علم من أعلام الوطن، وقائد من قادة الجهاد، يعتبر من القادة المعدودين الذين حملوا لواء العلم في يد وسلاح الجهاد في اليد الأخرى، هو الشيخ العلامة محمد النعاس الفقهي.
* نسبه وتعليمه
هو محمد النعاس بن حسين بن حمد بن حسين بن عبد الله بن أبي بكر بن إبراهيم بن الفقهي حامد الثاني بن محمد بن الفقي حامد الأول إبن الشيخ أحمد بن محمد زكري، ولد يوم الثلاثاء 9 ذي الحجة 1301 هجري، الموافق 30 سبتمبر 1882 ببني وليد، في قرية قبيلته الفقهاء* ذات التاريخ الحافل بالعلماء والفقهاء حتى صاروا علماً على إسمها، تربى ونشأ في بيت كرم وعلم فقد كان والده الشيخ حسُين رحمه الله فقيهاً ومتخصصاً في الفتوى والتشريع وأصول يدي كبار علماء ورفله أمثال (الشيخ عبد السلام قاجة بن حليم والشيخ محمد بن أحمد القط والشيخ علي بن يونس الصٌراري ) وكان من رفاقه في الدراسة وأصدقائه المقربين شهيد معركة عقيرة المطمورة بالجبل الأخضر الشيخ محفوظ بن عثمان الحجازي المعروف بـ (محفوظ الورفلي).
وقد عُرف عن الشيخ النعاس الشجاعة في قول الحق وعدم المجاملة في توجيه النقد، خاصة فيما يتعلق بالدين والسياسة ومن صفاته أنه كان يكره (التدخين) حيث يتجنب زواره دائماً التدخين أمامه وأيضاً عُرف عنه دقته في القنص.
وبالإضافة إلى ذلك كان الشيخ النعاس يتميز بالفصاحة والبلاغة وصدق الكلمة والمشاعر وله ديوان من الشعر يحوي العديد من قصائده التي تعبر عن وجدانه الصادق منها هذه الأبيات التي يعبر فيها عن مدى صدق جهاده وإخلاص وطنَيته عقب دخول قوات المستعمر الإيطالي للأراضي الليبية فيقول:
تبكي العيون من الأحزان مدمعها .. يجري بسالفة الوجنات أمطار
تبكي على وطن عز فيه قد شعلت نارالحروب وأهل الشرك أطوار
جاءوا بصاعقة ترمي لنا شررا .. مجموعة حسك الحديد والنار
شلت يدا من سعى فيهم بمصلحة .. تب وتب له ويل له دار
فأين من كان يدعوا الله وهو على .. ساق اجتهاد ومنه تبد أسرار
ألا فإن لحزب الله عدته .. وقد تصدى لدور الحرب أخيار
لهم إلى سبق ميدان الوغى طرب .. وباعوا أنفسهم لله أبرار
ساقوا المنايا إلى الأشلاء غالية .. وصدرت منهم في الصف أخبار
وقاهم الله شر من يناهضهم .. ولا دار لهم في الأمن تختار
وهذه الأبيات هي جزء من قصيدة طويلة قالها الشيخ النعاس عقب سماعه بنبأ إستشهاد شيخ الشهداء عمر المختار.
قضى عمر المختار عمرا معززا .. أرانا به حكم المعيشة بالفخر
قضى عمر المختار أيامه التي .. تشير إلى نيل المبرة والأجر
قضى الله ما أولاه وهو ميسر .. لأجل الذي وافاه من فائق النصر
فذلكم المجد والفضل كله .. تلقاه من بيت المبرز في القدر
وما نكبة الأيَام في عمره تفي .. بمعشار من أقصته غائصة البحر
أبو الروح منه والملاحظ أمره .. ومستودع الغايات في مضغة الصدر
فأوري شهاب الدين نار زناده .. أضاءت لها الأرجاء في ظلمة السحر
..إلخ .
