واليهود ككل الأمم القديمة تعظم الأسلاف والماضين والآباء والأجداد ، وترى أن سلوكهم يجب أن يكون سنة ، وليس يجوز للأبناء أن يخالفوا الآباء في شيء ، ولما كان إسرائيل ـ أي يعقوب عليه السلام ـ يحتلُ عندهم منزلةً عالية فقد قلدوه في تحريم الطعام والشراب الذي حرّمه على نفسه . واستمرت أجيال اليهود على هذا حتى بعث الله موسى صلى الله عليه وسلم ، وسكتت التوراة فلم تتعرض لهذا الأمر بشيء ، ثم بُعث عيسى صلى الله عليه وسلم وهو نبيٌ من أنبياء بني إسرائيل ورجلٌ من العبرانيين ، وكان من جوهر رسالة عيسى صلى الله عليه وسلم أن يحلّ لبني إسرائيل بعض الذي حُرّم عليهم ، ولكن اليهود تعنّتوا وما زالوا مصريين على التمسك بتحريم لحوم الإبل وألبانها وبعض المطاعم الأخرى ، حتى بُعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم ، وادعوا أن تحريم هذه الأطعمة والأشربة جاءت في التوراة .
في الحقيقة بين يعقوب وبين موسى صلى الله عليه وسلم مسافةٌ زمنية طويلة ، التوراة لم تنزل إلا بعد إسرائيل بزمنٍ طويل ، واليهود كانوا يمتنعون عن هذه الأطعمة وهذه الأشربة قبل نزول التوراة ، وحين نزلت التوراة لم تصدقهم في نصها على تحريم لحم الإبل ولبن الإبل . ولهذا جاء التحدي من النبي صلى الله عليه وسلم ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) لأن التوراة لا توجد فيها آية واحدة تحرّم شيئاً من هذا ، لكن القوم ـ أي اليهود والنصارى ـ كما ذكرنا مراراً حينما هجروا أحكام الله وعيّنوا على آراء الرجال وأنزلوا آراءهم منزلة الأحكام واجبة الرعاية ، تكونت لديهم من اجتهادات أحبارهم وكهّانهم طائفةٌ ضخمة من الأحكام أضافوها إلى الله تعالى زوراً وبهتاناً ، وكانوا يدّعون أنها من كتاب الله المنزل ، وما هي من الكتاب المنزل . ثم ما زالت طريقتهم تلك بالتشديد على أنفسهم حتى أذن الله جلّ وعلا على ألسنة أنبياء بني إسرائيل بعقوبتهم بالتشديد ، كلما أحدثوا بأنفسهم تحريماً جاء رسولٌ من رسلهم ونبيٌ من أنبيائهم يبلغهم أن الله حرّم عليهم هذا .