وإن كان فسَّر ذلك بعض العلماء العاملين فقالوا: إن القوم يقومون للملوك خوفاً منهم، والرسول صلى الله عليه وسلم طلب من أمته ألا تقوم له خوفاً منه، وإنما إذا قامت تقوم توقيراً له، وأدباً له، واحتراماً له، وتبجيلاً له صلى الله عليه وسلم، لكن ليس على سبيل الخوف، وليس على سبيل الرهبة، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
قيامي للحبيب علىَّ فرض وترك الفرض ما هو مستقيم
عجبت لمن له عقل وفهم يرى هذا الجمال ولا يقوم
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه أن يجلسوا حيث انتهى بهم المجلس، وكان لا يوطِّن المجالس، أي لا يوجد مكان محدد لفرد، ولذلك كرَّه علماء الشريعة توطنة الأماكن حتى في المساجد، فلا يجوز تحديد مكان في المسجد لشخص بعينه ليجلس فيه أو يُصلِّي فيه، لأن هذه الأماكن لله والأولوية لمن جاء، وكل من جاء يجلس حيث ينتهي به المجلس، لكن النبي صلى الله عليه وسلم علَّمنا الأدب مع الكبار والكرام والغرباء والضيوف، يقول هند بن أبي هالة رضي الله عنه في وصفه للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَيُكْرِمُ كَرِيمَ كُلِّ قَومٍ}{2}
إذا جاء رجل كريم من قوم يجب إكرامه، فكان صلى الله عليه وسلم يراعي ذلك، جاءه سيدنا جرير وكان شيخ قبيلة من اليمن، وكان من الوجهاء، فنظر جرير فلم يجد موضعاً في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس قريباً من الباب، فما كان من الحَبيب صلى الله عليه وسلم إلا أن أمسك بعباءته وقذفها إليه ليجلس عليها، وكان الرجل ذا أدب ووقار فأخذها ومسح بها عينيه ورفض أن يجلس عليها، أدب يقابله أدب لأنهم كانوا جميعاً أهل أدب.
فكان صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يُكرموا الغرباء ويؤثرونهم، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: {بينما رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ أَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ، إِذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، فَوَقَفَ فَسَلَّمَ، ثُمَّ نَظَرَ مَجْلِسًا يُشْبِهُهُ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، أَيُّهُمْ يُوَسِّعُ لَهُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَزَحْزَحَ لَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَقَالَ: هَهُنا يَا أَبَا الْحَسَنِ، فَجَلَسَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَرَأَيْتُ السُّرُورَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ مُثنياً على هذا العمل، إِنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لأَهْلِ الْفَضْلِ ذَوُو الْفَضْلِ}{3}
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جلس مرة متربعاً، ومرة القرفصاء، ومرة متوركاً كما كان يجلس في الصلاة، وكان في الطعام يجلس متوركاً كجلسته في الصلاة، وأحياناً كان يجلس محتبياً أي يضع يديه على ركبتيه، أو ثوباً على ركبتيه، كل هذه الجلسات وردت عن رسول الله، وأحياناً كان يتكئ بوسادة عن يمينه، وأحياناً كان يتكئ بوسادة عن يساره، وأحياناً كان يتكئ على بردته، فالمجال واسع ولا يجب أن نضيق على أنفسنا في هذا المجال، المهم أن نكون كما كان صلى الله عليه وسلم، كان لا يقعد ولا يقوم إلا على ذكر الله.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام من وسط أصحابه ويريد أن يُعلمهم أنه سيعود يترك شيئاً في موضعه، كأن يترك حذاءه أو عمامته أو أي شيء معه، فيعلمون أنه صلى الله عليه وسلم سيعود.
وكان صلى الله عليه وسلم لا ينتهي المجلس إلا دعا لأصحابه، وكان أغلب دعاءه في نهاية المجلس: {اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تُحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمَنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمَنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمْنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْثَرَ هَمِّنَا، وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا بذنوبنا من لا يخافك و لا يَرْحَمُنَا}{4}
وكان صلى الله عليه وسلم أيضاً لا ينتهي من الجلوس في أي مجلس إلا ويقول: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ}{5}
وعندما بدأ بهن لأول مرة قالوا: يا رسول الله كلمات قلتها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: {كَلِمَاتٌ عَلَّمَنِيهِنَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ كَفَّارَاتٌ لِخَطَايَا الْمَجْلِسِ}{6}
فإذا كان الإنسان قد ارتكب بعض الخطايا في المجلس ثم قالهن في ختام المجلس غفر الله له كل ذنب ارتكبه في هذا المجلس.
