الرد على شبهة إنتشار الإسلام بحد السيف
للدكتور راغب السرجانى
انتشار الإسلام بالعنف من الشبهات التي يردِّدُها كثيرًا بعضُ المغرضين؛ حيث يدَّعُون أن الرسول كان رجلاً عنيفًا يحبُّ إراقة الدماء، وأن الإسلام انتشر بالسيف، وأن معتنقي الإسلام لم يدخلوا فيه طواعية ولا اختيارًا، وإنما دخلوا فيه بالقهر والإكراه.
والحقيقة أن جوهر الإسلام وخبر التاريخ يكذِّبان هذه الفرية، ويستأصلونها من جذورها، وقد شهد أبو سفيان زعيم قريش -وهو رجل حارب رسول الله سنوات عديدة، ولم يؤمن إلاَّ بعد أكثر من عشرين سنة من الإعراض والصَّدِّ- شهد لرسول الله بقوله: "لقد حاربتُك فنِعْمَ المحارب كُنتَ، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت" .
قاعدة لا إكراه في الدين
وفي قاعدة أساسيَّة صريحة بالنسبة للحريَّة الدينيَّة يقول تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، فلم يأمر الرسول -والمسلمون من بعده- أحدًا باعتناق الإسلام قسرًا، كما لم يُلجئوا الناس للتظاهر به هربًا من الموت أو العذاب؛ إذ كيف يصنعون ذلك وهم يعلمون أن إسلام المُكْرَه لا قيمة له في أحكام الآخرة، وهي التي يسعى إليها كل مسلم؟!
وقد جاء في سبب نزول الآية السابقة: أنه كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصِّران قبل مبعث رسول الله ، ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الزيت، فلزمهما أبوهما، وقال: لا أدعكما حتى تُسْلِمَا. فأبيا أن يُسلما؛ فاختصموا إلى النبي ، فقال: يا رسول الله، أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟! فأنزل الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} الآية، فخلَّى سبيلهما .
وقد جعل الإسلام قضية الإيمان أو عدمه من الأمور المرتبطة بمشيئة الإنسان نفسه واقتناعه الداخلي فقال سبحانه: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، ولفت القرآنُ نظر رسول الله إلى هذه الحقيقة، وبيَّن له أن عليه تبليغ الدعوة فقط، وأنه لا سلطان له على تحويل الناس إلى الإسلام، فقال: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وقال: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}[الغاشية: 22]، وقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [الشورى: 48]. ومن ذلك يتَّضح أن دستور المسلمين يرفض رفضًا قاطعًا إكراه أحد على اعتناق الإسلام .
موقف رسول الله من ثمامة بن أثال
وتطبيقًا لقاعدة لا إكراه في الدين فقد ثبت أن المسلمين أَسَرُوا في سرية من السرايا سيِّدَ بني حنيفة: ثمامة بن أُثال الحنفي، وهم لا يعرفونه، فأَتَوْا به إلى رسول الله فأبقاه عنده ثلاثة أيَّام، وكان في كل يوم يعرض عليه الإسلام عرضًا كريمًا، فيأبى ويقول: إن تسأل مالاً تُعطه، وإن تَقْتُل تَقْتُل ذا دمٍ، وإن تُنْعِم تُنْعِم على شاكر. فما كان من النبي إلاَّ أن أطلق سراحه، فانطلق ثمامة إلى نخل قريب من المسجد؛ فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أنْ لا إله إلا اللهُ، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، يا محمد: والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ، والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدين كله إليَّ، والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلها إليَّ، وإِنَّ خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟
فبشَّره رسول الله ، وأمره أن يعتمر، فلمَّا قدم مكة قال له قائل: أصبوتَ؟! فقال: لا، ولكني أسلمتُ مع رسول الله ، ولا -والله- لا يأتيكم من اليمامة حَبَّةُ حِنْطَة حتى يأذن فيها رسول الله .
