يقول الله – سبحانه وتعالى -: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 103].
ويقول رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم مثَلُ الجسد؛ إذا اشتَكَى منه عضوٌ تَداعَى له سائر الجسد بالسَّهَر والحمَّى)).
أحبتي، أنا لستُ متشائمًا، ولكن هذه هي الحقيقة الموجودة في حياتنا، والسؤال الذي يَطرَح نفسه: لماذا أصبحَتِ الأخوَّة مصلحةً دنيويَّة، أو مصلحة قرابة، أو قبيلة أو عشيرة، أصبحت الأخوَّة اليومَ مُعلَّقة أو مُقيَّدة بمصلحةٍ دنيويَّة، بعيدة عن تحقيق الهدف الأخروي، والله المستعان.
أصبحَتْ أخوَّتنا اليومَ مُقيَّدة بولد العم وولد الخال.
وأصبحَتْ أخوَّتنا اليومَ مُقيَّدة بالأقرباء وأهل القبيلة.
وأصبحَتْ أخوَّتنا اليومَ مُقيَّدة بالجار وزميل العمل فقط.
وهذه كلُّها من ضعْف مفهوم الأخوَّة في الله عندنا؛ لأنَّ الشرع أمَر وحثَّ على الأخوَّة والمحبَّة في الله في كثيرٍ من الآيات والأحاديث النبويَّة.
قال – تعالى -: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10].
وقد ثبَت أيضًا في "صحيح مسلم" – رحمه الله تعالى -: أنَّ النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: ((إنَّ الله – جلَّ جلالُه – يقول يوم القيامة: أين المتحابُّون بجلالي؟ اليوم أظلُّهم في ظلِّي يوم لا ظلَّ إلا ظلِّي)).
"أين المتحابُّون بجلالي"؛ يعني: الذين تآخوا محبَّةً في الله، ورغبةً في الله، لم تُقرِّب بينهم أموالٌ، لم تُقرِّب بينهم أنساب، وإنما حب هذا لهذا لا لغرضٍ من الدنيا؛ وإنما لله – جلَّ جلاله.
وهذا هو الذي دَلَّ عليه الحديث الآخَر المتفق على صحَّته المشهور؛ ((سبعةٌ يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظله))، وذكر منهم: ((رجلان تحابَّا في الله، اجتَمَعا عليه وتفرَّقا عليه)).
فهذه النصوص تدلُّ على عظم شأن المحبَّة في الله، وعلى عظم شأن أنْ تُقام الأخوَّة في الله على أساسٍ من المحبَّة التي جاءَتْ في النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة، وإذا كان كذلك، وإذا كانت المحبَّة على الفضل العظيم.
أخي الحبيب، أين نحن من أخوَّة سلفنا الصالح، الذين لا يقدِّمون مصلحة الدنيا على حبِّ الآخرة؟
فيقول محمد بن المنكدر – لَمَّا سُئِل: ما بقي من لذَّته في هذه الحياة؟ – قال: "لقاء الإخوان، وإدخال السرور عليهم".
وقال الحسن: "إخواننا أحبُّ إلينا من أهلينا؛ إخواننا يُذكِّروننا بالآخرة، وأهلونا يُذكِّروننا بالدنيا".
وسُئِل سفيان: ما ماء العيش؟ قال: "لقاء الإخوان".
وقيل: "حلية المرء كثرة إخوانه".
وقال خالد بن صفوان: "إنَّ أعجز الناس مَن يُقصِّر في طلب الإخوان، وأعجز منه مَن ضيَّع مَن ظفر بهم".
رُوِي أنَّ رجلاً جاء إلى أبي هريرة فقال: إني أريد أن أواخيك في الله، فقال: أتدري ما حقُّ الإخاء في الله؟ قال له: عرفني! قال: ألاَّ تكون أحق بدينارك ودرهمك منِّي! فقال الرجل: لم أبلغ هذه المنزلة بعدُ، فقال أبو هريرة – رضِي الله عنه -: فدعك عنِّي.
عن ابن عمر – رضِي الله عنهما – قال: "ثم لقد أتى علينا زمانٌ – أو قال: حينٌ – وما أحدٌ أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ثم الآن الدينار والدرهم أحبُّ إلى أحدنا من أخيه المسلم، سمعت النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: ((كم من جارٍ متعلِّق بجاره يوم القيامة يقول: يا رب، هذا أغلَقَ بابه دوني فمنع معروفه))"؛ "الأدب المفرد"؛ للبخاري.
عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: "ثم أهدي لرجلٍ من أصحاب رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – رأس شاة، فقال: إنَّ أخي فلانًا وعياله أحوَجُ إلى هذا منَّا، قال: فبعث إليه فلم يزل يبعث إليه واحدًا إلى آخر، حتى تداولها سبعة أبيات، حتى رجعت إلى الأوَّل، فنزلت: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ… ﴾ [الحشر: 9] إلى آخر الآية".
قضى ابن شبرمة حاجةً كبيرة لبعض إخوانه، فجاء بهدية، فقال ابن شبرمة: ما هذا؟ قال أخوه: لما أسديته إليَّ من معروف، قال ابن شبرمة: خُذْ مالك – عافاك الله – إذا سألتَ أخاك حاجةً، فلم يجهد نفسه في قضائها، فتوضَّأ للصلاة وكبِّر عليه أربع تكبيرات وعدَّه في الموتى.
وهكذا، فإنَّ أمثلة الإخاء في الله المشرقة لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، على أنَّ السلف الصالح كانوا يَعِيشون في ظِلال الأخوَّة الإسلاميَّة الوارفة، متحابين مُتكاتِفين، مُتعاوِنين متفانيين، رُحَماء بينهم، أذلَّة على المؤمنين من إخوانهم، أشدَّاء على الكفَّار وأعزَّة عليهم.
فحيّ على رجالٍ نُجَباء يتآخون في الله، ويُحيُون تاريخ أمَّتنا التَّلِيد، ويَصُوغون فجر صحوة تهزُّ البَيْرَق، وتُعِيد المجد لأمَّة المجد.
اليوم كثْرة الاتِّصالات الحديثة والتقنيات المبتَكَرة، ولكنْ ضعُفت الهمَّة والعزيمة في الاستِفادة منها.
يمرُّ اليوم أو اليومان أو الثلاثة، أو الأسبوع، أو الشهر لا يَسأَل الأخ عن أخيه، وهذا – والله المستعان – من اشتِغال الناس بحطام الدنيا وجمع المال.
اليوم الأخوَّة والمحبَّة في الله محصورةٌ بين بعْض الصالحين في أبناء قبيلتي وعشيرتي.
اليوم الأخوَّة والمحبَّة في الله محصورةٌ في كلِّ مَن كان من دائرتي أو قريتي.
اليوم الأخوَّة والمحبَّة في الله محصورةٌ في أبناء جنسيَّتي وبلدي فقط، وكأنَّ الأخوَّة مقيَّدة بهؤلاء! فتجد تطبيق الأخوَّة في كثيرٍ من المؤسَّسات والدوائر الحكوميَّة ضعيفًا، وفي بعضها غير موجود، وهذا مُشاهَد في كثيرٍ من الدوائر والمدارس والجامعات.
أخي الحبيب، تأمَّل حديثَ الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – في "صحيح مسلم" جاء عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أنَّ رجلاً زار أخًا له في قريةٍ أخرى، فأرصد الله له على مَدرَجَتِه ملَكًا، فلمَّا أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمةٍ تربُّها؟ قال: لا، غير أنِّي أحبَبتُه في الله – عز وجل – قال: فإنِّي رسولُ الله إليك بأنَّ الله قد أحبَّك كما أحببتَه فيه))؛ رواه مسلم.
أين نحن من هذا الحديث؟ رجلٌ يزور أخًا له في الله، وليس من أجل مصلحةٍ أو مالٍ، يزوره من أجل المحبَّة في الله، المحبَّة التي افتَقدَها وضيَّعَها كثيرٌ من الصالحين وطلاَّب العلم.
تقدم الخدمة أو المصلحة اليوم من أجل مصلحة، أو معرفة، أو قرابة، لماذا ابتعدنا عن منهج نبيِّنا – صلَّى الله عليه وسلَّم – وسلفنا الصالح؟
أخي الحبيب، قال – عليه الصلاة والسلام -: ((إنَّ الله يَقول يوم القيامة: أين المتحابُّون بجلالي؟ اليوم أظلُّهم في ظلِّي يوم لا ظلَّ إلا ظلِّي))؛ رواه مسلم.
