تفسير سورة القلم
(الآيات10:16)
{ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}
شرح الكلمات
{كل حلاف مهين}: أي كثير الحلف بالباطل حقير.
{هماز مشاء بنميم}: أي عياب مغتاب.
{معتد أثيم}: أي على الناس بأذيتهم في أنفسهم وأموالهم أثيم يرتكب الجرائم والآثام.
{عتل بعد ذلك زنيم}: أي غليظ جاف. زنيم دعي في قريش وليس منهم وهو الوليد بن المغيرة.
{قال أساطير الأولين}: أي ما وردته الأولون من قصص وحكايات وليس بوحي قرآني.
{سنسمه على الخرطوم}: أي سنجعل على أنفه علامة يعير بها ما عاش فخطم أنفه بالسيف يوم بدر…
معنى الآيات
{ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}
أي: كثير الحلف، فإنه لا يكون كذلك إلا وهو كذاب، ولا يكون كذابًا إلا وهو { مُهِينٌ } أي: خسيس النفس، ناقص الهمة، ليس له همة في الخير، بل إرادته في شهوات نفسه الخسيسة.
هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ
{ هَمَّازٍ } أي: كثير العيب [للناس] والطعن فيهم بالغيبة والاستهزاء، وغير ذلك.
{ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } أي: يمشي بين الناس بالنميمة، وهي: نقل كلام بعض الناس لبعض، لقصد الإفساد بينهم، وإلقاء العداوة والبغضاء.
(مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ)
{ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ } الذي يلزمه القيام به من النفقات الواجبة والكفارات والزكوات وغير ذلك، { مُعْتَدٍ } على الخلق في ظلمهم، في الدماء والأموال والأعراض { أَثِيمٍ } أي: كثير الإثم والذنوب المتعلقة في حق الله تعالى
(عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ)
{ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ } أي غليظ شرس الخلق قاس غير منقاد للحق { زَنِيمٍ } أي: دعي، ليس له أصل ولا مادة ينتج منها الخير، بل أخلاقه أقبح الأخلاق، ولا يرجى منه فلاح، له زنمة أي: علامة في الشر، يعرف بها.
وحاصل هذا، أن الله تعالى نهى عن طاعة كل حلاف كذاب، خسيس النفس، سيئ الأخلاق، خصوصًا الأخلاق المتضمنة للإعجاب بالنفس، والتكبر على الحق وعلى الخلق، والاحتقار للناس، كالغيبة والنميمة، والطعن فيهم، وكثرة المعاصي.
(أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)
وهذه الآيات – وإن كانت نزلت في بعض المشركين، كالوليد بن المغيرة أو غيره لقوله عنه: { أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أي: لأجل كثرة ماله وولده، طغى واستكبر عن الحق، ودفعه حين جاءه، وجعله من جملة أساطير الأولين، التي يمكن صدقها وكذبها- فإنها عامة في كل من اتصف بهذا الوصف، لأن القرآن نزل لهداية الخلق كلهم، ويدخل فيه أول الأمة وآخرهم، وربما نزل بعض الآيات في سبب أو في شخص من الأشخاص، لتتضح به القاعدة العامة، ويعرف به أمثال الجزئيات الداخلة في القضايا العامة.
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ
ثم توعد تعالى من جرى منه ما وصف الله، بأن الله سيسمه على خرطومه في العذاب، وليعذبه عذابًا ظاهرًا، يكون عليه سمة وعلامة، في أشق الأشياء عليه، وهو وجهه. تفسير السعدى
فى ظلال الآيات:
{ ذرني ومن خلقت وحيداً، وجعلت له مالاً ممدوداً،..الآيات)
ورويت عنه مواقف كثيرة في الكيد لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنذار أصحابه، والوقوف في وجه الدعوة، والصد عن سبيل الله..
و قيل: نزلت في الأخنس بن شريق.. وكلاهما كان ممن خاصموا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولجوا في حربة والتأليب عليه أمداً طويلاً.
• وهذه الحملة القرآنية العنيفة في هذه السورة، والتهديدات القاصمة في السورة الأخرى، وفي سواها، شاهد على شدة دوره سواء كان هو الوليد أو الأخنس والأول أرجح، في حرب الرسول والدعوة، كما هي شاهد على سوء طويته، وفساد نفسه، وخلوها من الخير.
• والقرآن يصفه هنا بتسع صفات كلها ذميم..
