الدكتور أحمد الريماوي
ومن أقدم الهجرات التي قام بها أهل جزيرة العرب إلى الهلال الخصيب، هجرة الجماعات التي توجّهت إلى أرض فلسطين في النصف الأول من الألف الثالثة قبل الميلاد، ويرجع البعض سُكنى الكنعانيين في أرض فلسطين إلى ما قبل ذلك بزمن بعيد(2). ويقول الأستاذ أولبرايت في كتابه:"الأركيولوجيا والديانة الإسرائيلية" إنه لدينا من البراهين والأدلة على أن الكنعانيين أصحاب اللغة السامية الغربية استقروا في فلسطين في أوائل الألف الثالثة قبل الميلاد… كما وردت كلمات كنعانية في المدوّنات المصرية في عصر الأهرام (القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد)(3).
كما قام الفلسطينيون Philistines من جزيرة كريت بغزو فلسطين، فاحتلوا السهل الساحلي وأسّست لها مدناً محصّنةً هناك، وأفراد هذه القبيلة هم من المهاجرين الإيجيين الذين قدموا من بلاد اليونان. وقد سُمّيت فلسطين بهذا الاسم نسبة إلى هذه القبيلة، على الرغم من اختفاء اسم الفلسطينيين الإيجيين من التاريخ. وقد تمكن هذا الشعب من خوض حروب ضارية مع العِبرانيين وتغلّب عليهم في أكثر من موقعة(4).
ولم تعرف فلسطين عبر التاريخ كقُطرٍ مستقل، وإنما كانت دائماً جزءاً من امبراطورية أو كيان آخر. والقدس في إطار هذا الكيان كانت كغيرها من المدن الجبلية لها أهميتها التاريخية والاستراتيجية. وقد بُنيت مدينة القدس حوالي سنة 3000ق.م على يد اليبوسيين الذين أطلقوا عليها اسم "يبوس"، واليبوسيون هم من الكنعانيين(5).
واليبوسيون هم من القبائل الكنعانية الذين كانوا ذوي حضارة أيضاً، فقد برزت
مدينة يبوس في عهدهم كمدينة ذات أهمية تجارية لموقعها الجغرافي المهم على طرق التجارة المعروفة في ذلك الوقت، حيث تربط حبرون مدينة "الخليل الآن" وبين بيت إيل قرية "بيتين اليوم" التي تتبع لواء رام الله شمالاً، حيث تتجه الطريق وتتشعب نحو "شكيم" نابلس وطريق آخر نحو وادي الأردن جنوب مدينة أريحا(6).
ولكن يبوس "القدس" لم تكن ذات أهمية تجارية فحسب، بل تميّزت بأهميّتها الاستراتيجية والعسكرية لوقوعها على قِمم تلال وتسيطر على ما يتصل بها من طرق، ويقال إن ملكي صادق أحد ملوك اليبوسيين ورئيس دينهم هو أول من اختط مدينة القدس وعمرها وسُمّيت مدينة السلام. وزاد سالم اليبوسي كذلك من تحصينها مما هيّأها للتصدي لغزو بني إسرائيل ومقاومتهم. وكان هو وجماعته من المعتقدين بالتوحيد. وبذلك تكون "مدينة السلام" أي القدس أقدم بقعة ذكرها التاريخ، آمنت بالله الواحد لا شريك له يشمل بعنايته جميع الخلق، فللقدس وزعيمها ملكي صادق فضلٌ كبيرٌ على العالم لأن فيها وُضعت أسس حياة العالم الدينية منذ نحو 4000 سنة(7).
