أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين
تمهـيد لابد منه
بعيداً عن إعلامنا وأضاليله وبعيداً عن التلفزيون الذي طالما شوه وزيف التاريخ في مسلسلاته ومازال ..!!!
نقدم في هذا الموضوع لملحمة شعبية كبيرة كانت ولازالت تعيش في وجدان أبناء الصعيد عامة وقبائل الهوارة خاصة ..
إنها قصة رجل حمل من الاصالة والشهامة والعراقة ما شهدت به كتب التاريخ
قدم له المؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي فقال
الجناب الأجل والكهف الأظل الجليل المعظم والملاذ المفخم الأصيلي الملكي ملجأ الفقراء والأمراء ومحط رحال الفضلاء والكبراء شيخ العرب الأمير شرف الدولة همام بن يوسف بن أحمد بن محمد بن همام بن صبيه بن سيبيه الهواري
عظيم بلاد الصعيد ومن كان خيره وبره يعم القريب والبعيد وقد جمع فيه من الكمال ما ليس فيه لغيره مثال تنزل بحرم سعادته قوافل الأسفار وتلقى عنده عصى التسيار وأخباره غنية عن البيان مسطرة في صحف الإمكان ..!!
قد اهتم شيخ العرب همام كذلك بالعلماء
و إشتهر بتقريبه لهم و إكرامهم و مقابلتهم بما يستحقون من احترام
و تقديم الهدايا العظيمة لهم إذا ما قصدوه في موطنه ومن أشهر هؤلاء العلماء الذين زاروا شيخ العرب همام في موطنه الشيخ مرتضى الحسيني الزبيدي ..
وذالك لشدة تناحرهم وتشاحنهم علي السلطة وكما ذكر الجبرتي فقد مات بالسم رحمه الله الله ويُقال ان المماليك هم الذين سموه …
الشيخ علي بن صالح الشاوري المالكي
مفتي فرشوط
و الذي تلقى علومه بالأزهر
ثم عاد إلى فرشوط و تولى الإفتاء بها و قد اهتم شيخ العرب همام بالشاوري اهتماما كبيراً و أكرمه إكراماً كبيراً
و كان يقبل وساطته في أي أمر مما أدى إلى إشتهار أمره .و بعد وفاة شيخ العرب همام غادر الشاوري فرشوط
و حضر إلى القاهرة و ظل بها حتى وفاته
عام 1185 هـ/ 1771 م .
بهذا التقديم ندخل لموضوعنا وهو عن
شيخ العرب همام أميـر الصعيد وزعيم قبائل الهوارة في القطر المصري
ظهر شيخ العرب همام في وقت كان الصعيد فيه في امس الحاجة الي وجود رجل مثله يُقر الامن ويحمي الفلاحين من ظلم الادارة المتمثلة في المماليك ومتاعب الاعراب من سلب ونهب وتهديد …
شيخ العرب همام صورة تخيلية
في قرية فرشوط بمحافظة قنا
كان مولد
شيخ العرب همام بن يوسف 1709 م 1121 هـ .
و قد نشـأ شيخ العرب همام في بيت ورث الثراء و المكانة أباً عن جد
فقد كان شيخ العرب هماماً إبناً للشيخ يوسف بن الشيخ أحمد محمد همام
الذي آلت إليه زعامة قبائل الهوارة .
و قد تمتع الهوارة بثراء واسع و كان معظم شيوخهم على جانب كبير من الثراء
فمنذ أن نزل الهوارة إلى الصعيد و إستقروا في جرجا
إمتدت سطوتهم فيها و إتسع ثراؤهم
و كان كبيرهم يقيم في فرشوط و له نفوذ في الصعيد كله
و قد ظلت لشيوخ الهوارة رئاسة الصعيد و السيطرة على الحكم فيه
حتى عام 893 هـ/1575 م
و قد كانت الأسرة التي انحدر منها شيخ العرب همام
و هي الأسرة الهمامية
على صلة طيبة بالفلاحين في الصعيد
فقد استطاعت بما توفر لها من عصبية قبلية قوية
حماية فلاحي الصعيد من المظالم التي كانت تلحق بباقي الفلاحين في أنحاء مصر الأخرى .
وقد ورث شيخ العرب همام عن أبيه الشيخ يوسف التزامات واسعة
شملت معظم أراضي الصعيد من المنيا إلى أسوان
و كانت هذه الالتزامات قد آلت إلى الشيخ يوسف
وراثة عن أبيه الشيخ أحمد بن همام .
242 الف فدان التزام الامير همام شيخ العرب
ولكي يحمي شيخ العرب همام أراضيه الواسعة
و يدفع عنها شر هجمات الأعراب و أطماع أمراء المماليك
كون جيشا كبيراً من الهوارة أقاربه و من المماليك الفارين
إلى الصعيد هرباً من منافسيهم .
