لست أدري كيف أبدأ الحديث عن هذا الرجل العظيم والداعية الكبير والشيخ العلامة الجليل، الإمام الأكبر وشيخ الأزهر الأسبق، الشيخ عبد الحليم محمود، فهو نجم في سماء الحقيقة، ونموذج فريد للعالم العامل بما يعلم، والشيخ الذي رفع سلطة العلماء على علماء السلطة بل ورجالها، وهو الرجل الذي قال "لا" لرئيس الجمهورية الراحل أنور السادات، وهو الإمام الإمام الذي الذي ألبس التصوف عباءة الأزهر..
وُلِد الشيخ عبد الحليم محمود في قرية "أبو الحمد" بمدينة بلبيس محافظة الشرقية، في 12 مايو 1910م، ونشأ في أسرة كريمة مشهورة بالصلاح والتقوى، وكان أبوه ممن تعلم بالأزهر، لكنه لم يكمل دراسته فيه.
حفظ القرآن الكريم والتحق بالأزهر، وحصل على شهادة العالِمية سنة 1932م، ثم سافر على نفقته الخاصة لاستكمال تعليمه العالي في باريس، ونجح في الحصول على درجة الدكتوراه في التصوف الإسلامي.
وبعد عودته إلى مصر عمل مدرسا لعلم النفس بكلية اللغة العربية، وتدرج في مناصبها العلمية حتى عين عميدا للكلية سنة 1964، ثم اختير عضوا في مجمع البحوث الإسلامية، ثم أمينا عاما له، ثم اختير وكيلا للأزهر سنة 1970، ثم وزيرا للأوقاف وشئون الأزهر، ثم شيخا للأزهر عام 1974.
كرامة العلم والعلماء فوق كرسي السلطة
حياة هذا الرجل حافلة بالإنجازات والمواقف التي ثبّتت -في قلوب وعقول المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها- قيمة الأزهر، والمكانة الرفيعة لشيخ الأزهر، حين يتولى هذا المنصب عالم جليل مثله لا يخشى في الله لومة لائم.. رجل يعرف قدر العلماء وأن كرامتهم فوق كرسي السلطة، وفوق كل سلطة لا تعطي للعالم حقه..
الشيخ في مواجهة عبد الناصر
بعد عودة الشيخ من فرنسا في فترة رئاسة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان الشيخ "عبد الحليم" يرتدي "البدلة"، وفي خطاب ألقاه عبد الناصر قام بالتهكم على علماء الأزهر، وقال عليهم "إنهم يُفتون الفتوى من أجل ديكٍ يأكلونه".. فهل صمت الرجل وتواطأ؟ هل اعتبر ذلك مزحة من السيد الرئيس ومداعبة يتبسم لها وتمر مرور الكرام وكأنه لم يسمعها؟ لا لم يفعل الرجل أيا من هذا، بل اعتبر ذلك إهانة له ولمشايخ الأزهر ولعلماء المسلمين، فجاء رده حازما قاطعا مؤثرا مهذبا بلا ضجيج.. فما الذي فعله؟
قام بخلع "البدلة" وارتدى الزي الأزهري، وطالب زملاءه أن يحذو حذوه، فاستجابوا له كنوع من التحدي ورفع هذه الإهانة عن الأزهر وعلمائه، وعلمت مصر كلها بل والعالم العربي بموقفه هذا، فزاد تقديرا واحتراما..
الشيخ في مواجهة السادات
عندما صدر قانون الأحوال الشخصية والذي ينص على تقييد الطلاق ومنع تعدد الزوجات خلافاً للشريعة الإسلامية، وقف الشيخ بقوة في وجه هذا القانون قائلاً: "لا قيود على الطلاق إلا من ضمير المسلم، ولا قيود على التعدد إلا من ضمير المسلم {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، وعندما أرسل السادات من يحاولون الضغط عليه قدّم استقالته.. فاهتزّ لها العالم الإسلامي، واضطر السادات بذكاء وحكمة أن يتراجع عن موقفه.. وبالفعل تم إلغاء هذا القانون؛ لتصبح كلمة الله هي الأعلى وشريعته هي الأولى والأخيرة.. فلا تهاون في حق ولا مداهنة عند بلوغ الحقيقة.
عمامة الأزهر وروح التصوف
لقد جمع هذا الإمام الكريم بين الحفاظ على شريعة الله، متخذا عمامة الأزهر رمزا لها، في الوقت الذي عاش فيه بروح التصوف الحق.. كان يرى أن التصوف ليس زهدا في الحياة وهروبا منها، بل هو فلسفة حياة يثريها وينمّيها..
لقد فهم التصوف الذي يرى الحياة جهادا وكفاحا ومواقف مشرفة، وارتفاعا بالقيم الإنسانية، وعمل بذلك التصوّف الذي يرى الحياة جمالا وكمالا وعملا..
ولهذا لم يجد الشيخ من يشكّك في أن تصوّفه هو حقيقة الدين، فقد كان متّبعا غير مبتدع.. وكان بعيدا عن المظاهر الكاذبة والتمسك الأعمى بالسلطة والتبعية لها..
لقد عاش الأزهر أزهى عصوره على يد الرجل، وبصدقه وفكره، وقلبه وروحه ومواقفه كان الأزهر علامة على الإسلام الحق والمسلمين الحقيقيين..
مؤلفاته:
ترك الشيخ عبد الحليم محمود تراثا ضخما مادة ومضمونا؛ فمن مؤلفات الشيخ:
المنقد من الضلال
الإسلام والعقل
التفكير الفلسفي في الإسلام
السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي
ونحن إذ نحتفي بهذا الشيخ الجليل في وقت يكاد يغيب فيه صرح الأزهر عن عيون العالم الإسلامي، وقد غاب علماؤه عن الساحة، متلمسين المبرر القائل "لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة".. نُذكِّر هؤلاء أن المسئولية ليست شرفية، وإنما هي عمل وكفاح وعلوّ بكلمة الله فوق كل كلمة، وأمر الله فوق كل أمر…
فرحم الله الشيخ عبد الحليم محمود، وأدخله فسيح جناته، فقد وفّى برسالته وأدّى أمانته.. ونصح للمسلمين في عهده.. وسار على نهج النبي الكريم قدر استطاعته… ورضي الله عن كل من اتّبع سنة النبي، وعمل بعلمه، وعلّم المسلمين بالقدوة ونفع بالكلمة..
اول مره اعرف
بارك الله فيكى