ونقل مجير الدين الحنبلي في كتابه "الأُنس الجليل 1/8" قصة بناء بيت المقدس فقال:"وأما مدينة القدس فكانت أرضها في ابتداء الزمان صحراء بين أودية وجبال، وهي خالية لا أبنية فيها ولا عمران… ومما حُكي من تواريخ الأمم السالفة أن "ملكي صادق" نزل بأرض بيت المقدس، وقطن بكهف من جبالها يتعبّد فيه، واشتهر أمره حتى بلغ ملوك الأرض الذين هم بالقرب من أرض بيت المقدس، بالشام وسدوم وغيرهما، وعدتهم اثنا عشر ملكاً، فحضروا إليه، فلما رأوه وسمعوا كلامه، اعتقدوه وأحبّوه حُبّاً شديداً ودفعوا له مالاً ليعمّر به مدينة القدس، فاختطّها وعمّرها وسُميت "بيت السلام" فلما انتهت عمارتها اتفق الملوك كلهم أن يكون ملكي صادق ملكاً عليهم وكنوه بأبي الملوك، فكانوا بأجمعهم تحت طاعته واستمر حتى مات بها".
اتخذ ملكي صادق، بقعة الحرم الشريف معبداً له، فكان يقدّم ذبائحه(8) على موضع الصخرة المشرّفة. وبذلك يكون العرب الكنعانيون أقدم من تعبّد في هذه البقعة. صلّوا فيها ودعوا ربّهم عندها، وذلك قبل أن يقوم سليمان بن داود ببناء هيكله بما يقرب من ألف سنة. وهذا يفسر لنا ما ذكره بعض المحدِّثين وغيرهم من أن بناء سليمان كان على أساسٍ قديم. وفي هذا يقول مجير الدين الحنبلي:"وهذه الأقوال تدل على أن بناء داود وسليمان عليهما السلام إيّاه، إنما كان على أساس قديم لا أنهما المؤسسان له بل هما مجدِّدان"(9).
وكان هناك اتصال بين اليبوسيين والكنعانيين وبين الفراعنة في مصر. فقد كان هؤلاء يطلبون حماية المصريين ضد الغزو الذي يتعرّضون له بين الحين والآخر من قِبل قوم يُطلق عليهم "الخبيري" أو "الحبيري" وهم العِبريون، وقد هب المصريون بالفعل لنجدتهم وصدّ الغارات التي كانت تُشَنّ عليهم(10).
ومن الجدير بالذِّكر أن فلسطين "أرض كنعان" وكذلك مدينة السلام "أورسالم" القدس خضعت للحكم المصري الذي سيطر على البلاد في النصف الأول من القرن السادس عشر قبل الميلاد. وخلال هذه الحقبة التاريخية تعرّضت البلاد لعدّة غزوات من العِبرانيين وخاصّةً البدو الخبيري- كما أشرنا- كان أهمها غزوة وقعت سنة 1600 ق.م وأخرى وقعت سنة 1200 ق. م. وقد بقي النزاع مستمراً حتى عام 1000 ق.م. حين تمكن العِبريون من تحقيق نصرٍ على الكنعانيين، وسلْب السيادة منهم مستغِلين فرصة انشغال المصريين في أمورٍ أخرى وضعت الكنعانيين نتيجة نشوء خلافات فيما بينهم وتفرق كلمتهم. ولكن الهزيمة التي ألحقت بالكنعانيين وإن كانت قد قضت عليهم سياسيّاً إلاّ أنها لم تقض عليهم اجتماعياً، فقد تفرّقت قبائلهم في اليلاد، ويعتقد البعض أن سكان القرى القائمة حول مدينة القدس في أيامنا هذه هم من بقايا الكنعانيين القدماء(11).
وهكذا يتضح أن أرض كنعان ومدينة يبوس والتي عُرِفت فيما بعد بأورسالم، وهو الاسم الثاني لمدينة القدس، قد خضعت للسيادة المصرية فترة تربو على مائتي عام. ولكن العلاقة الكنعانية المصرية لم تكن تقوم على أساس الحرب فقط، بل أن التجارة بين مصر وسوريا الطبيعية لاقت رواجاً كبيراً في هذه الحقبة من الزمن، وأصبح تبادل السِّلع من الأمور المألوفة بالرغم من صعوبة الاتصال في ذلك الوقت ومخاطر الصحراء التي يجتازها التجار في ذهابهم وإيابهم(12).