كما لم تكن الهالات التي أحاطت بسيرته وليدة الخيال
و إنما هي شهرة و مجد استمدا وجودهما
من الواقع الذي لا يُخطئ لقد أحال شيخ العرب همام الصعيد
من منبت للفتن و مسرح للصراع بين الأمراء المماليك المهزومين
أمام زملائهم في القاهرة و مطارديهم المنتصرين إلى منطقة استقرار و رخاء وأمن وازدهارو بهذا وضع أساس مجده و خلد ذكراه .
و قد إشتهر شيخ العرب همام بالتقوى و الورع
فكان يؤدي الصلاة في أوقاتها
و قد أوقف أوقافاً كثيرة على المساجد في الصعيد و قام بكثير من الاصلاحات فيها
مثل ما قام به من إصلاح في مسجد عبد الرحمن القنائي
أشهر أولياء الصعيد
فقد جدد شيخ العرب همام المسجد و أنشأ خلفه مخزناً و دورة مياه
وأوقف عليه أوقافاً كثيرة وقد أنشـأ شيخ العرب همام مسجداً خاصاً في موطنه فرشوط في الجانب الشرقي منها
عام 1171 هـ / 1757 م
و هو مسجد فخم وتحفه اثرية هامة .
في حالة جيدة و تُقام به شعائر الصلاة و قد كُتِبَ على واجهته :
عليه علامات القبول لوايح ** و قد طاب من أرجائه كل بقعة
فيا داخلاً بالباب ادع لمشئ ** و ارخ يسد الله سر المنية
وقد اوقف شيخ العرب همام 19 فدان بفرشوط
للانفاق منها على هذا المسجد .
كان شيخ العرب همام يجلس يومياً بعدما يُصلي صلاة الصبح لفض المنازعات بين الناس وكان له مجلس عرب يشبه المحكمة
وإذا أصدر الحكم بين متخاصمين أمر كاتبه بولس النصراني بكتابة هذا الحكم
وكان كل شيء يُدون في هذه الجلسات ..
نشر شيخ العرب همام العدالة بين أبناء الصعيد
و لم يكن يُفرق في المعاملة بين أبناء قبيلته من الهوارة
و بين الفلاحين أو العرب الآخرين
فالجميع امامه ســواء و قد اهتم شيخ العرب همام
بتنظيم الزراعة في الصعيد و أدار الحياة فيه بنشـاطٍِ جم و كفاية فائقة
و كان هدفه أن يخلق من الفوضى نظام يُمكنه من نشر الرخاء
بين فلاحي الصعيد .
كما عمل على خلق شخصية بارزة له تحميه وتحمي كل بلاد الصعيد التي كانت تحت سلطته فعلياً
من ظلم المماليك و إسـتغلالهم و قد اتقن شيخ العرب همام دوره بصفته أميراً علي بلاد الصعيد
و أخذ في تنفيذه مضحياً بكل ما يملك
من جهد و مال و رجال و لم يكترث بما كان يبذله
من تضحيات و ما يلاقيه من جهد و عناء و بلغ شيخ العرب همام من القوة و النفوذ حداً
جعله يؤثر في تصعيد حدة الصراع بين كبار أمراء المماليك
بالقاهرة و هو باقٍ في مكانه بالصعيد
فلم يذهب إلى القاهرة و لم ينتقل من معقله و مهد نفوذه ..
و قد ظهر شيخ العرب همام
في وقت كان الصعيد في أمس الحاجة إلى وجود رجل مثله يُقر الأمن و يحمي الفلاحين من ظلم الإدارة و متاعب الأعراب
من سلب و نهب و تهديد امراء المماليك .. .
وكانت قبائل العليقات هي التي قامت بهذا الدور بتكليف من شيخ العرب همام فأصبحوا هم حراس الحجاج وهم المسؤلون عن حمايتهم …
صورة للحجاج
وقد استراحت الدولة عامة إلي تولي شيخ العرب همام إدارة الصعيد فقد كفاها متاعب كثيرة في تحصيل الاموال بتسديده الدائم لما عليه من خراج …
طريق الحج جهة القصير
قضى شيخ العرب همام السنوات الأخيرة
من عمره في إجراء المصالحات بين القبائل المتناحرة وإنهاء الخصومات الثأرية وإستشهد المؤرخ المصري بوثيقة تاريخية بحوزته تسجل حضور شيخ العرب مصالحة ثأرية بين قبلتين في إسنا سنة 1173 هجرية حيث جاء في الوثيقة إن المصالحة تمت بحضور العبد الأجل المحترم الجليل المكرم حضرة شيخ العرب همام يوسف ..