* إسهامه في حركة الجهاد ضد إيطاليا
مع بداية الغزو الإيطالي بادر الشيخ النعاس، بالإنضمام لصفوف المجاهدين وكان من السابقين إلى ميادين الجهاد فقاتل كقائد على رأس مجاهدي قبيلته وكمجاهد في صفوف بقية المجاهدين، متنقلاً من ميدان لآخر ملبياً لنداء الوطن إبتغاء لمرضاة الله وحده لا ينتظر جزاءً أو شكوراً من غيره، وقد شارك في معظم ملاحم الجهاد في المنطقة الوسطى والجنوبية وحتى الغربية كمعركة الهاني، وقاد بنفسه عدة معارك هامة كالحشادية التي جُرح فيها وشميخ وغيرها، ومن أهم المعارك التي شارك فيها حصار الحامية الإيطالية في بني وليد التي أسر فيها قائدها الميجر برغينتي وقرابة 2024 من الجنود والضباط الإيطاليين والأحباش.
كما شارك في معارك أخرى عديدة منها (القرضابية – وادي دينار- تاقرفت – الميدفن بسرت – براك بالشاطئ المكيمن – قارة عافية – الشويرف – بئر العلقة – أم العبيد – غريس قاسم – بونجيم – تلمزاوة – آقار – ألخ ) وكان من أهم رفاق الشيخ النعاس في الجهاد بطل تاقرفت الشهيد الساعدي الطبولي وأيضاً بطل قارة عافية الشهيد قذوار السهولي.
لم يدخرالشيخ النعاس جهداً في العمل من أجل الجهاد، فعقب معركة القرضابية مباشرة إنتقل إلى الزويتينة وبقى فيها لفترة من الزمن من أجل الإتصال بالعلماء والتنسيق بين المجاهدين في كل أنحاء ليبيا، حيث شغل منصب عضو في المجلس الشرعي الأعلى، وللشيخ محمد النعاس علاقات وطيدة تربطه بأغلب أعيان الجهاد في الوطن ولما عُرف عنه من صدق المجاهدين ونزاهة العلماء المخلصين، أهلة ليكون عامل ربط وتوحيد بين أبناء الوطن، فكان عضوا بارزا بالوفد الذي رأسه المرحوم عبد العزيز العيساوي في مؤتمر غريان للم الشمل وتوحيد كلمة المجاهدين، قدم فيه المشورة الصادقة ودعا لتوحيد الصفوف.
رسالة من المجاهد صفي الدين السنوسي إلى الشيخ النعاس بتاريخ 1923 يخبره فيها بنتائج إحدى المعارك ضد إيطاليا
* الهجرة والعودة إلى أرض الوطن
بعد تغلب قوات الإستعمار الإيطالي على المجاهدين وتمكنها من إحتلال معظم مناطق وسط وجنوب ليبيا ولنفاذ المؤن والذخيرة هاجر العديد ممن لم تكتب لهم الشهادة في ساحة الوغى من المجاهدين، مفضلين الإغتراب في مسالك الصحاري المقفرة على حياة الذل والمهانة، وكان من ضمن أولئك المهاجرين الشيخ محمد النعاس الذي هاجر مع بداية العام 1930 م إلى تونس عن طريق صحراء الجزائر التي فقد فيها العديد من أفراد أسرته، وكان نجع الشيخ النعاس يضم عدة عائلات منها (عائلة الشيخ النعاس وآل الجدي وآل الشاملي و آل السعداوي وغيرهم ..).
بعد دخول نجع الشيخ النعاس للأراضي الجزائرية عن طريق غات متفادين واحة (دجانيت) و(عين أم الناس) تجنباً لملاقاة الفرنسيين، كادت قافلتهم أن تلقى نفس مصير قافلة المجاهد عبد النبي بلخير، فقد وصل الحال ببعضهم إلي أن فكر في حفر قبره بيديه بعد أن إستنفدوا مالديهم من مياه وكاد العطش، ومما زاد من معاناتهم مشاهدتهم لعشرات الجثث لمهاجرين من قوافل سبقتهم متناثرة بين رمال الصحراء، إلى أن عثر المجاهد علي الجدي على بئر بعد تقدمه عن النجع في محاولة أخيرة لإنقاذ من بقى من الاهالي على قيد الحياة، وعندما وصلوا إلى (حاسي مسعود) علموا بمأساة نجع المجاهد عبد النبي بلخير الذي فقد فيه الشيخ النعاس نفسخ بعضاً من أقاربه.