وتعرّضت أرض كنعان "فلسطين" كذلك إلى غزوةٍ من اليهود في القرن الثاني عشر. قبل الميلاد، مارسوا خلالها ضروباً من القسوة والوحشيّة والإبادة. ولكن الغزوة الإسرائيلية لم تستطع أن تطرد الشعب الأصلي لفلسطين "أرض كنعان" أو تبيده، إذ ظلّت السهول بمدنها المحصّنة في أيدي الكنعانيين سكانها الأصليين، ولم يتمكن الإسرائيليون من الوصول إلى البحر أو السهل الساحلي الخصب. ولمّا حاول يوشع بن نون احتلال مدينة يبوس "القدس" قاومه اليبوسيون بقوة، وظلّت يبوس ممتنعة عن اليهود بنحو مائتي سنة. وأخيراً في نحو عام 997 أو 1000 ق.م. تمكّن "داود بن عيسى" من الاستيلاء على يبوس إذ عرف داود أثناء حصاره للبلدة موقع النّفَق(31)، فدمّره وقطع المياه عن السكان فعبرت منه الجند ويذلك تم الاستيلاء على يبوس وحصنها واتخذها عاصمة له. وهكذا قُدِّر لداود أن يزيل عن "مدينة السلام" ثم "يبوس" صبغتها العربية الكنعانية التي ظلّت مصطبغة بها نحو ألفي عام(14).
أطلق النبي داود (عليه السلام) اسمه على المدينة اليبوسية وقلعتها فأصبحت تعرف ب"مدينة داود" لأنه جعلها مقر ملكه. وبدأت مساكن اليهود تُبنى وامتدت على ما يُظن إلى قرب بركة سلوان. كما أقام داود على المدينة اليبوسية قصراً فخماً وحصوناً منيعة.
وبقي بعض اليبوسيين في مدينتهم ولم يبرحوها بعد استيلاء اليهود عليها. وقد أجرى داود إحصاء لسكان أورشليم والمدن الأخرى التي احتلها، فغضب عليه بنو قومه متذرعين بأسباب دينية، وصادف في تلك الفترة أن حل ببني إسرائيل وباء فتك بهم فتكاً ذريعاً. فقالوا إن هذا البلاء ما كان ليحل بهم لولا أن أحصاهم داود فحل ذلك عليه غضب ربه.
ندم داود (عليه السلام) على عمله بعد أن أخذ الشعب ينفضّ من حوله بسبب عملية الإحصاء ولكي يرضي شعبه أظهر الندم، ورغب في بناء هيكل ليكفّر عن ذنبه، فاشترى من أرنان اليبوسي أرضه الكائنة على جبل موريا. وكان هذا قد اتخذها (بيدراً) وشرع داود (عليه السلام) في بناء الهيكل فعلاً الذي أكمله من بعده ابنه سليمان (عليه السلام) (15).
انشغل داود (عليه السلام) كثيراً أثناء حكمه بشؤون الدولة وتنظيمها، وبإعداد المواد لبناء الهيكل، وكذلك بالحروب الكثيرة والفتن الداخلية الدامية، والتي كان آخرها فتنة ابنه أدونيا. بالاتفاق مع يؤاب قائد الجيش- وأراد أن يتبوأ العرش، ولكن داود عهد عند ذلك إلى ولده سليمان بإدارة المملكة وبايعه رجال الدولة. وأخيراً مات داود (عليه السلام) في السنة الحادية والسبعين من عمره بعد أن حكم أربعين سنة في القدس ودُفن فيها في المسجد الذي يحمل اسمه(16).
وفي زمن سليمان (عليه السلام) الحكيم انتعشت أورشليم (القدس) وهو إلى جانب الهيكل الذي أتم بناءه والقصور التي بناها لنفسه ولنسائه، حصن القلعة وبنى سوراً حول هذه الأبنية، وقد اتسع ملكه حتى وصل حدود مصر، وقد رأى سليمان (عليه السلام) بحكمته أن تحسين علاقته مع فرعون مصرمن شأنه أن يساعده في التفرغ لأعمال البنيان والعمران، فتزوج ابنة فرعون، وبنى لها قصراً جميلاً، كما تزوج سليمان (عليه السلام) زوجات أخريات، فكانت زيجاته لغرض دبلوماسي حتى يكون ذلك مصدر أمن له. وهكذا بقي اليهود في عهده في سلام بدون حروب(17).