0 فهو حلاف.. كثير الحلف. ولا يكثر الحلف إلا إنسان غير صادق، يدرك أن الناس يكذبونه ولا يثقون به، فيحلف ويكثر من الحلف ليداري كذبه، ويستجلب ثقة الناس.
0 وهو مهين.. لا يحترم نفسه، ولا يحترم الناس قوله.
_وآية مهانته حاجته إلى الحلف، وعدم ثقته بنفسه وعدم ثقة الناس به. ولو كان ذا مال وذا بنين وذا جاه. فالمهانة صفة نفسية تلصق بالمرء ولو كان سلطاناً طاغية جباراً. والعزة صفة نفسية لا تفارق النفس الكريمة ولو تجردت من كل أعراض الحياة الدنيا!
0 وهو هماز.. يهمز الناس ويعيبهم بالقول والإشارة في حضورهم أو في غيبتهم سواء. وخلق الهمز يكرهه الإسلام أشد الكراهية؛ فهو يخالف المروءة، ويخالف أدب النفس، ويخالف الأدب في معاملة الناس وحفظ كراماتهم صغروا أم كبروا. وقد تكرر ذم هذا الخلق في القرآن في غير موضع؛ فقال:{ ويل لكل همزة لمزة } { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيراً منهن. ولا تلمزوا أنفسكم. ولا تنابزوا بالألقاب }
وكلها أنواع من الهمز في صورة من الصور..
0 وهو مشاء بنميم. يمشي بين الناس بما يفسد قلوبهم، ويقطع صلاتهم، ويذهب بموداتهم. وهو خلق ذميم كما أنه خلق مهين، لا يتصف به ولا يقدم عليه إنسان يحترم نفسه أو يرجو لنفسه احتراماً عند الآخرين. حتى أولئك الذين يفتحون آذانهم للنمام، ناقل الكلام، المشاء بالسوء بين الأوداء. حتى هؤلاء الذين يفتحون آذانهم له لا يحترمونه في قرارة نفوسهم ولا يودونه.
_ولقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينهى أن ينقل إليه أحد ما يغير قلبه على صاحب من أصحابه. وكان يقول: " لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ".
_وثبت في الصحيحين من حديث مجاهد عن طاووس عن ابن عباس قال: " مر رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ".
_وروى الإمام أحمد ـ بإسناده ـ عن حذيفة قال: " سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: لا يدخل الجنة قتات " أي نمام (ورواه الجماعة إلا ابن ماجه).
_وروى الإمام أحمد كذلك ـ بإسناده ـ عن يزيد بن السكن. أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: " الذين إذا رؤوا ذكر الله عز وجل " ثم قال: ألا أخبركم بشراركم؟ المشاءون بالنميمة المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب ".رجاله رجال الصحيح
عن أبي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ألا أخبرُكم بخيارِكُم ؟ . قالوا : بلَى يا رسولَ اللهِ ! قال : أطوَلُكم أعمارًا ، وأحسَنُكُم أخلاقًا .صحيح لغيره
ولم يكن بد للإسلام أن يشدد في النهي عن هذا الخلق الذميم الوضيع، الذي يفسد القلب، كما يفسد الصحب، ويتدنى بالقائل قبل أن يفسد بين الجماعة، ويأكل قلبه وخلقه قبل أن يأكل سلامة المجتمع، ويفقد الناس الثقة بعضهم ببعض، ويجني على الأبرياء في معظم الأحايين!
0وهو مناع للخير.وهو معتد.. متجاوز للحق والعدل إطلاقاً. ثم هو معتد على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى المسلمين وعلى أهله وعشيرته الذين يصدهم عن الهدى ويمنعهم من الدين..والاعتداء صفة ذميمة تنال من عناية القرآن والحديث اهتماماً كبيراً.. وينهى عنها الإسلام في كل صورة من صورها، حتى في الطعام والشراب: { كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه }.. لأن العدل والاعتدال طابع الإسلام الأصيل.
0 وهو أثيم.. يرتكب المعاصي حتى يحق عليه الوصف الثابت. { أثيم }.. بدون تحديد لنوع الآثام التي يرتكبها. فاتجاه التعبير إلى إثبات الصفة، وإلصاقها بالنفس كالطبع المقيم!