وأبدى الباحث والمؤرخ المصري عمر أحمد محمود تركي تخوفه من أن يتضمن المسلسل الذي يحمل اسم شيخ العرب همام مشاهد تصور شيخ العرب جبارا متكبرا ظالما غليظ القلب على عكس الحقيقة حيث كان شيخ العرب همام جوادا كريما رقيق القلب تفتح موائده العامرة من صلاة الفجر وحتى منتصف الليل كما كان محبا للسلم والسلام ويتحلى بأخلاق الفرسان .
عنه عشرات القصص والحكايات عن قوته التي كان يستخدمها في رد الظالم عن ظلمه ويضيف عبد ربه أن شيخ العرب همام قد وصل إلى اصفون وقرى
واستطاع شيخ العرب همام لما تمتعت به شخصيته من ذكاء وطموح ان ينشيء الصلات الواسعة المتعددة الجوانب مع حكام مصر وعلماءها
ومع الدولة العثمانية نفسها وكان يطلب منها ما يريد مباشرة مجدداً ما كان من طيب العلاقات بين اجداده وبين الدولة العثمانية
مما اثار عليه غيرة بكوات القاهرة مثل علي بك الكبير …
القاهرة القديمة
احدي الوثائق التاريخية لشيخ العرب همام
وكان لديه دواوين تضم جيشاً من الكتبة ومعظمهم من النصاري لمهاراتهم في الشئون الحسابية وكان هؤلاء يعملون في دأب متواصل
آناء الليل واطراف النهار لانجاز حسابات شيخ العرب همام الواسعة …
احد المحاضر التي كانت تكتب في المنازعات
حنق امراء المماليك وحقدهم علي شيخ العرب همام
وبدا الصراع المرير يُترجم الى
يتبع
لتحديد أسباب الصراع بين الشيخ همام و علي بك الكبير
لا بد من دراسة شخصية علي بك
و حركته و أهدافه منها .
و لد علي بك عام 1728 م / 1141 هـ في القوقاز
و كان والده أحد قساوسة الكنيسة اليونانية
و كان يأمل في أن يُنشئ ابنه يوسف تنشئة دينية
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
فقد اختطف الابن على يد إحدى عصابات الطرق
التي باعته إلى و احد من أكبر تجار الرقيق فسافر به إلى الاسكندرية و باعه إلى مديري جمركها اللذان أهدياه بدورهما إلى إبراهيم كتخدا تقرباً إليه
لأنه كان من أصحاب النفوذ في مصر .
علي بك الكبير
و قد بدأت حياة علي بك كما بدأت حياة غيره من المماليك
بعد شرائهم فاعتنق الإسلام و سُمي علياً .
ولما توفي أستاذه إبراهيم عام 1168 هـ /1754 م وهناك اقاويل كثيرة انه هو من سمه حتي ينفرد بالسلطة
بدأت شخصيته في الظهور على مسرح الأحداث بالقاهرة
و بدأ يسعى لمنصب شيخ البلد أي الوصول إلى زعامة المماليك جميعاً
و السيطرة على مقاليد الأمور في مصر كلها .
و للوصول إلى منصب شيخ البلد
كان على علي بك أن يُزيح من طريقه رضوان كتخدا الجلفي
شريك أستاذه إبراهيم كتخدا في النفوذ و الذي انفرد بعد وفاة إبراهيم كتخدا
بالنفوذ و السيطرة و كان من الطامعين في مشيخة البلد أيضا عبد الرحمن كتخدا
الذي تركه علي بك يبدأ النزال مع الأمراء الآخرين حتى يُمهد له الطريق و يخليه من المنافسين
و بالفعل ألب عبد الرحمن كتخدا مماليك إبراهيم كتخدا
على رضوان الخلفي و أغراهم على ذلك عام 1169 هـ / 1755 م
حتى هاجموه و أطلقوا عليه الرصاص و اضطروه للفرار إلى الصعيد حيث توفي هناك
بعد أيام من مهاجمته و فراره .
و انتهى بموته سلطان أتباعه
وظل علي بك يُخفي ما بنفسه من تطلع لمنصب شيخ البلد
وترك المتنافسين على ذلك المنصب يُسقِط بعضهم بعضا ولم يستطع عبد الرحمن كتخدا أن يتقلد مشيخة البلد
لأنه بالرغم من شهرته و قربه من نفوس الناس لم يكن له من الأتباع ما يوازي أتباع
عثمان بك الجرجاوي و الذي انتهى الأمر بتوليه مشيخة البلد
فلم يحسن معاملة زملاؤه فقاموا بخلعه من الرياسة
و تولى بعده حسين بك الصابونجي و ذلك في أوائل عام 1757 م / 1171 هـ .