اتسعت العاصمة في أيام سليمان (عليه السلام) حتى بلغت مساحتها 155 فداناً، وزاد عمرانها عما كانت عليه أيام والده بسبب نشاط مشاريعه التجارية والصناعية. ووسع أسوار المدينة فصارت تحيط بالأحياء المضافة إليها.
ومما هو جدير بالذكر أن هيكل سليمان الذي أصبح معبداً لليهود، أقيم على المكان الذي كان يتعبد فيه ملكي صادق، وموقعه حيث الحرم الشريف اليوم، كما أن معبد سليمان لم يكن معبداً لجميع اليهود إلا في عهد سليمان (عليه السلام) فقط ومعبد الأقلية منهم في عهد خليفته وولده رحبعام، حيث وجد الإسرائيليون نحو معبدين أقامهما "يربعام" أول ملوك المملكة الإسرائيلية، الأول كان في "بتين" غير بعيد عن القدس، والثاني في دان- تل القاضي- في شمال البلاد. كما وأن السومريين وهم طائفة يهودية تعتقد بأن الهيكل بني فوق جبل جرزيم بأطراف نابلس. وقد قدّس اليهود هذه الهياكل الثلاثة قدسية لا تقل عن قدسية الآخرين لهيكل سليمان. كما أقام الكثيرون من ملوك اليهود بعد ذلك، معابد وثنية في أورشليم وغيرها تعبدوا فيها وأنزلوها من أنفسهم منزلة عظمى، وقدّسوها أكثر من تقديسهم لهيكل سليمان(18).
إن الاستقرار الذي تمتع به اليهود في عهد سليمان (عليه السلام) لم يدم لهم في أواخر حكمه لأنه اضطر في النهاية إلى وضع مكوس فادحة على شعبه فأرهقهم بالضرائب مما جعل القبائل اليهودية تنقم عليه. فقامت عليه الفتن والثورات. ولما توفي سليمان خلفه ابنه رحبعام سنة 975ق.م، والذي طلب منه الشعب أن يخفف من الضرائب المفروضة عليه، فرفض وازداد في طغيانه عليهم، فثارت عليه القبائل اليهودية، ما عدا قبيلتين، ثم أسس العشرة أسباط (القبائل) لهم دولة في الشمال. ونصبوا يربعام أحد مناهضي سليمان (عليه السلام) ملكاً عليهم، واتخذ شكيم (نابلس) عاصمة له ومنع يهود دولته من زيارة القدس. وهكذا انقسمت دولة إسرائيل إلى دولتين بسبب عوامل الفساد والخراب فانقسمت البلاد إلى مملكتين، مملكة يهوذا وعاصمتها "أورشليم" ومملكة إسرائيل وعاصمتها "السامرة". وقد نشبت حرب عوان بين المملكتين، فاستغل شبشاق ملك مصر هذه الفرصة، وزحف على "أورشليم" فاحتلها سنة 970 ق.م. وقفل راجعاً إلى مصر بعد نهب خزائنها(19).
وبعد ذلك تولى أمر اليهود ملوك ضعفاء، واشتدت الحرب بين المملكتين يهودا وإسرائيل، مما شجّع الأشوريين على مهاجمتهم وإخضاعهم واحتلال القدس في زمن ملكهم "آحاز" الذي اعتنق ديانة الآشوريين وعبد أصنامهم وأغلق الهييكل(20).
