الحمد لله حمدًا يَليق بعظمته وجلاله وقدرته، والصلاة والسلام على الرسول – صلى الله عليه وسلم – الشاهد والشهيد والمشهود له.
يقول الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة مَن كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان، مَن كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، ومَن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومَن يكره أن يعود في الكفر – بعد أن أنقذه الله منه – كما يكره أن يُلقى في النار))، وقال أيضًا: ((ذاق طعم الإيمان مَن رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً)).
وطعم حلاوة الإيمان يجده المؤمن في قلبه تعظيمًا لله – سبحانه وتعالى – حتى يَمتلئ هذا القلب بتعظيم الله، فلا يُعظِّم غيره.
هذا التعظيم هو الذي يجعل قلب المؤمن قلبًا حاضرًا مع الله في كل سكناته وحركاته، وكل شاغل يشغل قلب المؤمن في وجود هذا التعظيم لله يكون مصيره المحتوم هو الفشلَ والسقوط.
ولكي نرى هذا التعظيم في أبهى صُوَرِه؛ ننظُر إلى الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – عندما كان هو المؤمنَ الوحيد الموحِّد بالله على وجه الأرض، انظر إلى ما دار في خَلَده وهو راجع مِن الغار بعد اللقاء الأول مع الوحي، نتصوَّر أنه كان يدور بداخله أشياء كثيرة؛ منها: ماذا يقول لمن حوله؟ وهل سيُصدِّقونه؟ وإذا صدَّقوه، هل سيَتمكَّن اليقين مِن قلوبهم كما تمكَّن منه؟
وإذا قال قائل:
أيُّ يقينٍ هذا وهو الذي ذهب مع السيدة خديجة – رضي الله عنها – إلى ورقة بن نوفل لكي يَعرف مَن هذا الذي يأتيه؟
أقول لك: ليس هذا بحال الذي عِنده شكٌّ؛ بل هو حال المتيقن مِن الأصل وغاب عنه معرفة الفرع، فهو يريد أن يَعرف مَن هذا الذي يأتيه، والدليل على ذلك أنه كان يذهب إلى الغار ويجلس فيه الليالي الطويلة، حتى إنها تصل إلى ثلاثين ليلة أو أكثر مُنقطعًا للعبادة.
مُنقطع لعبادة خالق هذا الكون، فهو – صلى الله عليه وسلم – كان عنده يقين أنه لا بدَّ مِن خالق عظيم حكيم لهذا الكون، ولكنه يُريد أن يعرف مَن هذا الخالق؟ ما اسمه؟ ما هي صفاته؟
وأما عن تشوُّق السيدة خديجة – رضي الله عنها – لمعرفة مَن هذا، إنما هو تشوُّق الذي يُريد تأكيدًا على ما هو موقن به، فهي التي قالت له: "والله لا يُخزيك الله أبدًا"، وعدَّدت له – صلى الله عليه وسلم – محاسنَه ومناقبه قبل هذه الحادثة، وكأنها تُريد أن تُثبت ما في قلبها مِن يَقين بأنه نبيُّ هذه الأمة.
ومِن هنا نقول:
إن تعظيم الله في قلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مِن قبْل أن يَعرفه كان تعظيمًا ليس له مثيل في قلب بشر، فما بالك بعدما عرَفه وعرَف صفاته وأسماءه وجلاله وكماله وجماله؟!
وانظر إلى تعظيم الله في قلب أبي بكر – رضي الله عنه – عندما دعاه الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى الإسلام لم يتردَّد لحظةً، فضلاً عن مواقف كثيرة بعد ذلك تُظهِر جلاء هذا التعظيم في قلبه، وأشير إلى عدم التردُّد هذا بأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال: ((كنا أنا وأبا بكر في الجاهلية كفرسَي رَهان فسبقتُه إلى النبوَّة فتبعَني، ولو سبَقني إلى النبوة لتبعتُه)).
وانظر إلى هذا التعظيم في قلب الصحابي جعفر بن أبي طالب وهو مَطرود مِن قومه وأرضه وماله ويَحتمي بمَلِك الحبشة النجاشي، ثم يسأله النجاشي عن قوله في مريم فيقول ما قاله القرآن عنها، وهو في قصر الملك ووسط جنوده وجبروته وسلطانه، ومع ذلك سقط كل ذلك مِن عين قلب سيدنا جعفر ولم يَبقَ إلا تعظيم الله في قلبه، فحمله هذا التعظيم أن يكون هو المُرتفِع، ودونه هو الأدنى.