واتبع حسين بك الصابونجي سياسة تشتيت شمل المماليك
و الأتباع الذين كان على رأسهم علي بك حيث أصدر حسين بك أمراً بنفي علي بك
إلى نوسا الغيط ( بالدقهلية ) و لكن أتباع حسين بك تآمروا عليه و قتلوه
ثم تولى من بعده علي بك الغزاوي
فأصبح شيخاً للبلد و سعى للقضاء على عبد الرحمن كتخدا
مدبراً لذلك مؤامرة علم بها عبد الرحمن كتخدا و سعى لإسقاط علي بك الغزاوي من مشيخة البلد
فانضم إلى علي بك الكبيرو عقد معه أواصر الصداقة و بذل جهده
حتى تمكن من جمع كلمة الأمراء على اختيار علي بك شيخاً للبلد
في أوائل عام 1760 م / 1174 هـ
و ظفر بإقرار الباشا لذلك .
و بعد أن استلم علي بك الكبير المشيخة عمد إلى الاحتفاظ بها عن طريق التخلص ممن ينافسونه على هذا المنصب
و كان أهم من ينافسونه ثلاثة هم :
حسين بك كشكش
و صالح بك القاسمي حاكم جرجا .
و قد بدأ بعبد الرحمن كتخدا
فاستصدر أمراً من الباشا بنفيه إلى الحجاز
عام 1764 م / 1178 هـ
كما نفى الكثيرين من أتباعه.
اتجه علي بك الكبير بعد ذلك إلى الإيقاع بين
حسين بك كشكش و صالح بك القاسمي بتعيين حسين بك حاكماً لجرجا
ثم أصدر أمراً بنفي صالح بك إلى رشيد ثم إلى دمياط وصالح بك هذا من اقرب المماليك الي شيخ العرب همام وكانت تربطه به صداقة قوية جداً
و لكن صالح بك لم يستسلم بل فر إلى المنيا أي إلى الصعيد
موطن صديقه وحليفه شيخ العرب همام شيخ العرب
وجمع حوله المنفيين من المماليك.
وقد اهتم شيخ العرب همام بمساندة صديقه صالح بك
ومساعدته مساعدة فعالة عملاً بما تقتضيه واجبات الصداقة من جهة
و إدراكاً لسوء نوايا علي بك من جهة أخرى
فلا شك أن مساعدة شيخ العرب همام لصالح بك كانت تحمل في ثناياها إدراكاً من همام لنزعة علي بك
و ميله للقضاء على كل ذوي السلطان و النفوذ الذين يخشى منهم
على نفوذه و سيادته
و من هولاء صالح بك الذي كان يستمد قوته من صداقته و ارتباطه بشيخ العرب همام و قد امد شيخ العرب همام صديقه صالح بك
بكل ما يحتاج إليه من ذخيرة و مؤن و رجال لمقاومة الحملة
التي و جهها إليه علي بك بقيادة حسين بك كشك.
من قطع الاتصال بين الصعيد و القاهرة و منع إرسال الغلال
و الأموال الأميرية.
و قد كان شيخ العرب همام يقف بكل قوته وراء صالح بك
و بحسن سياسة شيخ العرب همام و بعد نظره فشلت حملة علي بك
ضد صالح بك كما أن شيخ العرب همام بمساندته القوية لصالح بك
نبهه إلى حقيقة نوايا علي بك ضده
وأهدافه من إرسال الحملة إليه بقيادة زميله حسين بك
بهدف إيقاع الشقاق بينهماو فعلاً حدث عكس ما توقعه علي بك
الذي سرعان ما أصدر أمراً بنفي حسين بك والذي لم يمتثل للأمر وأسرع بدخول القاهرة عنوة
فحاول علي بك دس السُم له لكن حسين بك اكتشف الخديعة
فاضطر علي بك إلى الهرب إلى الشام و ذلك في عام 1765 م / 1179 هـ
وسيطر حسين بك على القاهرة
واستعاد صالح بك ولاية جرجا.
يتبع
لم يلبث علي بك الكبيرأن عاد من الشام
و دخل القاهرة مُظهراً الندم و التوبة فانخدع زملاؤه بمظهره
و أعطوه حكم نوسا الغيط لإبعاده عن القاهرة
و لكنه ما إن وصل إلى هناك حتى دبر مؤامرة للقضاء على زملائه
الذين اكتشفوا هذه المؤامرة و قرروا نفيه هذه المرة إلى أسيوط التي كانت جزءاً من ولاية جرجا
و يحكمها خصمه صالح بك القاسمي .
