تبوك، مع الأخذ في الاعتبار العلم بأن تطبيق هذا الهجر وهذه الشدة يجب أن تتم مع أمن الوقوع في الفتنة لمن يُطَبَق عليه ذلك .
الستر :
كثرت النصوص النبوية التي تحثُّ على ستر المسلم، وتحذر من تتبُّع عوراته وزلاَّته، ومن ذلك قوله – صلَّى الله عليْه وسلم -: ( مَن ستر مسلمًا ستَرَه الله يوم القيامة ) رواه البخاري .
قال ابن حجر عند شرح قوله – صلى الله عليه وسلم -: ( مَن ستر مسلمًا ) : " أي: رآه على قبيحٍ فلم يُظهِره، أي للناس، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه " .
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي – صلَّى الله عليْه وسلم -: ( مَن ستَر عورةَ أخيه المسلم، ستر الله عورته يومَ القيامة، ومَن كشفَ عورة أخيه المسلم، كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته ) رواه ابن ماجه . وعن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( من علم من أخيه سيئة فسترها عليه ستر الله عليه يوم القيامة ) رواه أحمد .
فائدة:
الأصل فيمن رأى المنكر أن يقوم بالإنكار على فاعله مع الستر عليه وعدم التشهير به، لما ورد في قصة ماعز ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لرجل من أسلم يقال له هزال : ( يا هزال لو سترته بردائك لكان خيراً لك ) رواه الطبراني .
فهذا فيمن لم يكن مجاهراً بالمعصية، فإذا كان مجاهراً ومفتخرا بالمعصية فإنه يجوز الكلام عنه لردعه وردع غيره حتى لا تنتشر الذنوب ولا يُتهاون بشأن المعصية ..
قال الحافظ في الفتح: " وقد ذكر النووي أن من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به، دون ما لم يجاهر به " ..
لا شك أن المذنب والعاصي له حق على مجتمعه، يتمثل في نصحه وتقويم اعوجاجه بأفضل الطرق وأقومها، فلو أن المسلمين ـ وخاصة الدعاة ـ اقتدوا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وبذلوا جهدهم في النصح للعاصي بهذا الأسلوب النبوي الكريم، وما فيه من رفق وستر، وشفقة ورحمة، لأثروا بأسلوبهم في العصاة والمذنبين، تأثيراً يجعلهم يسارعون لتنفيذ أوامر الله، ويتمسكون بهدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..