0 وهو بعد هذا كله { عتل }.. وهي لفظة تعبر بجرسها وظلها عن مجموعة من الصفات ومجموعة من السمات، لا تبلغها مجموعة ألفاظ وصفات. فقد يقال: إن العتل هو الغليظ الجافي. وإنه الأكول الشروب. وإنه الشره المنوع. وإنه الفظ في طبعه، اللئيم في نفسه، السِّيئ في معاملته.. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: " العتل كل رغيب الجوف، وثيق الخلق، أكول شروب، جموع للمال، منوع له ".. ولكن تبقى كلمة { عتل } بذاتها أدل على كل هذا، وأبلغ تصويراً للشخصية الكريهة من جميع الوجوه.
0 وهو زنيم.. وهذه خاتمة الصفات الذميمة الكريهة المتجمعة في عدو من أعداء الإسلام ـ وما يعادي الإسلام ويصر على عداوته إلا أناس من هذا الطراز الذميم ـ والزنيم من معانيه اللصيق في القوم لا نسب له فيهم، أو أن نسبه فيهم ظنين. ومن معانيه، الذي اشتهر وعرف بين الناس بلؤمه وخبثه وكثرة شروره. والمعنى الثاني هو الأقرب في حالة الوليد بن المغيرة. وإن كان إطلاق اللفظ يدمغه بصفة تدعه مهيناً في القوم، وهو المختال الفخور.
_ثم يعقب على هذه الصفات الذاتية بموقفه من آيات الله، مع التشنيع بهذا الموقف الذي يجزي به نعمة الله عليه بالمال والبنين:
• { أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال: أساطير الأولين }..
_وما أقبح ما يجزي إنسان نعمة الله عليه بالمال والبنين؛ استهزاء بآياته، وسخرية من رسوله، واعتداء على دينه.. وهذه وحدها تعدل كل ما مر من وصف ذميم.
• ومن ثم يجيء التهديد من الجبار القهار، يلمس في نفسه موضع الاختيال والفخر بالمال والبنين؛ كما لمس وصفه من قبل موضع الاختيال بمكانته ونسبه.
_ويسمع وعد الله القاطع:
{ سنسمه على الخرطوم }..
• ومن معاني الخرطوم طرف أنف الخنزير البري.. ولعله هو المقصود هنا كناية عن أنفه! والأنف في لغة العرب يكنى به عن العزة فيقال: أنف أشم للعزيز. وأنف في الرغام للذليل.. أي في التراب! ويقال ورم أنفه وحمي أنفه، إذا غضب معتزاً. ومنه الأنفة.. والتهديد بوسمه على الخرطوم يحوي نوعين من الإذلال والتحقير.. الأول الوسم كما
يوسم العبد.. والثاني جعل أنفه خرطوماً كخرطوم الخنزير!
• وما من شك أن وقع هذه الآيات على نفس الوليد كان قاصماً. فهو من أمة كانت تعد هجاء شاعر ـ ولو بالباطل ـ مذمة يتوقاها الكريم! فكيف بدمغه بالحق من خالق السماوات والأرض. بهذا الأسلوب الذي لا يبارى. في هذا السجل الذي تتجاوب بكل لفظ من ألفاظه جنبات الوجود. ثم يستقر في كيان الوجود.. في خلود..
• إنها القاصمة التي يستأهلها عدو الإسلام وعدو الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم.
من هداية الآيات:
1- التنديد بأصحاب الصفات التالية كثرة الحلف بالكذب، المهانة، الهمزة النميمة، الغيبة، البخل، الأعتداء، غشيان الذنوب، الغلظة والجفاء، الشهرة بالشر.
2- التحذير من كثرة المال والولد فإنها سبب الطغيان {إن الإنسان ليطغى أن آراه استغنى} 3- التنديد بالمكذبين بآيات الله تعالى جملة أو تفصيلاً. والعياذ بالله تعالى.
جزاكم الله خيراً على طيب المتابعة .. دمتم طيبين اللهم.فى رعاية الرحمن
المراجع:
•تفسير القرآن العظيم ابن كثير
• تيسير الكريم الرحمن فى تفسير كلام المنان
السعدى
•في ظلال القرآن الكريم سيد قطب
• أيسر التفاسير لكلام العلي الكبيرالجزائرى.
جزاكم الله خيراً على طيب المتابعة .. دمتم طيبين .فى رعاية الرحمن
|
وبارك الله فيكِ ووفقكِ واحسن اليكِ دمتِ طيبة