تتميز الشخصية الإنسانية بنوعين من الصفات والقدرات، فالنوع الأول ثابت نسبياً لا تغيره عوامل البيئة إلا في حدود ضيقة، كالصفات الجسمية والمزاجية والذكائية، فالبيئة لا تستطيع تغيير لون الجسم من الأسود إلى الأبيض، أو تحيل المزاج الدموي مزاجاً سوداوياً، ولا تزيد من ذكاء الفرد أو تنقصه إلا بنسبة ضئيلة جداً، وهذه الصفات والقدرات تسمى العصية .
أما النوع الثاني من الصفات والقدرات فهي المرنة نسبياً، فقد تغيرها العوامل الخارجية تغييراً كبيراً، كاللغة والصفات الخلقية والجمالية والفنية، ففي وسع البيئة الاجتماعية أن تزيل ما لدى الفرد من خصال سيئة، كالغش والكذب والسرقة، أو الشعور بالنقص، وأن تخلق في نفسه بدلاً منها، صفات حميدة، كالتسامح والوفاء والصدق والشعور بالواجب، وعدم الإنزلاق في عالم الجريمة والرذيلة، وتسمى هذه الصفات والقدرات بالطوعية . وبين الاستعصاء والطواعية درجات ومستويات شتى من المرونة النفسية أو الذهنية.
والمرونة هنا؛ تشبه قطعة من المطاط، إذ شددتها ثم تركتها عادت إلى حالها، قد تشدها لدرجة تعرضها للقطع، فهناك درجة للمرونة تحتمل معها قطعة المطاط درجة من الشد … وهكذا تختلف الأجسام والنفوس البشرية في مرونتها.
وما يهمنا؛ ان الإنسان في حياته النفسية كثيراً ما يتعرض لمواقف وأحداث وأزمات، فقد يتعرض للنقد والتهكم، أو لعدم الوفاء ونكران الجميل، وقد يتعرض للإهانة أو الخسارة المادية أو لوشاية الغير… وإن قدرة الإنسان على تحمل ما يتعرض له، يتوقف على قدرته على العودة إلى حالته الطبيعية بالمرونة النفسية التي يتمتع بها، فطرية كانت أم مكتسبة.
فالإنسان السوي إذا سمع نقدا له؛ قد يرد على النقد بالنقد مثله ويستريح، أو قد يتقبل النقد ويصمت، وهذا يتوقف على مرونته النفسية، ومدى ثقته بنفسه، وقد يتأثر شخص آخر بالنقد، ويتأرق، وتثبط همته، وينزوي عن الناس. أو قد يمتنع عن مزاولة أعماله، ويظل يفكر بما تعرض له من إساءة ونقد.
هذه الحساسية النسبية للنقد في مواجهة المواقف والأحداث، فسرها علماء النفس، بما لدى الإنسان من قوى تعويضية، وهي من الجوانب المهمة في حياته العقلية الناضجة. وأن وجود هذه القوى لدليل على صحة الفرد النفسية وما يتصف به من هدوء وسكينة. وهذه القوى التعويضية، تمثل الرخصة التي تتيح لصاحبها أن يسهم بطريقة إيجابية في حياته اليومية، فإذا ضعفت هذه القوى التعويضية، بدت لصاحبها مخاطر الحياة اليومية، أهوالاً وشؤما ، فالخدش البسيط في ذاته حتى لو كان طفيفاً، يزعزع كيانه النفسي كله، ويجعله فريسة للأوهام والانفعالات والتوترات …الخ.
في حياتنا اليومية هناك الكثير من الأمثلة، على الفرق بين الإنسان الذي يتسم بالهدوء والمرونة والإتزان، وبين الذي يتسم بالتوتر والانفعال، فلو أن شخصين أثارهما ما تلفظ به ثالث من عبارات النقد والتهكم والسخرية، فنلاحظ أنهما قد يمتنعان كلاهما عن المسارعة في الرد، ولكننا نلاحظ في الوقت نفسه، فرقاً واضحاً في مسلكيهما، فنجد الأول لا يستطيع الصبر أو كبح جماح غضبه لما سمع، بينما نجد الثاني ينتظر في هدوء وروية قبل الرد، انه يتيح لنفسه فرصة التفكير بما سمع. وفي هاتين الحالتين، فإن سلوك الفرد ليس حدثاً منعزلاً قائماً بذاته، وإنما هو مرتبط أشد الارتباط، بما يحدث في بقية أجهزة النفس الفسيولوجية والبيولوجية.