أما مشيه صلى الله عليه وسلم فكان يمشي دائماً وأبداً سريعاً في مشيته، مجتمعاً بجسمه كله، وهي ما نسميه بالمشية المعتادة في عصرنا، من يراه يرى أنه جاداً لا كسلاناً، وكان سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه يقول: {مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّمَا الأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ}{7}
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا مَشَى، مَشَى مُجْتَمِعًا لَيْسَ فِيهِ كَسَلٌ}{8}
كان صلى الله عليه وسلم يُعلِّمهم أنه يمشي على هذه الهيئة، ولذلك تعلَّم أصحابه ذلك، فعندما مات سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو رجل من هؤلاء الرجال، سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها وقد رُؤيت تبكي عليه: لِمَ تبكي على عمر؟ قالت: عمر رجل كان إسلامه فتحاً وهجرته نصراً.
لأنه عندما أسلم تحولت الدعوة من السر إلى العلانية، وعندما هاجر أخذ معه أربعون من الفقراء والمساكين علناً، رجل كان إذا قال أسمع – جهوري الصوت – وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهذه الصفات تعلَّمها من الحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم في أدبه في مشيه الذي علَّمه لنا إذا التفت يلتفت جميعاً، أي يلتفت بكله، ولذلك كان أصحابه يمشون خلفه وهم آمنون، وكان إذا أدبر أدبر جميعاً، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: {أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لا يَلْتَفِتُ إِذَا مَشَى، وَكَانَ رُبَّمَا تَعَلَّقَ رِدَاؤُهُ بِالشَّجَرَةِ أَوِ الشَّيْءِ فَلا يَلْتَفِتُ حَتَّى يَرْفَعُوهُ، لأَنَّهُمْ كَانُوا يَمْزَحُونَ وَيَضْحَكُونَ، وَكَانُوا قَدْ أَمِنُوا الْتِفَاتَهُ صلى الله عليه وسلم}{9}
وعن علي رضي الله عنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم َإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا}{10}
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقْبِلُ جَمِيعًا، وَيُدْبِرُ جَمِيعًا}{11}
وكان أحياناً يمشي منتعلاً، وأحياناً يمشي حافياً، فعن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: {أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْشِي حَافِيًا وَنَاعِلاً}{12}
وأحياناً في وقت المعارك كان يمشي القهقرى أي يرجع بظهره، كل أنواع المشي موجودة فلا نُحَجِّر واسع فضل الله. وكان إذا مشى مع أصحابه أحياناً يأخذ بأيديهم، وكان من أدبه صلى الله عليه وسلم أنه من يأخذ بيده لا يسحب يده من يده حتى يكون هذا الرجل هو الذي يأخذ حظه ويسحب يده، وأحياناً كان يأمر أصحابه أن يمشوا أمامه ويمشي خلفهم ويقول: {لا تَمْشُوا خَلْفِي وَخَلُّوا ظَهْرِي لِلْمَلائِكَةِ}{13}
وعن جابر رضي الله عنه قال: {كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَشَى مَشَى أَصْحَابُهُ أَمَامَهُ وَتَرَكُوا ظَهْرَهُ لِلْمَلائِكَةِ}{14}
وروى أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {امْشُوا أَمَامِي وَخَلُّوا ظَهْرِي لِلْمَلائِكَةِ}{15}
وعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال: {خَرَجْتُ ذَاتَ يَوْمٍ لِحَاجَةٍ، فَإِذَا أَنَا بالنَّبيِّ عَلَيْهِ الصَّلاة وَالسَّلامُ يَمْشِي بيْنَ يَدَيَّ، فَأَخَذَ بيَدِي فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي جَمِيعًا}{16}
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا جُنُبٌ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى قَعَدَ}{17}
{1} سنن أبي داود ومسند أحمد عن أبي إمامة {2} معجم الطبراني والبيهقي {3} مسند الشهاب ومعجم ابن الأعرابي عن أنس {4} سنن الترمذي والنسائي عن ابن عمر {5} سنن أبي داود والدارمي عن أبي برزة الأسلمي {6} سنن النسائي ومصنف ابن أبي شيبة {7} سنن الترمذي ومسند أحمد {8} مسند الإمام أحمد، عن ابن عباس رضى الله عنهما {9} معجم الطبراني والطبقات الكبرى لابن سعد {10} مسند أحمد والبيهقي {11} مسند أحمد والطبراني {12} مسند البزار وكشف الأستار {13} اتحاف الخيرة للبوصيري عن جابر بن عبد الله {14} سنن ابن ماجة ومسند أحمد {15} بغية الباحث للهيثمي {16} مسند أحمد وصحيح ابن خزيمة {17} الصحيحين البخاري ومسند أحمد
مشكووورة