والدعوة إلى الله هي في جملتها حزمة من قوانين ومعارف وأخلاق وسلوكيات يحملها الداعية ليغير بها المدعو ؛ فهي ليست كلمات تقال ولكنها كالبذرة توضع في الأرض ، لو تركها الزارع وشأنها لضاعت وتغلبت عليها حشرات الأرض ؛ لكنه إذا تناولها بالعناية والرعاية والتعهد أثمرت ونفع الله بها الزارع وغيره من الناس .
قد يصيب اليأس بعض الدعاة إلى الله ، فهو يلقي بالموعظة تلو الموعظة ، وهو يفكر ويبتكر ، ثم يطبق على أرض الواقع ؛ ولكن بعد هذا المجهود قد لا يجد الثمرة المرجوة ، فيصاب الداعية باليأس من المدعوين .
وذلك يحدث لعدم رعاية المدعو وتعهده بالتربية ، أو لأن الداعية لا يبذل جهداً مع مدعويه ، أو لأن الداعية يستعجل قطف الثمرة قبل نضوجها واستوائها .
ومن خلال قرائتنا لآيات القرآن الكريم يتبين لنا تاريخاً كبيراً للدعاة والمصلحين من الأنبياء والمرسلين والصالحين ممن اختارهم الله لتبليغ دعوته ونشر رسالته ،صبروا على قومهم فلم ييأسوا حتى كتب لهم الفوز بالقلوب وإقبالها على الله عزوجل " حتى إذا استيئس الرسل وظنو أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا " [جزء من الآية 110:يوسف] ، فها هو أبو الأنبياء نوح عليه السلام يستفرغ قصارى جهده لتبليغ دعوته لقومه " قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً " [نوح :5] " ثم إني دعوتهم جهاراً (8) ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً (9) " [نوح] ومكث عليه السلام على هذه الحالة تسعمائة وخمسين عاماً " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً " [ العنكبوت :14] وها هو خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام ينتقل من موقف إلى موقف ومن حالة إلى أخرى في الدعوة إلى الله " وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين " [ الأنعام :74] " وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان " [جزء من الآية 80: الأنعام] " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " [جزء من الآية 258 : البقرة] " إذ قال لأبيه ياأبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً " [42 : مريم] ، وها هو خاتم الأنبياء والمرسلين لا يكل ولا يمل في دعوته لقومه " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً " [الكهف : 6] " لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين " [3: الشعراء ] ، وهكذا كان حال الأنبياء والمرسلين والصالحين على مر العصور كانوا يتحلون بالصبر في دعوتهم لأقوامهم ، لم تكن كلمة اليأس موجودة في قواميسهم.
وعن عائشة – رضي الله عنها- أنها قالت للنبي – صلى الله عليه وسلم – هل أتى عليك يوم كان أشدَّ من يوم أحد ؟ قال : لقد لقيتُ من قومك ، وكان أشدُّ ما لقيتُه منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي وإذا أنا بسحابةٍ قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل – عليه السلام – فناداني فقال : إن الله – تعالى – قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم . فناداني ملك الجبال فسلَّم عليَّ ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك ، فما شئت : إن شئت أن أطبقت عليهم الأخشبين . فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً " [متفق عليه] .
هكذا أخي الداعية ، لا يستطيع أحدنا أن يحمل دعوة الخير إلا إذا حمل مؤهلاتها ، وعرفنا أن أهم مؤهلات الداعية هي الصبر على المدعو والإشفاق عليه ، وتحمل المشاق في سبيل هدايته ودعوته ، وتعريفه بربه – عزوجل .
إن خلق اليأس ليس في قواميس الدعاة إلى الله ، فهم يبذلون ويجتهدون ويتيقنون أن الله معهم ولن يترهم أعمالهم ، فهم لذلك لا يألون جهداً في دعوة غيرهم ، ولا يعدمون وسيلة في الوصول إلى قلوب المدعوين ، فهم يعلمون أن هداية فرد خير من الدنيا وما فيها ، وخير مما طلعت عليه الشمس ، بل خير من حمر النعم .
جعلنا الله وإياكم من الداعين إليه ، الدالين خلقه إلى دينه ودعوته ، وأن يفتح الله لنا وبنا وعلينا .
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم