استأذنتُ من زوجي لزيارة أمي التي تبعُد مسافة ساعة عن مدينتنا، غادرت البيتَ في العاشرة صباحًا إلى محطة المسافرين، وصلت باكرًا، وأخذتُ أبحث عن حافلة الركاب، كان هناك القليلُ من المسافرين، أغلبُهم من الذُّكور.
كان يومًا ربيعيًّا هادئًا وقد امتلأت ساحةُ المحطة وأسوارُها بأسراب من الطُّيور المُهاجرة؛ حيث تكثُر في هذا الفصل من كل عام في مدينتنا وضواحيها، وخاصَّة على الطُّرقات الخارجية – الطيورُ المُهاجرة بكل أنواعها ومنها الغربان، وتَمتلئ أعمدةُ الكهرباء بهذه الطيور، حتى إنَّك حينما تنظر إليها يُخال إليك أنَّك تعيش أجواء فيلم (الطيور) لِهتشكوك، فيقشعرّ الجسم من هذا المنظر الغريب والراعب في الوقت نفسه، بدأتُ أشعرُ ببعض القلق وأنا أتطلَّع إلى تلك الغربان المتجمعة وهي تَملأ الفضاء بنعيقها، خاصَّة أنه فصلُ التزاوُج بينهم.
كانت هناك حافلة تستعدُّ للمغادرة، وكان السائقُ بانتظار أن يكتملَ عددُ المسافرين؛ ليملأ المقاعد القليلة الفارغة.
ركبتُ الحافلة واخترتُ مقعدًا بجانب النافذة يَحمل رَقْم ستة، وبقي المقعد رقم سبعة بجانبي فارغًا، تمنيت أن تشاركني امرأة في المقعد؛ لكي أضمنَ أنَّها لن تُدخِّن؛ فأشدُّ ما يُبغضني في ركوب الحافلات هو دخان السجائر، الذي يبدأ به المسافرون من ابتداء الرحله حتى نهايتها؛ مما يزيد من توتُّري وشعوري بالغثيان خلال الرحلة.
أخذتُ أنظر من النافذة والساعة تقتربُ من الحادية عشرة، وما زلنا ننتظر المقاعد الفارغة.
اقتربت نحوي بخطوات بطيئة، ثم وقفت وأشارت إلى المقعد الفارغ قائلة: هل أستطيع الجلوس أو المقعد محجوز؟
نظرت إليها وأنا أرسم ابتسامة مصطنعة، ثم أجبت: لا… ليس محجوزًا، تفضلي.
جلست بقربي، كانت امرأةً في عقدها الرابع، يبدو عليها وكأنَّها موظفة في إحدى الدوائر، أو مُعلمة في إحدى المدارس، كانت تحمل حقيبةَ يَدٍ وكتابًا.
رَغم أنَّني ارتحتُ من جلوسها بجانبي، ولكن لا أدري لماذا انتابني بعضُ القلق؟! كان هناك شيءٌ غامض في داخلي يُقلقني؛ حيث لديَّ شعورٌ قوي من قوة حاستي السادسة في حدسِها لبعض المواقف والأمور التي سبق أن مَرَرْت بها.
أخيرًا اكتمل العددُ في الحافلة، فجلسَ السائقُ في مقْعدهِ، وردَّد قائلاً: توكلنا على الله يا جماعة، أرجو لكم رحلةً مُوَفَّقة.
تحركت بنا الحافلة، أخذتُ أتطلع من خلال نافذة السيارة إلى الطريق، وأحيانًا كنت أختلسُ النَّظَر إلى حيث السيدة بقربي، كنتُ أراها تقلِّب صفحاتِ الكتاب الذي بين يديها تُطالعها بنَهم، حاولت كثيرًا أن أعرفَ عنوانَ الكتاب وأنا أختلسُ النظر إليها، رغم أنَّه ليس من عاداتي أن أراقبَ الناس، أو يستحوذ عليَّ الفضولُ إلى ذلك.
ولكن في هذه اللحظة بالذات شعرت بفضول شديد؛ لأعرفَ عنوانَ الكتاب الذي بين يديها، لا أدري لماذا؟ ربما لشعوري بالوحدة، أو لأنَّ حاستي السادسة بدأ مفعولُها يَجري!
وبعد اليأس من معرفة عنوان الكتاب تركت السيدة، وأخذتُ أنظر إلى الطَّريق مَرَّة ثانية، وفجأة سَمعت صوتَها وهي توجِّه حديثَها لي قائلة: هناك حلقة مفقودة وغامضة، وحقيقة مجهولة!
أجفلت على حديثها وأنا في ظلِّ سكوني، ثم نظرت إليها بصَمْتٍ وحرص يشوبه الخوف والاستغراب، وبدأت أشعرُ بأنَّ هذه السيدة ربَّما تكون غير طبيعية؛ وإلا ما معنى هذه الكلمات والمصطلحات الغريبة؟! ماذا تقصد؟! فأكثر شيء أخافهُ هو أن ألتقيَ أنا وشخصٌ مجنون.
ازداد شعوري بالخوف، وساد صمتٌ قصير بيننا، لا أعرف بماذا أجيبها؟!
ثم مرة أخرى بادرت بالحديث معي بابتسامة باردة قائلة: صدقيني، هناك أشياء في هذا العالم ما زلنا نجهل حقيقتها!
انتابَني الفضولُ مرة أخرى، وتأكَّد لي أنَّ الكتابَ له علاقة بحديثها، ولا أدري كيف ولماذا أجبتها قائلة: بالتأكيد هناك أشياء كثيرة ما زالت غامضة وغير مكتشفة إلى الآن، ثم التزمتُ الصَّمْت، أجابتني على الفور: نعم، هناك أشياء ما وراء الطبيعة، أشياء غير مرئية، أشياء لا نراها، لكنَّها موجودة، قد يكون قلة من الناس جدًّا يرونها أو يشعرون بها، ولكن للأسف من يدَّعيها يُتهمون بالجنون، ويُعَدُّون أشخاصًا نكرة في المجتمع.
لا أدري لماذا وكيف استرسلت في الاستماع والحديث معها، وكأَنَّ هناك قوة تجذبني لمعرفة شخصية هذه السيدة؟! رغم أنِّي تَمنيت في هذه اللحظة لو كان شخص آخر جالسًا بجانبي، حتى لو كان يُدخن طوال الرحلة، بدلاً من هذه السيدة الغريبة!
ولكن مع هذا أجبتها دون تردُّد: أشك أنَّ الكتابَ الذي بين يديكِ لهُ علاقة بالموضوع.
أجابتني وهي تقلبُ صفحاتِ الكتاب: صحيح، فهذا الكتاب يتحدث عن الكثير من الألغاز المُحيرة عن الحياة والموت وما وراء الطبيعة.. عنوانه: "الحلقة المفقودة".
ثم استمرت قائلة: يُمكنكِ استعارتهُ، فقد انتهيت من قراءتهِ.
احترت من دعوتها ما بين قَبول العرض أو رفضه، خاصَّة أن عنوان الكتاب استحوذ على فضولي، رغم أنني لا أرغب في استعارة أي شيء من أحد، فكيف إذا كان من شخصٍ غريب؟!
وبعد صمت قصير أجبتها قائلة: أنا آسفة، لكنني لا أعرفك لأردَّه إليك ثانية.
ابتسمت بلُطف قائلة: لا يهم يا عزيزتي، بإمكانك الاحتفاظُ به، وإذا رغبت بردِّه، فأنا مُعلمة في مَدرسة الزهور الابتدائية، بالتأكيد سمعتِ بهذه المدرسة؟
فأجبتها وأنا ما زلت حائرة ومترددة: أجل أعرف المَدرسة، إنها قريبة من زقاقِنا.
ناولتني الكتاب قائلة: اسألي فقط هناك عن الست ليلى، هيَّا خذيه، إنهُ كتاب مُشوِّق، وسوف يُعجبكِ.
لا أدري كيف أخذت منها الكتاب وأنا أنظر إليها بشرود، وضعت الكتابَ في حقيبتي، والتزمتُ الصمت، وبقيت شاردة طوال الرحلة.
قاربنا على الوصول، كانت تتراصُّ أشجارُ الصفصاف والصنوبر على جانبي الطريق، وقد امتلأت على أغصانِها طيورُ الغربان وهي تَملأ الفضاء بنعيقها، وعلى مشارف المدينة كانت توجد مقبرة على جانب اليسار، وعندما وصلنا إلى ذلك المكان طلبت السيدةُ من السائق التوقُّف.
فقامت وهي تُودعني قائلة: أستودعك الله.
استغربت من نزولِها في هذا المكان الموحش، فاستودعتها قائلة: مع السلامة، سوف أردُّ الكتاب إليك قريبًا ست ليلى.
ابتسمت ببرود وتركت الحافلة.
سارت الحافلة بنا إلى داخل المدينة، كنت أنظر إليها من خلال النافذة وهي تعبرُ الشارع إلى جهة المقبرة، ثم غابت عن ناظري والحافلة تسير، نظرتُ إلى مقعدها بجانبي، فرأيتُ وَرَقَةَ تذكرَتِها، أخذت التذكرة وكان عليها رقم مقعدها (7)، أصابتني الدهشة حينما رأيت وقد كُتِبَ عليها اسْمُ الكتاب "الحلقة المفقودة"، أخذت التذكرة ووضعتها مع تذكرتي في الحقيبة.
كنت طوال الوقت شاردة حتى بعدما زرتُ أمي، وفي المساء عدت إلى بيتي متعبة، فتوجهت إلى سريرى و نوم عميق
في اليوم التالي بعد أن نهضت، تذكَّرت رحلةَ الأمس والسيدة التي قابلتها في الحافلة والكتاب، فبادرتُ على الفور نحو حقيبتي أبحثُ عن الكتاب، لكنَّني تفاجأت بعدم وجودهِ، سألت زوجي والأطفال، لكنَّهم جميعًا أقسموا بأنَّهم لم يشاهدوا أي كتاب، ولم يقتربوا من حقيبتي، بدأت أقلق، أكان الكتابُ قد وقع مني؟! ولكن من المستحيل ذلك؛ لأنني على يقين تام بأنني قد وضعتهُ في حقيبتي، ثم بدأت أشكُّ في أنه ربما يكون قد سُرق مني.. حاول زوجي أن يُخفف من قلقي، لكني أخبرتهُ أنَّه أمانة، ويَجب أن أعيدَه إلى صاحبتهِ، فوعدني بأنهُ سوف يبحث في كل المكتبات عن عنوان الكتاب، وسيكون الكتاب أمامي اليوم أو غدًا.
وفي المساء عاد زوجي وأخبرني قائلاً: لقد فتشت في كل المكتبات يا عزيزتي، فلم أجد الكتاب، ولم يسمع أصحابُ المكتبات بهذا العنوان.
فأجبتهُ بِأَسًى: لا بد أن أزورَها وأعتذر إليها على ضياع كتابها، وسوف أعطيها ثَمَنَهُ، فقد تستطيع هي الحصول على نسخة أخرى، فوافقني زوجي على هذا الرأي.
وفي صباح اليوم الثاني قررت الذهاب إلى مَدرسة الزهور، وصلت هناك ودخلت إلى إدارة المدرسة، سلمتُ على المديرة: صباح الخير.
ردت: صباح الخير يا سيدتي، هل من خدمة؟
أجبتها: جئت أستفسر عن مُعلمة هنا اسمها ليلى، هل أستطيع رؤيتها؟
نظرت إلي باستغراب ثم أجابت: ليس لدينا معلمة بهذا الاسم، أخشى أن تكوني متوهمة بالمَدرسة.
فأجبتها: لا، أنا متأكدة من اسمها ومن المدرسة أيضًا.
كانت هناك مُعلمة جالسة تستمعُ إلى حوارنا، فأجابتني: ما اسمُ والدها؟
ارتبكت من سؤالها ثم أجبت: آسفة جدًّا، في الحقيقة لا أعرفُ.
فردت: كانت لدينا مُعلمة واحدة فقط اسمُها ليلى، ولكنَّها للأسف تُوفيت قبل ثلاث سنوات في حادث سير.
سَرَتْ في جسمي قُشَعْريرة، وخارت قواي وأنا أسمعُ منها هذا الحديث، وضاعت عني الحروفُ والكلمات، ومَرَّت الثواني كالدهر، ولَم أعُدْ أستطيع الوقوفَ، فجلستُ، وبالكاد استطعت أن أستردَّ أنفاسي وقواي.
لاحظت المُعلمة ما أصابني، وأخذت تنظر إلَيَّ بإشفاق، ثم رَدَّت بعد صمت: اسمعي سيدتي، يُمكنني مُساعدتك إن كانت هي السيدة التي تقصدينها؛ حيث لدينا ملفُّها وصورتُها، وبإمكانك معرفةُ أكانت هي الست ليلى أم لا؟
ثم أخذت تبحث في درج المكتبة عن بعض الملفات.
كنت أتمنى ألاَّ تفعلها، لا أدري! شيء غريبٌ كان يدور في ذهني مثل المطرقة، وبقيت شاردة وخائرة القوى، وفي دَوَّامة من الرعب والهلع، ثم أفقت من شرودي على صوت المُعلمة وهي ترد: هذا هو ملفُّها وعليه صورتُها، يُمكنك معرفة أكانت هي؟ فالصورة واضحة.
بدأ كل جسمي يرتجف، وخاصة يدي وأنا أمدُّها نحو الملف!
أخذت الملف وبدأت أنظر، ويا هول ما رأيت! ولولا شعوري بالشلل التام في قدمي، لهربتُ بأقصى ما أستطيع من سرعة.
أخذت أردِّد مع نفسي بكلمات مبهمة، إنها هي، يا إلهي بالملامح والنظرات نفسها، كأنها تنظر إلَيَّ حقيقةً، التسريحة، الملابس نفسها، لا يا إلهي، لا… لا أصدق…!
ضاقت الدنيا حولي وغرقتُ في دوامة الذهول والشرود والخوف، وكدتُ يُغمى عليَّ، وقد انتبهت المُعلمة لِما أصابني، ثم ردت بشفقة: يبدو سيدتي أنَّها هي، يظهر أنَّها كانت زميلة عزيزة عليك، نحن أيضًا كنا نحبها، إنا لله وإنا إليهِ راجعون!
لم أستطعِ الكلامَ، ولزمتُ الصمت، وحاولت النهوض بكل طاقتي وبادرت بالخروج وأنا بالكاد أسحبُ قدميَّ، وعُدت إلى بيتي وأنا ما زلت شاردة في دوامة الرعب والذُّهول، أخذت أشك في نفسي، أكنت طبيعية أم قد تسرب الجنون إلى مُخَيِّلتي؟! لا أدري ماذا أفعل؟! هل أخبر زوجي، أو ألتزم الصمت؛ خوفًا من أن يشك ويتهمني بالجنون؟!
بدأت أشك في نفسي وفيما جرى لي في رحلتي وفي صاحبة الكتاب؛ فالكتاب كان الدليل الوحيد؛ ليثبت صدقي، وقد ضاع مني، كيف؟! لا أعلم!
أخذتُ أبحث عن دليل، حاولت كثيرًا، أخيرًا تذكَّرت حقيبتي، هُرعتُ إليها، وأخرجت محفظتي ويداي ترتجفان، يا إلهي هناك فعلاً تذكرتان لمقعدين، السادس كان لي، والسابع هو مقعدها، وما زالت تلك الكلمات محفوظة عليها "الحلقة المفقودة"!!
…
في امان الله
|
نورتيني