فقد أسلم ثمامة بن أثال دون ضغط أو إكراه، بل إن إسلامه وُلِدَ قويًّا إلى الدرجة التي دفعته إلى مقاطعة قريش من أجل أنها تحارب رسول الله مُضحِّيًا بذلك بثروة هائلة كانت تأتيه من تجارته معها، ومُضحِّيًا كذلك بعَلاقات اجتماعيَّة مهمَّة مع أشراف قريش.
الحروب بين سماحة الإسلام ودموية الغرب
وعقلاً فإنَّ مَنْ أُكرِه على شيء لا يلبث أن يتحلَّل منه إذا وجد الفرصة سانحة لذلك، بل ويُصْبِح حربًا على هذا الذي أُكره عليه.. إلاَّ أنَّ التاريخ لم يُثبت مثل هذا؛ وإنما ثبت أن من كان يُسلم لم يتوانَ للحظة واحدة في الدفاع عن هذا الدين الذي أَسَرَ لُبَّه بكل ما يملك، وأقرب منه أن الإحصائيات الرسميَّة لَتَدُلُّ على أن عدد المسلمين في ازدياد، على الرغم من كل ما ينالهم من اضطهاد وما يتعرَّضون له من عوامل الإغراء!
ولو قمنا بإحصاء عدد الذين ماتوا في كل الحروب النبويَّة -سواء من شهداء المسلمين، أو من قتلى الأعداء- ثم قمنا بتحليل لهذه الأعداد، وربطها بما يحدث في عالمنا المعاصر، لوجدنا عجبًا! لقد بلغ عدد شهداء المسلمين في كل معاركهم أيام رسول الله -وذلك على مدار عشر سنوات كاملة– 262 شهيدًا تقريبًا، وبلغ عدد قتلى أعدائه حوالي 1022 قتيلاً ، وبذلك بلغ العدد الإجمالي لقتلى الفريقين 1284 قتيلاً فقط!
وحتى لا يتعلَّل أحدٌ بأن أعداد الجيوش آنذاك كانت قليلة؛ ولذا جاء عدد القتلى على هذا النحو، فإنني قمتُ بإحصاء عدد الجنود المشتركين في المعارك، ثم قمتُ بحساب نسبة القتلى بالنسبة إلى عدد المقاتلين، فوجدتُ ما أذهلني! أن نسبة الشهداء من المسلمين إلى الجيوش المسلمة تبلغ 1% فقط، بينما تبلغ نسبة القتلى من أعداء المسلمين بالنسبة إلى أعداد جيوشهم 2%! وبذلك تكون النسبة المتوسطة لقتلى الفريقين هي 1.5% فقط!
إن هذه النسب الضئيلة في معارك كثيرة -بلغت خمسًا وعشرين أو سبعًا وعشرين غزوة، وثماني وثلاثين سريَّة ، أي أكثر من ثلاث وستِّين معركة- لَمِنْ أصدق الأدلَّة على عدم دمويَّة الحروب في عهد رسول الله .
ولكي تتَّضح الصورة بشكل أكبر وأظهر فقد قمتُ بإحصاء عدد القتلى في الحرب العالميَّة الثانية -كمثال لحروب (الحضارات) الحديثة- فوجدتُ أن نسبة القتلى في هذه الحرب الحضاريَّة بلغت 351%!!! فالأرقام لا تكذب؛ فقد شارك في الحرب العالمية الثانية 15.600.000 جندي (خمسة عشر مليونًا وستمائة ألف)، ومع ذلك فعدد القتلى بلغ 54.800.000 قتيل (أربعة وخمسين مليونًا وثمانمائة ألف)!! أي أكثر من ثلاثة أضعاف الجيوش المشاركة!
وتفسير هذه الزيادة هو أن الجيوش المشاركة جميعًا -وبلا استثناء- كانت تقوم بحروب إبادة للمدنيين، وكانت تُسْقِطُ الآلاف من الأطنان من المتفجِّرات على المدن والقرى الآمنة؛ فتُبيد البشر، وتُفني النوع الإنساني، فضلاً عن تدمير البِنَى التحتيَّة، وتخريب الاقتصاد، وتشريد الشعوب! لقد كانت كارثة إنسانيَّة بكل المقاييس.