ذهب بعض علماء النفس، بأن الشخصية التي تعاني إضطراباً نفسياً حاداً، تكون القوى التعويضية فيها معطلة بدرجة ملحوظة، الأمر الذي يترتب عليه، أن أقل أذى يصيب صاحبها يبدو خطراً داهماً، يتهدد حياته ومستقبله في حين أن الشخصية السوية، تتمتع بالمرونة واحتمال الأذى مهما كان حجمه ومصدره… ولكن؛ هذا لا يعني أن الشخصية السوية تتصف بالبلادة أو تفتقر إلى الحساسية، بمعنى؛ أن الاصابات النفسية مهما كانت لا تثير فيها إلا استجابات طفيفة ويمكن تجنبها.
تلك هي مأساة الجمود في حياتنا الشخصية، فالذين يفتقرون إلى المرونة النفسية لا تندمل جروحهم النفسية بسرعة، ولا يغفر صاحبها للشخص الذي تسبب في إهانته بسهولة، ولأن الجرح لا يندمل، فإن مشاعر الحقد والكراهية والنفور تلازمه، ولا تتبدد عنده بل تتجدد، كلما مر الحدث في خاطره ووجدانه.
ثم إن الذين يفتقرون إلى المرونة النفسية، نجدهم يتحركون وسط غيرهم من الناس، في خوف وحذر وشك، يتوقعون الأذى ويتحفزون للقتال أو الفرار، وقد نراهم يركنون إلى رثاء الذات ولومها أو التواكل والتوجع، وقد تظهر على بعضهم أعراض جسمية من شدة حساسيتهم، ويعبرون بها عما منوا به من هزيمة وإنكسار نفسي، أو هم يقتلون في أنفسهم ما منحته إياهم إنسانيتهم من حساسية، فيضيقون ذرعاً بالحياة وينتاب بعضهم اليأس والحنق والإحباط، ويفقدون معها الحس والشعور.
والسؤال الذي يتردد: هل تكفي هذه المبررات جميعاً للقول – بأن عدم المرونة النفسية، تؤدي بالإنسان إلى الشقاء والضعف ورثاء الذات؟ أو الامتناع عن مزاولة الأعمال، أو الشعور بالنقص والجمود؟ كم يكون خيراً للإنسان، لو عرف أن المرونة النفسية يتم اكتسابها من البيئة الاجتماعية، ومن طرق التعامل مع الآخرين. فالطفل مثلاً –يستطيع أن يتعلم المرونة من البيت والمدرسة معاً، لكن؛ تعليم المرونة لا يتوقف على البيت والمدرسة فحسب، بل أن المرونة تشمل كل مهارة وعلم وقيمة وعادة يكتسبها الطفل من المحيطين به، بمعنى؛ أن المرحلة المبكرة في حياته (مرحلة ما قبل المدرسة Pre-school التي تبدأ منذ ولادته وتستمر إلى سن الخامسة أو السادسة) تعتبر من أهم مراحل تكوينه في تعلم المرونة، فيكون دور البيت مهماً، إضافة إلى دور المؤسسات التعليمية والتربوية، من حضانة ورياض أطفال ومؤسسات ثقافية وأخرى مثل مكتبات الأطفال، وبعض أفلام الكارتون ومسلسلات الأطفال الهادفة، التي تعلم الصبر وقوة الاحتمال والاعتماد على النفس.
أضف إلى ذلك؛ بأن المكونات الوراثية البيولوجية للشخص، لا يمكن أن يتضح أثرها بدون البيئة الاجتماعية. كما أن البيئة لا تستطيع وحدها، أن تخلق شخصية من العدم. فالمكونات البيولوجية للشخصية هي الاستعدادات والصفات والقدرات التي تتفاعل معها البيئة، فتشكلها بالشكل الذي ينسجم مع الثقافة السائدة. بمعنى؛ أن الثقافة هي التي تحدد ظهور أو عدم ظهور هذه المكونات البيولوجية في قدرات فعلية، كذلك تحدد مدى ودرجة وطريقة ظهورها، لتصبح الثقافة هي صانع الشخصية المرنة كما ينبغي أن تكون.
ونخلص من هذا كله؛ بأن المرونة النفسية، ليست وليدة التكوين البيولوجي وحده،
بل أنها عبارة عن نواة مركزية تتألف من عناصر بيولوجية وفسيولوجية وتشريحية وسيكولوجية، وهي علامة من علامة الصحة النفسية، ودليل على تمتع صاحبها بعقل ناضج وحي.
منقوول
الحمدلله على نعمه