وقال – عليه الصلاة والسلام -: ((قال الله – عزَّ وجلَّ -: المتحابُّون في جلالي لهم منابرُ من نورٍ، يغبطهم النبيُّون والشهداء))؛ رواه الترمذي وصحَّحه.
وحَدَّث أبو مسلم الخولاني فقال: دخَلتُ مسجد حمص، فإذا فيه نحو من ثلاثين كهلاً من أصحاب النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وإذا فيهم شابٌّ أكحل العينين، برَّاق الثنايا ساكت، فإذا امترى القوم في شيءٍ، أقبلوا عليه فسألوه، فقلت لجليسٍ لي: مَن هذا؟ قال: هذا معاذ بن جبل، فوَقَع له في نفسي حبٌّ، فكنتُ معهم حتى تفرَّقوا، ثم هجَّرت إلى المسجد، فإذا معاذ بن جبل قائم يُصلِّي إلى ساريةٍ، فسكتَ لا يُكلِّمني، فصلَّيتُ ثم جلَستُ فاحتبيت برداءٍ لي، ثم جلَس فسكتَ لا يكلمني، وسكتُّ لا أكلِّمه، ثم قلت: والله إني لأحبُّك، قال: فيمَ تحبُّني؟ قال: قلت: في الله – تبارك وتعالى – فأخذ بحبوتي فجرَّني إليه هنيَّة، ثم قال: أبشرْ إنْ كنت صادقًا؛ سمعتُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: ((المتحابُّون في جلالي لهم منابرُ من نورٍ، يغبطهم النبيُّون والشُّهداء))، قال أبو مسلم: فخرَجتُ فلقيت عبادة بن الصامت، فقلت: يا أبا الوليد، ألاَ أحدِّثك بما حدَّثني معاذ بن جبل في المتحابين؟ قال: فأنا أحدثك عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – يرفعه إلى الرب – عزَّ وجلَّ – قال: ((حقَّتْ محبَّتي للمتحابين فيَّ، وحقَّتْ محبتي للمتزاورين فيَّ، وحقَّتْ محبتي للمتباذلين فيَّ، وحقَّتْ محبتي للمتواصلين فيَّ))؛ رواه الإمام أحمد.
وضمن السبعة الذين يُظلّهم الله في ظلِّه يوم لا ظل إلا ظله: ((رجلان تحابَّا في الله، اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه))؛ يعني: جمعَتْهم المحبَّة في الله فاجتمعوا عليها، ولم يُفرِّقهم ولم يقطع هذه المحبَّة إلاَّ الموت، أو انقِطاع سببها.
ومن المحبَّة النافعة الحبُّ في الله، فتكون العلاقات بين الناس والحب لا لأجل القرابة فحسب، ولا لأجل توافُق الطباع وارتِياح كلِّ شخصٍ للآخَر.
فالمؤمن يُحَبُّ لأجل إيمانه، لا لجنسٍ ولا لِلونٍ ولا لبلد مُعيَّن، وإنما يُحبُّ في الله ولله، حتى نسمع عن الرجل الصالح أو المرأة الصالحة، فتحبّهم قلوبُنا وإنْ لم نعرف أشخاصهم.
ويجب أنْ تكون المحبَّة بين المتحابين خالصةً لله؛ ولذا قال – عليه الصلاة والسلام -: ((لا تُصاحب إلا مُؤمِنًا))؛ رواه أبو داود والترمذي، فإنَّ المحبَّة إذا كانت خالصةً لله – عزَّ وجلَّ – نفعَتْ صاحبَها وحُشِر مع مَن أحبَّ.
تأمَّل هذه الأقوال الجميلة: آيات الله، وأحاديث الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – وأقوال سلف الأمَّة، تُعطِك دليلاً على واقعيَّتها ومصداقيَّتها.
أخي الحبيب:
مَن الذي أعانك على الالتزام والدخول في عالم الهداية؟
مَن الذي يُثبِّتك على طريق الاستقامة في خضمِّ هذه الفتن؟
مَن الذي تبثُّ إليه همومك؟
مَن الذي يقف معك عند النكبات والأزمات؟
لذلك قال عمر: "لقاء الإخوان جلاء الأحزان".
إذًا كيف يَطِيبُ لعاقلٍ أنْ يقطع أواصر الأخوَّة والمحبَّة، ليعيش حياة الهموم والغموم، بعيدًا عن فضائل الأخوَّة والمحبَّة في الله ونتائجها العظيمة؟!