وهكذا وجد علي بك نفسه مضطراً للجوء إلى أقوى منافسيه و هو صالح بك
للاستعانة به في محاولة العودة إلى القاهرة
والقضاء على منافسيه بها و قد كانت أهمية صالح بك في هذا الوقت تأتي
من محالفته ومصادقته لشيخ مصر العليا
وسيدها المطاع شيخ العرب همام
الذي كان له النفوذ الفعلي في الصعيد فقد كان يسيطر على معظم أراضي الصعيد من المنيا إلى أسوان
و يملك ثروة هائلة و قوة عسكرية ضخمة وأسلحة و ذخيرة هائلة.
و قدر علي بك بثاقب بصره أن في تحالفه مع صالح بك ما يضمن له
الحصول على قدر هائل من القوة
التي يتمتع بها شيخ العرب همام والتي كان لا يضن بتقديم الكثير منها
لصديقه صالح بك لكن صالح بك رفض كل محاولات علي بك
للصلح معه متأثراً بما كان من سوء العلاقات بينهما
و محاولات علي بك ابعاده الدائم عن القاهرة
تارة بنفيه إلى رشيدوتارة أخرى إلى دمياط .
و لجأ علي بك إلى الاتصال مباشرةً
بشيخ العرب همام عله يُقنع صديقه وحليفه صالح بك بالتحالف معه وأرسل إليه رسلاً بذلك
واستخدم الرسل في ذلك كل سبل الخديعة و القول المعسول
والوعود البراقة ملوحين لشيخ العرب همام بعزم علي بك
تأييد سلطته و نفوذه في الصعيد
لوتم له النصر كذلك تثبيت مركز صالح بك
كحاكم لولاية جرجا في ظل سيطرة شيخ العرب همام و استمروا في ذلك
حتى قبل شيخ العرب همام
أن يتم الاتفاق بينه و بين صالح بك من جهة
و بين علي بك من جهة أخرى .
ويبدو أن شيخ العرب همام لم يقبل مساعدة علي بك
إلا لأنه أدرك خفايا شخصية علي بك
وأنه يملك من العزيمة ما سيمكنه من هزيمة زملاؤه
واحراز السيطرة على مصر كلها
و رأى شيخ العرب همام في مساعدة علي بك
ما قد يعود عليه و على صديقه صالح بك بالنفع
لو تم النصر لعلي بك و فاز بالسيادة ثانيةً .
وفعلاً تم الاتفاق بينهم وتحالفا وتعاقدا وتعاهدا علي الكتاب والسيف وكتبوا بذالك حجة واتفقوا مع علي بك انه اذا تم له الامر اعطي لصالح بك جهة قبلي قيد حياته وقبل صالح بك الانضمام إلى صفوف علي بك
الذي سُر كثيراً بهذا الاتفاق الذي سيكفل له
الحصول على أكبر قدر من الأموال و الرجال و العتاد
من شيخ العرب همام .
و قد وعدهم علي بك
بأنه إذا ما تم له النصر
ثبت صالح بك في حكم ولاية جرجا مدى الحياة
أي ثبت نفوذ شيخ العرب همام و سلطته في الصعيد مدى الحياة أيضاً
فصالح بك كان الحاكم لجرجا شكلاً
و لكن النفوذ الحقيقي بها كان لشيخ العرب همام و بمساعدة صالح بك و بمعاونة شيخ العرب همام
تقدم علي بك في طريقه إلى القاهرة بجيش جرار
حيث التقى بمنافسيه شمالي بني سويف
في عام 1767 م / 1181 هـ
حيث دارت المعركة الفاصلة التي انتصر فيها
علي بك نصراً تاماً
و دخل القاهرة حيث ثبُتت أقدامه هذه المرة في إمارة مصر
و بدأ في تنفيذ سياسته التي كانت ترمي إلى قتل المتمردين و قطع المعاندين
و قد بدأ هذه السياسة بالقضاء على حسين بك كشكش
و زميله خليل بك عام 1768 م / 1182 هـ
ضد منافسيه و الذي كانت له بمساعدة
صديقه شيخ العرب همام اليد الطولى في حصول علي بك على
نصره المؤزر على زملائه حيث قام علي بك بالغدر بصالح بك
بأن أغرى بعض أتباعه فاغتالوه ليلا أثناء سيرهم معه بعد خروجهم من اجتماع ضمهم وعلي بك في منزله
و ذلك في نهاية عام 1768 م / 1182 هـ
و بذلك تخلص علي بك من آخر وأقوى الأمراء المماليك
الذي كان يمكن أن ينافسه على مشيخة البلد ولعل أهم الأسباب التي جعلت علي بك
يُعجل من التخلص من صالح بك خوفه من خطورة صالح بك
لاستناده إلى حليفه القوي المسيطر على الصعيد
شيخ العرب همام .
وتحالفه مع روسيا والبندقية
بعد أن استقرت الأمور لعلي بك
تطلعت نفسه للانفراد بشئون الحكم في مصر كلها والتي هي في اصل تابعة للخلافة العثمانية وكان عليه أن يقضي على ما بقي من قوة الحامية العثمانية في مصر
فهي و إن كانت ضعُفت و أصبح معظم رجالها من أرباب الحرف
إلا أن الحامية كانت موجودة و حتى يستطيع الانفراد بحكم مصر
فعليه أن يقضي على كل قوتها
وفي سبيل ذلك اتبع سياسة التخلص منها بإهلاك رجالها في الحروب الداخلية
ومنع العناصر غير المرغوب فيها من ضباطها من التزام الأراضي
ومصادرة أموال البارزين من قادتها أو إعدامهم .
فردت جمهورية البندقية شاكرة ومعتذرة .!!
وقام بهذه الرسالة يعقوب الارمني أحد معاوني علي بك الكبير ….
صورة للقاهرة القديمة
وقضى على المتمردين و المنافسين له من البكوات المماليك
وبعد أن شل نفوذ الحامية العثمانية بمساعدة حلفاءه الروس
وركز السلطتين الإدارية و الحربية في يده
أصبح في مركز يسمح له بالقضاء على آخر القوى الخطيرة
التي يمكن أن تهدد سلطانه و نفوذه و هي
القبائل العربية المنتشرة في الوجهين القبلي و البحري و قد أظهر علي بك أن بمحاولته القضاء على سلطة تلك القبائل إنما يهدف إلى إقرار الأمن الداخلي .
لكن الحقيقة كانت خلاف ذلك فقد كان علي بك يهدف من
تحطيم سلطة القبائل العربية في مصر
إلى دعم مركزه وفرض سيطرته الخالصة على مصر كلها .
وبعد أن تخلص علي بك من أخطر عرب الوجه البحري اتجه للقضاء على عرب الهوارة بالصعيد
واستخلاص الصعيد من أعظم مشايخ العرب
قدرا و نفوذا و أتباعا
وهو
شيخ العرب همام بن يوسف الهواري.
يتبع
سارع علي بك ببدء النزال
ضد شيخ العرب همام عقب التخلص من صالح بك القاسمي
فوجه على شيخ العرب همام حملة بقيادة محمد بك أبي الذهب
سارت إلى الصعيد في عام 1768 م / 1182 هـ
لفرض شروط علي بك على شيخ العرب همام
و هي الشروط التي كانت تقضي بأن يقصر شيخ العرب همام
منطقة نفوذه و سيطرته على أراضي الصعيد ابتداءاً من برديس
أي أن يقصر شيخ العرب همام نفوذه في المنطقة التي يتركز فيها الهوارة
في قنا وأسوان فقط وليس على الصعيد كله وقد كان علي بك وقتها
في مركز يسمح له بتحدي شيخ الصعيد
وإملاء أوامره عليه فقد أصبح علي بك
شيخاً للبلد و سيد مصر الفعلي
وكانت الدلائل كلها تشير إلى أنه سيكون
الحاكم المطلق لمصر كلها لذا آثر شيخ العرب همام الخروج من الجولة الأولى
بدون اشتباك كان يُدرك مقدماً أنه سيخسره
وقبل شيخ العرب همام شروط علي بك بتحديد منطقة نفوذه إبتداءً من برديس
و ترك الأراضي الواقعة شمالها إلى المنيا
و التي كانت من قبل تحت سيطرة شيخ العرب همام
لعلي بك يتصرف فيها كما يشاء و لا شك أن شيخ العرب همام قبل هذه الشروط بدون مقاومة وانسحب مؤقتاً حتى يجد له منفذ آخرلكن كلا الطرفين لم يكن ينوي حقيقةً تنفيذ هذا الاتفاق فقد بقيت تلك الأراضي في التزامات شيخ العرب همام
و كان قبول شيخ العرب همام للاتفاق ما هو إلا تقديراً منه
لخطورة الموقف فقط و قوة الخصم الذي يقف أمامه
فآثر الانسحاب ريثما يعيد النظر في موقفه ولكي يُغري همام محمد بك أبو الذهب بالعودة
ربما ليستميله و يجعله يُثني علي بك عن نية القضاء عليه
تنازل له عن التزام ناحية برديس
هدية من شيخ العرب همام لمحمد بك أبو الذهب دون أن يقبض ثمناً لهذا التنازل بمناسبة
مولود وُلِد لمحمد بك و قد كانت تلك هي الجولة الأولى
بين شيخ العرب همام و علي بك والجولة التي أكدت لشيخ العرب همام أن علي بك
قد عقد العزم تماماً على القضاء عليه وعلى سيطرته الواسعة
على الصعيد .