وفي سنة 590 ق.م. تمرد صدقيا أحد ملوك اليهود على نبوخذنصر فزحف إليه هذا، وكانت "أورشليم" محصنة تحصيناً منيعاً فحاصرها مدة سنتين، وبنى الأبراج حولها مما اضطر اليهود للهرب نتيجة للجوع والمرض، فلحق بهم "نبوخذ نصر" وفتك بهم بعد نهب "أورشليم"، كما أحرق الهيكل ودمر أسوار المدينة ونفى أهلها إلى بابل، وهكذا انقرضت مملكة يهوذا سنة 586 ق.م.(21). وهكذا انتهت الأسرة المالكة، أسرة النبي داود في "أورشليم"، وذاق اليهود الذل المهين. وكان الآشوريون قد هاجموا سوريا وفتحوها سنة 735 ق.م أثناء اشتداد الصراع بين يهود الشمال ويهود الجنوب. ثم تغلبوا على مملكة إسرائيل في الشمال واحتلوا عاصمتها السامرة فانقرضت مملكة إسرائيل(22).
تمكن كورش ملك الفرس من الاستيلاء على بابل في عام 535 ق.م، وتم له بعد ذلك بسنة فتح بلاد الشام، ثم جاء إلى القدس فاحتلها سنة 538 ق.م. وكان اليهود قد ساعدوه حين فتحه لبابل فالتمسوا منه أن يأذن لهم بالعودة إلى "أورشليم" فوافقهم على طلبهم. وقد كان لزوجته استير التي يتصل نسبها بملوك اليهود تأثير كبير في تلبية هذا الطلب. خيّر كورش المنفيين بين العودة أو البقاء، فعاد قسم منهم لا يزيد على الخمسين ألفاً وبقي القسم الآخر ومعظمهم من الأغنياء في العراق. مفضلاً البقاء فيها على العودة إلى "أورشليم".
عاد اليهود بقيادة زربابل إلى "أورشليم" وأخذوا يعملون على تجديد بناء المدينة وإقامة حصونها وتشييد أسوارها. غير أن البلدة لم ترجع إلى ما كانت عليه من العزة والمنعة والاتساع والعمران، كما بنى هيكلاً وهو أقل فخامة من هيكل سليمان(23). وأياً ما كان الأمر فلم يقابل اليهود العائدون بالترحاب، بل حاول سكان جنوب الشام وأواسطه من مقاومة رجوع اليهود إلى البلاد، وهكذا ظلت القدس خاضعة للحكم الفارسي تدفع لهم الضرائب والعوائد إلى أن احتلها الاسكندر المقدوني.
استولى الاسكندر المقدوني على "أورشليم" عام 332 ق.م. فاستقبله يهودها بالترحاب العظيم عند جبل سكوبس، ولما رأى الاسكندر هذا الاستقبال الحافل، أكرم رئيس الكهنة وأعوانه ولم يصب المدينة بسوء. وقيل أنه منح اليهود منحاً عديدةً من جملتها عدم دفع الجزية في السنة السابقة(24).
وبعد وفاة الاسكندر عام 322 ق.م، كانت "أورشليم" أولاً تحت حكم البطالسة في مصر، ثم انتقلت عام 198 ق.م إلى حكم السلوقيين في سوريا. وخلال حكم السلوقيين لفلسطين، حاول أنطيخوس صبغ اليهود بالصبغة الهللينية. وكان اليهود وقتئذٍ منقسمين على أنفسهم فيما يتعلق بعلاقتهم بالعالم المحيط بهم. فقد فضّل الجيل اليهودي الجديد أساليب الحياة الهللينية المتحررة على القيود الدينية المتزمتة، واستمتع بالأدب والفن الهللينيين، وآثر الاندماج في الهللينيين، وقاوم المحافظين اليهود- الذين اتخذوا من التوراة ثم من التلمود مصادر لتفكيرهم- غزو الثقافة الإغريقية مقاومة شديدة(25).
عامل أنطيخوس الرابع Anteeckos اليهود شر معاملة فهدم أسوار القدس ودك حصونها ونهب الهيكل وذبح الخنازير على مذبحه ووضع عليه تماثيل يونانية. ووضع حكاماً في "أورشليم" عرفوا بشدة غضبهم لليهود فأهلكوا خلقاً كثيراً منهم، فأدى ذلك إلى ثورتهم بقيادة العائلة المكابية سنة 167 ق.م. وفي أيام يهوذا الثاني من المكابيين، كتب له النصر في كثير من مواقعه مع السلوقيين، فتمكن من دخول "أورشليم" وإزالة ما وضعه اليونان في الهيكل من تماثيل وأصنام وغيرها.
