من منا يملك قلبا سليما طاهرا نقيا .. لا حسد فيه ولا شحناء ولا بغضاء
يحب الخير للغير.. يتسامى عن السفاسف ويتعالى عن الهفوات
سريع الصفح جميل العفو
يبيت وليس في صدره غلا لأحد من المسلمين
هيا بنا نتأمل معا هذا الحديث الرقراق:
*** أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أنس بْن مالكٍ قال : كُنا جُلُوسا
مع رسُول الله صلى اللهُ عليْه وسلم فقال : " يطْلُعُ عليْكُمُ الْآن رجُل منْ
أهْل الْجنة " فطلع رجُل من الْأنْصار تنْطفُ لحْيتُهُ منْ وُضُوئه ، قدْ تعلق
نعْليْه في يده الشمال ، فلما كان الْغدُ قال النبيُ صلى اللهُ عليْه وسلم
مثْل ذلك ، فطلع ذلك الرجُلُ مثْل الْمرة الْأُولى ، فلما كان الْيوْمُ الثالثُ ،
قال النبيُ صلى اللهُ عليْه وسلم مثْل مقالته أيْضا ، فطلع ذلك الرجُلُ على
مثْل حاله الْأُولى ، فلما قام النبيُ صلى اللهُ عليْه وسلم تبعهُ عبْدُ الله بْنُ
عمْرو بْن الْعاص فقال : إني لاحيْتُ أبي ، فأقْسمْتُ أنْ لا أدْخُل عليْه ثلاثا ،
فإنْ رأيْت أنْ تُؤْويني إليْك حتى تمْضي فعلْت ، قال : نعمْ ، قال أنس :
وكان عبْدُ الله يُحدثُ أنهُ بات معهُ تلْك الليالي الثلاث ، فلمْ يرهُ يقُومُ من
الليْل شيْئا ، غيْر أنهُ إذا تعار وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر ،
حتى يقُوم لصلاة الْفجْر ، قال عبْدُ الله : غيْر أني لمْ أسْمعْهُ يقُولُ إلا خيْرا
، فلما مضت الثلاثُ ليالٍ ، وكدْتُ أنْ أحْتقر عملهُ
، قُلْتُ يا عبْد الله : إني لمْ يكُنْ بيْني وبيْن أبي غضب ولا هجْر ثم ، ولكنْ
سمعْتُ رسُول الله صلى اللهُ عليْه وسلم يقُولُ لك : ثلاث مرارٍ يطْلُعُ
عليْكُمُ الْآن رجُل منْ أهْل الْجنة فطلعْت أنْت الثلاث مرارٍ ، فأردْتُ أنْ آوي
إليْك لأنْظُر ما عملُك فأقْتدي به ، فلمْ أرك تعْملُ كثير عملٍ ، فما الذي بلغ
بك ما قال رسُولُ الله صلى اللهُ عليْه وسلم ، فقال : ما هُو إلا ما رأيْت ،
قال : فلما وليْتُ دعاني فقال : ما هُو إلا ما رأيْت ، غيْر أني لا أجدُ في
نفْسي لأحدٍ من الْمُسْلمين غشا ، ولا أحْسُدُ أحدا على خيْرٍ أعْطاهُ اللهُ
إياهُ ، فقال عبْدُ الله : هذه التي بلغتْ بك ، وهي التي لا نُطيقُ " .
ألا فاعلموا أيها الناس أن ثمن سلامة صدر العبد المؤمن على أخيه المؤمن ؟ جنة غالية ، وهمة عالية .
ويا عجبا لأهل هذا الزمان ، يحقد الرجل على أخيه بغير أذية منه ، بل هو الحسد لما أنعم الله عليه به من الخير ، ثم ينشر عنه الشائعات والأقاويل لينفر الناس منه ، وأعجب من ذلك رجل وصله حديث عن رجل مسلم فأخذ منه موقفا وملأ قلبه عليه غضبا دون أن يتأكد من صحة ما نقله الناقل ، وتعظم المصيبة إن كان مثل ذلك يحدث بين من يرى الناس فيهم أنهم أهل الصلاح والدعوة إلى الله ، ثم ترى بينهم من الشحناء والبغضاء ما يحلق الدين ، ويذهب الحسنات ، ويجلب السيئات ، فلا إله إلا الله رب الأرض والسموات ، ألا يكف أولئك عما هم فيه من الجنوح والجنون ؟
الحسد والحقد والكراهية سبب لعنة الله لإبليس ، والبغضاء والشحناء والغيظ جعلت على ابن آدم الأول كفل من عذاب كل من قتل نفسا ظلما ، ألا يكفي هذا بأن يجعل النفوس طيبة أبية ، تعتلي للجنة كل مطية ؟
*** ألا تريد أيها المسلم أن تكون مثل هذا الرجل الصالح الصحابي الجليل رضي الله عنه ، إذن طهر قلبك من رجزه وحقده وحسده وغضبه وغيظه .