بعد إستقرار الشيخ النعاس في (تبسة) بضعة أشهرإنتقل إلى (قفصة) في تونس وإستقر فيها لبضع سنوات وهناك عمل في تعليم القرآن الكريم والفقه في إحدى زوايا قفصة لفترة من الزمن، بعد ذلك تلقى دعوة من أعيان البلاد للإقامة في (زغوان) لكي يتولى أمر زاوية الشيخ التباني التي إستقر بها حتى عام 1957م وهو عام عودته إلى أرض الوطن، وكان طيلة هذه الفترة محل تقدير وإحترام جميع الشيوخ والأعيان في تونس.
ومن فضائل هذا الشيخ الجليل أنه أشرف على رعاية وتعليم أبناء المجاهدين المهاجرين في تونس أمثال (يونس عبد النبي بلخير- الطاهر عزوز – وأحمد الغرياني – ومحي الدين فكيني – وأحمد الجويدي – والعشرات غيرهم).
وفي 27/5/1957م عاد إلى أرض الوطن وكان محط إهتمام وتقدير جميع المخلصين، فقصده عشرات الأصدقاء من شيوخ وعلماء وساسة ورفاق في الجهاد للتعبير عن فرحتهم بعودته سالماً إلى أرض الوطن.
* وفاته والقصائد التي قيلت في رثاءه
وفي أول ربيع الأول 1388 هجري االموافق 28/5/1968م إنتقل إلى رحمة الله تعالى وهو بين أهله وأقربائه، وأقيمت له مراسم تأبين حضرها كبار الشخصيات من مختلف أنحاء الوطن، ألقيت فيها الكلمات والقصائد وذكرت فيها مآثر الشيخ المجاهد محمد النعاس رحمه الله، ومن القصائد التي ألقيت في حفل التأبين قصيدة للأستاذ محمد أحمد الطبولي وكان من أصدقاء الشيخ النعاس وهي قصيدة طويلة من أربعين منها:
ليل ليس في نعاس .. فتحير السمَار والجلاس
يساءلون في قولهم ماذا جرى .. هل بالكوارث إندرت أجراس
ومن القصائد أيضاً التي قيلت في رثاء الشيخالشيخ المجاهد محمد النعاس رحمه الله هي من صديقه ورفيق دربه المجاهد سليمان السعداوي، منها:
رحل شيخ العلم يا مربوعة .. أنت مسكَره وشبحك يدير الروعة
ما عاد فيك فتيلة .. لا درس لا ميعاد بنمشيله
هكذا كان الشيخ المجاهد محمد النعاس الفقهي رحمه الله معلما وعالما وأستاذاً فاضلاً يتصف بخلق العلماء ونزاهة المجاهدين وصدق المخلصين حاملاً لكتاب الله عاملاًبتعاليم شرعه الحنيف ..رحمه الله رحمة الله رحمة واسعة وجزاه جزاء المجاهدين المخلصين.
الوليدي
* قبيلة الفقهاء تتواجد في وفلة وتحديداً فى بني وليد وزمزم وبعض عائلاتها في بنغازي وهم أولاد الشيخ العالم أحمد بن محمد زكري من أولاد زكري من العمور من بني الأثبج من هلال وهو من العلماء الأجلاء في زمانه وممن أخذ عن العلامة أحمد الزروق، تزوج الشيخ أحمد بن زكري من امرأة من قبيلة الصرارة ويقال أنها إبنة الشيخ إبراهيم الصراري (العالم والولي المعروف) فأنجبت له ثلاثة أبناء أبرزهم علماً ومكانة هو الفقي حامد الاول وحفيده الفقي حامد الثاني ومن ذريته المتُرجم له.
المراجع :
(1) د. عبد الله موسى الفقهي، أولاد صولبا، الجزء الأول.
(2) كتيب التأبين الذى صدر للشيخ المجاهد النعاس من وزارة الإعلام والثقافة، سنة 1968 – موقع ليبيا وطننا.
(3) أ. مختار بن يونس، مجلة الشهيد، العدد 3، ص 188.