انتشار الإسلام حديثًا
وأيسر من أن نستقصي الحروب وأسبابها في صدر الإسلام لِنَعِيَ تلك الحقيقة، أن نُلْقِيَ نظرة عامَّة على خريطة العالم في الوقت الحاضر لنعلم أن السيف لم يعمل في انتشار هذا الدين؛ فإن البلاد التي قَلَّتْ فيها حروب الإسلام هي البلاد التي يُقِيم فيها اليوم أكثر مسلمي العالم، وهي بلاد إندونيسيا والهند والصين، وسواحل القارة الإفريقية، وما يليها من سهول الصحارى الواسعة؛ فإن عدد المسلمين فيها قريب من ثلاثمائة مليون، ولم يقع فيها من الحروب بين المسلمين وأبناء تلك البلاد إلاَّ القليل الذي لا يُجْدِي في تحويل الآلاف عن دينهم بَلْهَ الملايين، ونقارن بين هذه البلاد والبلاد التي اتَّجَهَتْ إليها غزوات المسلمين لأوَّل مرَّة في صدر الدعوة الإسلاميَّة، وهي بلاد العراق والشام، فإن عدد المسلمين فيها اليوم قلَّما يَزيد على عشرة ملايين، يعيش بينهم من اختاروا البقاء على دينهم من المسيحيين واليهود والوثنيين وأشباه الوثنيين!!
يقول المؤرِّخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) وهو يتحدَّث عن سرِّ انتشار الإسلام في عهد رسول الله وفي عصور الفتوحات من بعده: "قد أثبت التاريخ أن الأديان لا تُفْرَض بالقوَّة، ولم ينتشر الإسلام -إذن- بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت مؤخَّرًا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند -التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل- ما زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليونَ نفس فيها، ولم يكن الإسلام أقلَّ انتشارًا في الصين التي لم يفتح العرب أيَّ جزء منها قطُّ..
فالإسلام إذن إنما غزا القلوب وأسر النفوس.. وإن كان بإمكان السيف أن يفتح أرضًا، فليس بإمكانه أن يفتح قلبًا!
د. راغب السرجاني
للدكتور راغب السرجانى
انتشار الإسلام بالعنف من الشبهات التي يردِّدُها كثيرًا بعضُ المغرضين؛ حيث يدَّعُون أن الرسول كان رجلاً عنيفًا يحبُّ إراقة الدماء، وأن الإسلام انتشر بالسيف، وأن معتنقي الإسلام لم يدخلوا فيه طواعية ولا اختيارًا، وإنما دخلوا فيه بالقهر والإكراه.
والحقيقة أن جوهر الإسلام وخبر التاريخ يكذِّبان هذه الفرية، ويستأصلونها من جذورها، وقد شهد أبو سفيان زعيم قريش -وهو رجل حارب رسول الله سنوات عديدة، ولم يؤمن إلاَّ بعد أكثر من عشرين سنة من الإعراض والصَّدِّ- شهد لرسول الله بقوله: "لقد حاربتُك فنِعْمَ المحارب كُنتَ، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت" .
قاعدة لا إكراه في الدين
وفي قاعدة أساسيَّة صريحة بالنسبة للحريَّة الدينيَّة يقول تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، فلم يأمر الرسول -والمسلمون من بعده- أحدًا باعتناق الإسلام قسرًا، كما لم يُلجئوا الناس للتظاهر به هربًا من الموت أو العذاب؛ إذ كيف يصنعون ذلك وهم يعلمون أن إسلام المُكْرَه لا قيمة له في أحكام الآخرة، وهي التي يسعى إليها كل مسلم؟!
وقد جاء في سبب نزول الآية السابقة: أنه كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصِّران قبل مبعث رسول الله ، ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الزيت، فلزمهما أبوهما، وقال: لا أدعكما حتى تُسْلِمَا. فأبيا أن يُسلما؛ فاختصموا إلى النبي ، فقال: يا رسول الله، أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟! فأنزل الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} الآية، فخلَّى سبيلهما .