لم ينخدع علي بك بالانسحاب الهادئ
الذي قدمه شيخ العرب همام بتنازله الظاهري عن أراضيه
كما لم ينسَ علي بك أيضاًالشكوك التي ما زالت تؤرقه من ناحية شيخ العرب همام
و ما يربط شيخ العرب همام من صلات الود بالدولة العثمانية نفسها
التي سمحت له بمد نفوذه على الصعيد
من المنيا إلى أسوان بإذنها واستأنف علي بك الصراع
حتى لا يترك لشيخ العرب همام أي فرصة للتفكير أو العمل
فأرسل إليه يطلب منه طرد الأمراء المماليك المعادين له و المقيمين بأراضيه
عربوناً لإقراره لشروط الاتفاق
التي جرت بينه وبين محمد بك أو الذهب و هنا تأكد شيخ العرب همام بما لا يدع مجال للشك من رغبة علي بك في القضاء عليه
وأنه لن يتركه يهنأ بما كان له من سيطرة و نفوذ في الصعيد
لذا قررشيخ العرب همام في هذه المرة أن يقوم بعمل إيجابي
لمقاومة محاولة علي بك للقضاء عليه لكنه لم يُعلن عداءه صراحةً لعلي بك
ولم يقاومه وجهاً لوجه
لجأ شيخ العرب همام إلى الأمراء المماليك خصوم علي بك
و الموجودين في أراضيه ومعظمهم من اتباع صالح بك الذي قتله علي بك غدراً وكانوا يمثلون عدداً كبيراً من الأمراء و الأتباع
فجمعهم شيخ العرب همام واتفق معهم على أن يتقدموا للاستيلاء على أسيوط
وانتزاعها من أتباع علي بك تمهيداً لتقدمهم إلى القاهرة لإجلاء علي بك عنها
والقضاء على حكمه لمصر
واسترجاع ما كان لهم من نفوذ و سطوة على أن تبقى له سيطرته على الصعيد
وفعلاً وافقه الأمراء على ذلك
فأمدهم شيخ العرب همام بالرجال من كبار الهوارة ومن أهالي الصعيد فتَكون لهم جيش كبير
قدم له شيخ العرب همام كل ما يحتاج إليه من أموال و ذخائر و مؤن .
تقدم الأمراء حلفاء شيخ العرب همام بالجيش باتجاه أسيوط
و بالفعل تمكنوا من الاستيلاء عليها ووصل الخبر إلى علي بك
الذي كان قد أرسل حاكماً جديداً لجرجا وهو أيوب بك وأمره بالتوجه إلى جرجا لتولي منصبه وبالفعل خرج أيوب بك باتجاه جرجا
ومعه عدد كبير من الجند والأتباع ولكنه وجد الصعيد في قبضة شيخ العرب همام وحلفاءه
ووجد أن سلطان علي بك على مصر مهدد بالخطر
من شيخ العرب همام وحلفائه فأرسل يطلب مدداً من علي بك لمواجهة الموقف و قد أدرك علي بك أهمية المعركة القادمة
وأنه لتثبيت سيادته على مصر لابد و أن ينتصر في هذه المعركة
و لابد أن يقضي نهائياً على شيخ العرب همام
الذي أصبح مصدراً للخطر الدائم الذي يهدد نفوذه و بقائه في الحكم لذا جهز علي بك و بسرعة فائقة
جيشاً ضخماً حشد فيه إلى جانب جنده من المماليك
مجموعة كبيرة من رجال الفرق العسكرية كلهاوعلى رأسهم اثنان من بكواته الذين يثق بهم
وهما خليل بك القاسمي وابراهيم بك و أرسل هذا الجيش بسرعة
للانضمام إلى جيش أيوب بك حاكم جرجا لمحاربة شيخ العرب همام وحلفائه.
فلم يكتف بما أرسله بل لجأ الي حلفاءه الروس وامدوه باسلحة جديدة ومدافع
وأرسل حملة ضخمة بقيادة قائده محمد بك أبي الذهب
ومعه رضوان بك ومجموعة من الأمراء أتباع علي بك
وضمت هذه الحملة أعداد ضخمة من المماليك و المرتزقة وانضم الجميع إلى جيش أيوب بك الذي كان قد عسكرخارج أسيوط
التي كانت ما تزال في أيدي حلفاء شيخ العرب همام .