وبعد موت أرملة الاسكندر- التي تولّت الأمر من بعده- (76- 69 ق.م) حدثت حرب أهلية بين ابنيها أرسطو بولس الثاني وهوكانس الثاني. فتدخل الرومانيون حقناً للدماء وفصلاً للنزاع، فتغلب بومبيوس Bombus الروماني على أرسطو بولس (الذي حكم بين سنتي 69 و63 ق.م) وعزله، وعين أخاه هركانس في وظيفة الكاهن العظيم وأميراً تحت حماية الرومانيين. وخلف هركانس أنتيغوس بن أرسطو بولس 40- 37 ق.م فكان آخر السلالة المكابية وانتقل الملك منهم إلى هيرودس الكبير(26).
وعندما خلف الرومان السلوقيون، أقيمت مملكة يهودية برئاسة هيرودس الأكبر Hirods حكمت قسماً من فلسطين لحساب الرومان، وقد بدأ ملكه في "أورشليم" عام 37 ق.م، فجدّد بناء الهيكل في القدس إرضاء لليهود، ولكنه لم يعمر طويلاً إذ هدمه الرومان سنة 70م. كما حصّن هيرودس القدس بسور عظيم وأبراج ثلاثة بناها حول القصر الملكي(27). وفي عام 66 م وبعد ظهور المسيح وانتشار المسيحية التي قاومها اليهود، تمكن اليهود من السيطرة والاستيلاء على "أورشليم" بعد أن قاموا بعدة ثورات ضد روما، فعاقبهم الامبراطور الروماني طيطوس Titus بقسوة وأحرق "أورشليم" ودمر الهيكل عام 70م.
دمرت "أورشليم" تدميراً كاملاً، ولم يسمح الرومان لليهود بالعودة إلى المدينة المنكوبة إلى أن تبوّأ القياصرة المسيحيون عرش المملكة، ففي عام 115م ثار اليهود مرة أخرى، ثم أتبعوا ثورتهم هذه بثورة أخرى في عام 132م بقيادة باركوبا مكّنتهم من استرداد "أورشليم"، إلاّ أن الامبراطور الروماني هدريان Hedryan تمكن عام 135م من إخماد تلك الثورة، فنكّل بالثائرين أشد تنكيل، ودمّر "أورشليم" وحرث موقعها التي كانت قائمة عليه، وقتل عدداً كبيراً من اليهود، وسبى عدداً يتجاوز عدد القتلى، ثم منعهم من دخول القدس والسّكن فيها بل ومن الدّنو منها، وقد سمح للمسيحيين أن يُقيموا بها على ألاّ يكونوا من أصلٍ يهودي. وسمى المدينة إيليا كابيتوليا Aelia Capitolona مشتقة من اسم أسرة هدريان المدعوّة إيليا Aelia(1). فكان أن عفت جميع الآثار اليهودية عن القدس، ولم يبق منها إلاّ الذكريات وانقطعت صلتهم بها مدة ثمانية عشر قرناً متواصلة، وتشتتوا في بقاع الأرض، وانبثّوا في شمال إفريقيا وفي آسيا وفي أوروبا(28). ولم يسكن القدس بعد عام 135م ولمدة ألف سنة يهودي واحد. كما لم يكن فيها في القرون الخمسة التي تلت المدة المذكورة أكثر من خمسين يهوديّاً. ولم تقم لليهود قائمة بعد حروب هدريان(29).
وفي العهد العربي والإسلامي استغل اليهود التسامح الديني، والذي سمح لليهود بالحضور إلى بيت المقدس وإقامة الشعائر الدينية الخاصة بهم، ولم يكن لهم وجود فعلي في بيت المقدس إلى أن بدأت المنظمات الصهيونية بناء أحياء يهودية في محيط القدس منذ سنة 1833م، حيث أُقيمت أول مستوطنة باسم "أوهل موشيه"- خيمة موسى مونتفيوري-، تلاها بناء ما يزيد عن عشرين مستوطنة ما بين العام 1833- 1933م، كما مر ذِكره سابقاً.