الله عز وجل يقول : { إنما الْمُؤْمنُون إخْوة فأصْلحُوا بيْن أخويْكُمْ واتقُوا الله
لعلكُمْ تُرْحمُون } [ الحجرات10] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تناجشوا ، ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره التقوى ههنا يشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه " [ رواه مسلم في الصحيح ] .
لا تباغضوا : لا تكسبوا أسبابا مفضية إلى البغض والعداوة .
النجش : أن يمدح الرجل السلعة ليروجها أو يزيد في الثمن ولا يريد شراءها ولكن ليغتر بذلك غيره .
التدابر : الإعراض والهجر والخصومة .
خذل فلانا : تخلى عن عونه ونصرته .
وتأمل أيها المسلم هذا الحديث
" لما نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه دل على أن ذلك من خصال الإيمان ، بل من واجباته
وإنما يحب الرجل لأخيه ما يحب لنفسه إذا سلم من الحسد والغل والغش والحقد ، وذلك واجب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا " [ رواه مسلم ] ،
فالمؤمن أخو المؤمن يحب له ما يحب لنفسه ويحزنه ما يحزنه كما قال صلى الله عليه وسلم :
" مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى
منه عضو تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر " [ رواه البخاري ومسلم ]
، فإذا أحب المؤمن لنفسه فضيلة من دين أو غيره أحب أن يكون لأخيه نظيرها من غير أن تزول عنه كما قال ابن عباس : إني لأمر بالآية من القرآن فأفهمها فأود أن الناس كلهم فهموا منها ما أفهم . وقال الشافعي : وددت أن الناس كلهم تعلموا هذا العلم ولم ينسب إلي منه شيء .
فأما حب التفرد عن الناس بفعل ديني أو دنيوي : فهو مذموم ، قال الله تعالى :
{ تلْك الدارُ الآخرةُ نجْعلُها للذين لا يُريدُون عُلُوا في الأرْض ولا فسادا }
[ القصص 83 ]
، وقد قال علي وغيره : هو أن لا يحب أن يكون نعله خيرا من نعل غيره ولا ثوبه خيرا من ثوبه " وفي الحديث المشهور في " السنن " : " من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار " [ رواه أبو داود والترمذي ] .
*** سلامة الصدر ، وطهارة القلب ، وسمو النفس عن حظوظ الدنيا ، سلم للوصول إلى جنة الخلد وملك لا يبلى .
*** انظروا إلى المجتمع المسلم الأول ، كيف نظفت نفوسهم ، وطهرت قلوبهم ، وزكت أفئدتهم ، وسمت هممهم فكان مجتمع الصفاء والإخاء ، والطهارة والنقاء ، مجتمع تسوده الرحمة والألفة والمحبة ، مجتمع يحب بعضه بعضا ، ويفدي بعضها بعضا ، مجتمع ترك الدنيا وزينتها ، وطلب ما عند الله تعالى ، مجتمع يحب لله ، ويبغض لله ،
قال الله عنهم : { مُحمد رسُولُ الله والذين معهُ أشداء على الْكُفار رُحماء
بيْنهُمْ تراهُمْ رُكعا سُجدا يبْتغُون فضْلا من الله ورضْوانا } [ الفتح29 ] .
*** عنْ أبي هُريْرة رضي الله عنه ، أن رسُول الله صلى اللهُ عليْه وسلم
قال : " تُفْتحُ أبْوابُ الْجنة يوْم الاثْنيْن ويوْم الْخميس ، فيُغْفرُ لكُل عبْدٍ لا
يُشْركُ بالله شيْئا ، إلا رجُلا كانتْ بيْنهُ وبيْن أخيه شحْناءُ ، فيُقالُ : أنْظرُوا
هذيْن حتى يصْطلحا ، أنْظرُوا هذيْن حتى يصْطلحا " [ رواه مسلم ] .
*** فأفضل طرق الجنة سلامة الصدر ، قال تعالى : { يوْم لا ينفعُ مال ولا
بنُون * إلا منْ أتى الله بقلْبٍ سليمٍ } [ الشعراء 88- 89 ] .
*** وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قيل يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ قال : " كل مخموم القلب ، صدوق اللسان " قالوا : صدوق اللسان نعرفه ، فما مخموم القلب ؟ قال : " هو التقي النقي ، لا إثم فيه ولا بغي ، ولا غل ولا حسد " [ رواه ابن ماجة بإسناد صحيح والبيهقي ] .
*** ولنحذر كل الحذر من القطيعة التدابر والجفاء ، فهي خطيرة على دين المسلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس فيغفر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئا إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء ، فيقال : انظروا هذين حتى يصطلحا ، انظروا هذين حتى يصطلحا " [ رواه مسلم ] .
فاللهم ارزقنا قلوبا سليمة عامرة بالإيمان مضيئة بنورك نقية من كل ما يغضبك.