وخطورة هذه المعركة استمر في ارسال الامدادات و الذخائر المتوالية
إلى رجاله الذين أصبحوا يكونون جيشاً ضخماً
يتكون من ثلاثة جيوش
هي جيش أيوب بك
و جيش خليل بك
و جيش محمد بك أبو الذهب الذي تزعم الجميع و أمام أسيوط دارت المعركة الحاسمة
التي كُتِبَ النصر فيها لقوات علي بك
بعد قتال عنيف قُتِلَ فيه الكثيرون من أعداء علي بك
من أمراء المماليك و فرت فلول المهزومين
إلى فرشوط مقر شيخ العرب همام و قد كان من الطبيعي أن ينتصر رجال علي بك
على حلفاء شيخ العرب همام فقد كان رجاله يمثلون قوة الدولة
و قد هيأ لهم علي بك الوسائل التي تضمن تفوقهم من تزويدهم بالأعداد الهائلة من الرجال و الأموال والمؤن و الأسلحة بينما كانت قوة شيخ العرب همام
التي جردهم منها علي بك
وما قدمه لهم الشيخ همام من رجال لم يكن لهم من المهارة الحربية من التدريب و التسليح
وحسن الاستعداد ما يضمن لهم التغلب
على الجند المماليك و الطوائف العسكرية الأخرى التي كانت تتألف منها قوات علي بك .
يتبع
أمر قائده محمد بك أبي الذهب
بالزحف فوراً إلى فرشوط لمحاربة همام و القضــاء عليه .
و القضــاء عليه و قبل أن يجد شيخ العرب همام مخرجا من هذا الموقف
وقبل أن يتقدم برجاله لمواجهة جيش محمد بك لجأ محمد بك إلى سلاح العصر و هو سلاح الخيانة و الخديعة
فأغرى ابن عم شيخ العرب همام الشيخ اسماعيل أبو عبد الله
بخيانة بن عمه شيخ العرب همام وأخذ يستميله واعداً إياه برئاسة الصعيد
بدلاً من شيخ العرب همام إذا ما تقاعس عن القتال في صفوف شيخ العرب همام
و نشر فكرة التخاذل بين جنده و بهذه الوعود البراقة
استثار محمد بك
جوانب الضعف الإنساني و الأنانية الشخصية التي جعلت الشيخ اسماعيل
ينخدع بحيلة أبي الذهب و يخون ابن عمه شيخ العرب همام
و يتراجع عن القتال معه
بل و يضم إلى صفوفه الكثيرين من رجال شيخ العرب همام و يبدو أن شيخ العرب همام كان يعقد أهمية كبيرة على وجود ابن عمه هذا بين صفوفه لذا قصمت الخيانة ظهره وفتت في عضده إذ أدرك أنه لن يبقى له شئ بعد أن خانته عشيرته
خرج شيخ العرب همام من مقر حكمه فرشوط وإتجه جنوباً إلي إسنا
بعد ان قصمت الخيانة ظهره و فتت في عضده إذ أدرك أنه لن يبقى له شئ بعد أن خانته عشيرته وتخلى عنه أقرب الناس إليه
لهذا أدركه حزن قاتل و اضطر إلى التقهقر و خرج من مسقط رأسه
وموطنه وعاصمة نفوذه و مجده فرشوط ومات
( مكموداً مقهوراً قرب إسنا )
في أول نوفمبر 1769 م / 8 من شعبان 1183 هـ
و كان في نحو الستين من عمره .
ونهب ما بها من أموال شيخ العرب همام
وأخذ ما كان بدياره وديار أقاربه و أتباعه من ذخائر وغلال
ثم رجع إلى القاهرة و بصحبته درويش
أكبر أولاد شيخ العرب همام الذي قدمه الهوارة و أشاروا عليه
بمقابلة محمد بك ففعل .
وقام علي بك الحقير بتوزيع أراضي الصعيد بين الملتزمين
وقد تعرض أبناء الصعيد لأنواع عديدة من المظالم
التي كان يتعرض لها الفلاحون من باقي أنحاء مصر من نهب الأعراب و ظلم الملتزمين و إثقال كاهلهم بالضرائب الجائرة .
انتهت تلك الشخصية الفريدة في عصرها وتقرر النصر النهائي لعلي بك
الذي تخلص من آخر قوة كانت تؤرق مضجعه
وتقف عقبة في سبيل فرض سيادته الخالصة على الصعيد
فغدا علي بك بوفاة شيخ العرب همام
سيد مصر كلها و صاحب النفوذ المطلق فيها .
مدفن شيخ العرب همام
فرشوط قادت عليك نار ** والبيه عندي وجالك
تسعين أوضة وشباك ** في تلا يلك كسروها
لم تفخر الخيل قط براكبها ** ما لم يكن فوق السرج هواري
وفي ذاكرة الامة المصرية …
يتبع