وقد جعل الإسلام قضية الإيمان أو عدمه من الأمور المرتبطة بمشيئة الإنسان نفسه واقتناعه الداخلي فقال سبحانه: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، ولفت القرآنُ نظر رسول الله إلى هذه الحقيقة، وبيَّن له أن عليه تبليغ الدعوة فقط، وأنه لا سلطان له على تحويل الناس إلى الإسلام، فقال: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وقال: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}[الغاشية: 22]، وقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [الشورى: 48]. ومن ذلك يتَّضح أن دستور المسلمين يرفض رفضًا قاطعًا إكراه أحد على اعتناق الإسلام .
موقف رسول الله من ثمامة بن أثال
وتطبيقًا لقاعدة لا إكراه في الدين فقد ثبت أن المسلمين أَسَرُوا في سرية من السرايا سيِّدَ بني حنيفة: ثمامة بن أُثال الحنفي، وهم لا يعرفونه، فأَتَوْا به إلى رسول الله فأبقاه عنده ثلاثة أيَّام، وكان في كل يوم يعرض عليه الإسلام عرضًا كريمًا، فيأبى ويقول: إن تسأل مالاً تُعطه، وإن تَقْتُل تَقْتُل ذا دمٍ، وإن تُنْعِم تُنْعِم على شاكر. فما كان من النبي إلاَّ أن أطلق سراحه، فانطلق ثمامة إلى نخل قريب من المسجد؛ فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أنْ لا إله إلا اللهُ، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، يا محمد: والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ، والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدين كله إليَّ، والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلها إليَّ، وإِنَّ خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟
فبشَّره رسول الله ، وأمره أن يعتمر، فلمَّا قدم مكة قال له قائل: أصبوتَ؟! فقال: لا، ولكني أسلمتُ مع رسول الله ، ولا -والله- لا يأتيكم من اليمامة حَبَّةُ حِنْطَة حتى يأذن فيها رسول الله .
فقد أسلم ثمامة بن أثال دون ضغط أو إكراه، بل إن إسلامه وُلِدَ قويًّا إلى الدرجة التي دفعته إلى مقاطعة قريش من أجل أنها تحارب رسول الله مُضحِّيًا بذلك بثروة هائلة كانت تأتيه من تجارته معها، ومُضحِّيًا كذلك بعَلاقات اجتماعيَّة مهمَّة مع أشراف قريش.
الحروب بين سماحة الإسلام ودموية الغرب
وعقلاً فإنَّ مَنْ أُكرِه على شيء لا يلبث أن يتحلَّل منه إذا وجد الفرصة سانحة لذلك، بل ويُصْبِح حربًا على هذا الذي أُكره عليه.. إلاَّ أنَّ التاريخ لم يُثبت مثل هذا؛ وإنما ثبت أن من كان يُسلم لم يتوانَ للحظة واحدة في الدفاع عن هذا الدين الذي أَسَرَ لُبَّه بكل ما يملك، وأقرب منه أن الإحصائيات الرسميَّة لَتَدُلُّ على أن عدد المسلمين في ازدياد، على الرغم من كل ما ينالهم من اضطهاد وما يتعرَّضون له من عوامل الإغراء!
ولو قمنا بإحصاء عدد الذين ماتوا في كل الحروب النبويَّة -سواء من شهداء المسلمين، أو من قتلى الأعداء- ثم قمنا بتحليل لهذه الأعداد، وربطها بما يحدث في عالمنا المعاصر، لوجدنا عجبًا! لقد بلغ عدد شهداء المسلمين في كل معاركهم أيام رسول الله -وذلك على مدار عشر سنوات كاملة– 262 شهيدًا تقريبًا، وبلغ عدد قتلى أعدائه حوالي 1022 قتيلاً ، وبذلك بلغ العدد الإجمالي لقتلى الفريقين 1284 قتيلاً فقط!
وحتى لا يتعلَّل أحدٌ بأن أعداد الجيوش آنذاك كانت قليلة؛ ولذا جاء عدد القتلى على هذا النحو، فإنني قمتُ بإحصاء عدد الجنود المشتركين في المعارك، ثم قمتُ بحساب نسبة القتلى بالنسبة إلى عدد المقاتلين، فوجدتُ ما أذهلني! أن نسبة الشهداء من المسلمين إلى الجيوش المسلمة تبلغ 1% فقط، بينما تبلغ نسبة القتلى من أعداء المسلمين بالنسبة إلى أعداد جيوشهم 2%! وبذلك تكون النسبة المتوسطة لقتلى الفريقين هي 1.5% فقط!