ومثال ذلك رُسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذين بعثهم إلى ملوك وسلاطين الأرض حينها، وكل واحد منهم له موقف عظيم سواء مع هرقل الروم أو كسرى الفرس أو مع باقي الأمم التي أَرسَل إليها الرسائل.
وكذلك الصحابي ربعي بن عامر الذي بعثه قائد جيوش المسلمين إلى رستم قائد الفرس، وكان منه ما كان في وسط جيوش رستم، حتى إنه استهزأ بهم جميعًا، بما فيهم رستم نفسه، وأدخل في قلبه الرعب وهو جالس بين جنوده وأعوانه، وربعيُّ بن عامر جنديٌّ واحد من جنود المسلمين، ليس معه أحد وسط هذه الجموع، فلم يُرهبْه شيء منها، وما ذلك إلا بهذا التعظيم لله الذي ملأ جميع أركان قلبه.
وسأذكر مثالاً أخيرًا ذكرَه القرآن عن الهدهد الذي قام في قلبه تعظيم الله، فهالَه ما رأى من شأن أهل سبأ أنهم يسجدون للشمس من دون الله، فقال: ﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [النمل: 25، 26]، وأُجاذب نفسي الحديث كثيرًا عندما أشعر بهذا التعظيم لله في قلب الهُدهد، هل رأى الهدهد عرش الله حتى يَصفه بالعرش العظيم؟ بالطبع لا، ولكن وصل الهدهد لهذه النتيجة لأنه يرى أن جميع مخلوقات الله عظيمة، فكيف لا يكون عرشه عظيمًا؟! فضلاً عن أن الله وصف عرشه بالعظَمة.
والأمثلة في ذلك كثيرة جدًّا، وهي أمثلة في الحقيقة عندما أقرؤها أستصغر نفسي، وأجدها لو بلغ إيمانها عَنان السماء وملأ الأرض بجبالها وبحارها، ما بلغَت ذرة من إيمان هؤلاء الصحابة الأفذاذ الذين قال الله فيهم: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23].
انظر إلى قوله: ﴿ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ دخل التعظيم في القلب وأُغلِقَ عليه وما بُدِّلَ أبدًا.
ثم ننتقل إلى حلاوة هذا التعظيم لله في قلب المؤمن، فالمؤمن يجد هذه الحلاوة وهي أثر مِن آثار التعظيم لله، ويَفرح بها، ويَتمنَّى ألا تُفارقه أبدًا.
وهي حلاوة ليس لها نظير يُقاس بها، وهي في الحقيقة تُشعِر المؤمن وكأنه في الجنة وهو ما زال في الدنيا، هي اللحظات الخالية التي يَطمئن فيها المؤمن بربه، هي لحظات الأُنسِ به، هي لحظات تَذوُّق القلب من القرب، فتملؤه نشوة الحنين إلى التلقِّي من الواهب المُعطي بغير حساب ولا استِحقاق، ولذلك قال أحدهم: لو علم الملوك والسلاطين ما نحن فيه لحسَدونا عليه.
ومِن تامِّ نعمة الله على العبد المؤمن الذي يُعظِّم الله في قلبه أن يشكر اللهُ له، وأن يُصبح كل شيء دون الله في عينَيه صغيرًا.
ذلك أن الله هو الشَّكور؛ فلا بدَّ أن يُثيبَ المؤمن على عمله في الدنيا فيجعله يتذوق حلاوة الإيمان في قلبه فينشرح صدره وتقرُّ عينه، وهذا بخلاف الجزاء العظيم في الآخِرة، ولا توجد حلاوة أشد من حلاوة تمام النعمة ودوامها في الدنيا.
وأسباب ومقوِّمات حلاوة الإيمان هي الحب؛ فالحديث الشريف ذكَر الحبَّ في أول فِقرة منه حبًّا مُطلَقًا لله ولرسوله، ثم ذكر الحب النابع مِن حبِّ الله فقال: إذا أردتَ حبَّ المرء فيَجب أن يكون لله وحده، ثم ذكر ضدَّ الحب وهو الكره، وهو في معناه أيضًا حب؛ لأنه يَكره أن يعود في الكفر؛ أيْ: يحب أن يبقى ويَظلَّ على الإيمان.
فالحديث قائم ودائرٌ على الحب، وهو كما قُلْنا في مقال: "معنى الحب الحقيقي" هو وقود الحركة؛ فالحبُّ باعث، والتعظيم دليل وطريق ومُحرِّك، والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه هي ثمرة كل ذلك.