الهوامش:
(1) يُطلق عادةً مصطلح "الهلال الخصيب" على القسم الخصب الهلالي الشكل من جزيرة العرب الذي يقع على أطرافها الشرقية والشمالية والغربية، ويشمل سورية ولبنان وفلسطين وشرقي الأردن والعراق. وأول من قال بهذا الاصطلاح الاستاذ بريستد وسماه بالإنجليزية (The Fertile Crescent)
(2) أحمد سوسة:"العرب واليهود في التاريخ"، العربي للإعلان والنشر والطباعة، بيروت، ط2، ص8.
(3) Albright, “Archaeology and the Religion of Israel.” 1942, P. 68.
(4) عارف العارف،"المفصّل في تاريخ القدس"، القدس، 1961، ص10
(5) ،"فلسطين تاريخاً وقضية" إسماعيل أحمد ياغي، ورفيق شاكر النتشة، وعبد الفتاح حسن أبو علية،الرياض، 1988، ط3، ص49.
(6) عارف العارف، المرجع السابق، ص3.
(7) مصطفى مراد الدباغ،"بلادنا فلسطين"، ق2:ج9، بيروت دار الطليعة، 1975، ص25.
(8) الذبائح كانت مستعملة في العصور القديمة وكانت معروفة منذ فجر التاريخ. والمذبح هو البناء المرتفع والمختص بتقديم الذبائح. وكان القصد من ذلك الاستعانة بالله أو تقديم الشكر وطلب مراحمة. وللعل مذبح ملكي صادق كان الموضع الذي أراد صديقه إبراهيم أن يقدم عليه ولده الذبيح الذي فداه الله بكبشٍ عظيم. انظر المصدر السابق، ص26.
(9) مجير الدين الحنبلي،"الأنس الجليل بتاريخ بيت المقدس والخليل"، ص5.
(10) Breasted . Jons.H.:”Ahistory of Ancient Egyptians, London . 1950. p. np.
(11) سالم الكِسواني،"المركز القانوني لمدينة القدس"، عمان، 1978، ص12.
(12) مصطفى الدباغ،"بلادنا فلسطين"، ق1، ج1، ص35- 44.
(13) أُقيم هذا النفق لجلب الماء إلى بيت المقدس. وقد حفر تحت الأرض في الصخر ليصل بين هذه المدينة وهذه العين مما يسهل وصول السّقاة إليها، ويفيدهم أيضاً في أوقات الحصار.
(14) مصطفى مراد الدباغ،"بلادنا فلسطين"، ق2، ج2، ص30.
(15) عارف العارف، المرجع السابق، ص12.
(16) مصطفى الدباغ، المصدر السابق، ص 32- 33.
(17) سالم الكِسواني، المرجع السابق، ص17.
(18) مصطفى مراد الدباغ، المصدر السابق، ص366- 37.
(19) عارف العارف، المرجع السابق، ص12.
(20) مصطفى مراد الدباغ،"بلادنا فلسطين"، ق2، ج9، ص47.
(21) محمود العابدي،"قدسنا"، القاهرة، 1972، ص17.
(22) مصطفى مراد الدباغ، المصدر السابق، ص52.
(23) ،"فلسطين تاريخاً وقضية" المصدر السابق، ص57.
(24) جورج بوست،"قاموس الكتاب المقدس"، ج1، بيروت، 1984, ص164.
(25) السيد رجب حراز، المرجع السابق، 1974، ص7.
(26) مصطفى مراد الدباغ،"بلادنا فلسطين"، ق2، ج9، ص56- 58.
(27) المصدر نفسه، ص60- 66.
(28) جورج بوست، المرجع السابق، ص159.
(29) مصطفى الدباغ، المصدر السابق، ص72.
* مقتطعة من مقالة بعنوان عروبة وإسلامية بيت المقدس