إن هذه النسب الضئيلة في معارك كثيرة -بلغت خمسًا وعشرين أو سبعًا وعشرين غزوة، وثماني وثلاثين سريَّة ، أي أكثر من ثلاث وستِّين معركة- لَمِنْ أصدق الأدلَّة على عدم دمويَّة الحروب في عهد رسول الله .
ولكي تتَّضح الصورة بشكل أكبر وأظهر فقد قمتُ بإحصاء عدد القتلى في الحرب العالميَّة الثانية -كمثال لحروب (الحضارات) الحديثة- فوجدتُ أن نسبة القتلى في هذه الحرب الحضاريَّة بلغت 351%!!! فالأرقام لا تكذب؛ فقد شارك في الحرب العالمية الثانية 15.600.000 جندي (خمسة عشر مليونًا وستمائة ألف)، ومع ذلك فعدد القتلى بلغ 54.800.000 قتيل (أربعة وخمسين مليونًا وثمانمائة ألف)!! أي أكثر من ثلاثة أضعاف الجيوش المشاركة!
وتفسير هذه الزيادة هو أن الجيوش المشاركة جميعًا -وبلا استثناء- كانت تقوم بحروب إبادة للمدنيين، وكانت تُسْقِطُ الآلاف من الأطنان من المتفجِّرات على المدن والقرى الآمنة؛ فتُبيد البشر، وتُفني النوع الإنساني، فضلاً عن تدمير البِنَى التحتيَّة، وتخريب الاقتصاد، وتشريد الشعوب! لقد كانت كارثة إنسانيَّة بكل المقاييس.
انتشار الإسلام حديثًا
وأيسر من أن نستقصي الحروب وأسبابها في صدر الإسلام لِنَعِيَ تلك الحقيقة، أن نُلْقِيَ نظرة عامَّة على خريطة العالم في الوقت الحاضر لنعلم أن السيف لم يعمل في انتشار هذا الدين؛ فإن البلاد التي قَلَّتْ فيها حروب الإسلام هي البلاد التي يُقِيم فيها اليوم أكثر مسلمي العالم، وهي بلاد إندونيسيا والهند والصين، وسواحل القارة الإفريقية، وما يليها من سهول الصحارى الواسعة؛ فإن عدد المسلمين فيها قريب من ثلاثمائة مليون، ولم يقع فيها من الحروب بين المسلمين وأبناء تلك البلاد إلاَّ القليل الذي لا يُجْدِي في تحويل الآلاف عن دينهم بَلْهَ الملايين، ونقارن بين هذه البلاد والبلاد التي اتَّجَهَتْ إليها غزوات المسلمين لأوَّل مرَّة في صدر الدعوة الإسلاميَّة، وهي بلاد العراق والشام، فإن عدد المسلمين فيها اليوم قلَّما يَزيد على عشرة ملايين، يعيش بينهم من اختاروا البقاء على دينهم من المسيحيين واليهود والوثنيين وأشباه الوثنيين!!
يقول المؤرِّخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) وهو يتحدَّث عن سرِّ انتشار الإسلام في عهد رسول الله وفي عصور الفتوحات من بعده: "قد أثبت التاريخ أن الأديان لا تُفْرَض بالقوَّة، ولم ينتشر الإسلام -إذن- بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت مؤخَّرًا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند -التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل- ما زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليونَ نفس فيها، ولم يكن الإسلام أقلَّ انتشارًا في الصين التي لم يفتح العرب أيَّ جزء منها قطُّ..
فالإسلام إذن إنما غزا القلوب وأسر النفوس.. وإن كان بإمكان السيف أن يفتح أرضًا، فليس بإمكانه أن يفتح قلبًا!
د. راغب السرجاني
جزاكى الله خيرا
بارك الله فيكي
جزاكي الله خيرا