أ – صوم المسافر:
المسافر في رَمضان يَجُوزُ له أن يُفطِر، ويَقضِي عددَ الأيَّام التي أفطَرَها، سواء دخَل عليه الشهر وهو في سفره أو سافَر في أثنائه؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة من الآية:185].
وفي الصحيحين عن أنس رضِي الله عنه قال: "كُنَّا نُسافِر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المُفطِر، ولا المُفطِر على الصائم" (أخرجه البخاري برقم [1947] في الصوم، باب: "لم يعب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضًا في الصوم والإفطار"، ومسلم برقم [1118] في الصيام، باب: "الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر" عن أنس بن مالك رضِي الله عنه)، وثبَت في السُّنَن أنَّ من الصحابة مَن كان يُفطِر إذا فارَق عامِرَ قريته، ويذكر أنَّ ذلك سنَّة رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
فللمسافر أن يُفطِر ما دام في سفره ما لم يقصد بسفره التحايُل على الفطر، فإنْ قصَد ذلك فالفطر عليه حرامٌ؛ معاملةً له بنَقِيض قَصدِه، والجمهور على أنَّ الشخص إذا قرَّر الإقامةَ في بلدٍ أكثر من أربعة أيَّام فإنَّه يَصومُ؛ لانقِطاع أحكامِ السفر في حقِّه.
وقال بعضُ أهلِ العلم: الأفضل للمُسافِر فعلُ الأسهل عليه من الصِّيام أو الفطر؛ لما في "صحيح مسلم" عن أبي سعيدٍ الخدري رضِي الله عنه قال: -"كانوا يعني: أصحاب رسول الله-، صلَّى الله عليه وسلَّم يرَوْنَ أنَّ مَن وجَد قدرةً فصام فإنَّ ذلك حسن، ويرَوْنَ أنَّ مَن وجَد ضعفًا فأفطر فإنَّ ذلك حسن" (أخرجه مسلم برقم [1116] – [96] في الصيام، باب: "جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر…").
ولما في "سنن أبي داود" عن حمزة بن عمرٍو الأسلمي رضِي الله عنه أنَّه قال: "يا رسول الله، إنِّي صاحبُ ظهرٍ أُعالِجه، أُسافِر عليه وأَكرِيه، وإنَّه ربما صادَفنِي هذا الشهر -يعني: رَمضان- وأنا أَجِدُ القُوَّة وأنا شابٌّ، فأجد بأنَّ الصوم يا رسول الله أهون عليَّ من أنْ أُؤَخِّره فيكون دَيْنًا عليَّ، أفأَصُوم يا رسول الله أعظم لأجري أم أُفطِر؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أيُّ ذلك شئتَ يا حمزة» (أخرجه أبو داود برقم [2403)، واللفظ له، وأخرجه النسائي برقم [2293-2294]، وأخرجه مسلم برقم [1121] بلفظ مختلف).
فإنْ شقَّ عليه الصوم حَرُم عليه ولزمه الفطرُ؛ لما في الصحيح: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما أفطر في سفره حين شقَّ الصوم على الناس، قِيل له: إنَّ بعض الناس قد صام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أولئك العُصَاة، أولئك العُصَاة» (أخرجه مسلم برقم [1114] – [90-91]، في الصيام، باب: "الصوم والفطر للمسافر" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وأخرجه البخاري بنحوه [1948] في الصوم باب: "مَن أفطر في السفر ليراه الناس"، عن ابن عباس رضي الله عنهما).
ولما في الصحيحين عن جابر رضِي الله عنه: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفرٍ، فرأى زحامًا ورجلاً قد ظُلِّلَ عليه، فقال: «ما هذا؟»، فقالوا: صائمٌ، فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس من البرِّ الصِّيامُ في السفر» (أخرجه البخاري برقم [1946] في الصوم، باب: "قول النبي صلى الله عليه وسلم لِمَن ظُلِّل عليه واشتدَّ عليه الحر: «ليس من البر…»، ومسلم برقم [1115] في الصيام، باب: "الصوم والفطر في رمضان للمسافر").
وأمَّا إذا تَساوَى الصوم والفطر بالنسبة له من حيث المشقَّة وعدمها، فالصوم أَفضَلُ؛ اغتِنامًا لشرف الزمن، ولأنَّ صيامَه مع الناس أَنشَطُ له وأَسرَعُ في براءَة ذمَّته، ولأنَّه فعل النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره.
وذهَب الإمامُ أحمد وجماعةٌ من أهل العلم رحمهم الله إلى أنَّ الفطر للمسافر أفضل، وإن لم يجهده الصوم؛ أخذًا بالرخصة {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة من الآية:185]، وفي الحديث: «إنَّ الله يحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه» (أخرجه أحمد في "المسند" [2/108] عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أحمد شاكر [5866]: إسناده صحيح، وصحَّحه الألباني في "السلسلة الصحيحة" [194])، ولأنَّه آخِر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ولما ثبت أنَّ من الصحابة مَن يُفطِر إذا فارَق عامِرَ قريَتِه، ويذكر أنَّ ذلك سنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
ب- صوم المريض:
المريض الذي دخَل عليه شهر رَمضان وهو مريضٌ، أو مَرِضَ في أثنائه له حالتان:
إحداهما: أن يُرجَى زوال مَرضِه، فهذا إذا خافَ مع الصِّيام زيادةَ مرضه، أو طُولَ مدَّته – جازَ له الفطرُ إجماعًا، وجعله بعض أهل العلم مستحبًّا؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة من الآية:185]، ولما رواه الإمام أحمد وغيرُه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله يحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه كما يَكرَه أن تُؤتَى معصيته» (سبق تخريجه ص [34])، فيُكرَه له الصوم مع المشقَّة؛ لأنه خروجٌ عن رخصة الله، وتعذيبٌ من المرء لنفسه.
أمَّا إن ثبَت أنَّ الصوم يَضُرُّه، فإنَّه يجب عليه الفطرُ، وحرّم عليه الصِّيام؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء من الآية: 29]، ولما ثبت في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ لنَفسِك عليك حقًّا» (جزءٌ من حديثٍ أخرجه البخاري برقم [1974، 1975] في الصوم، باب: "حق الضيف في الصوم"، وباب: "حق الجسم في الصوم". ومسلم برقم [1159] في الصيام، باب: "النهي عن صوم الدهر لِمَن تضرَّر به أو فوَّت به حقًّا…" عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما)، فمِن حقِّها ألاَّ تضرَّها مع وجود رخصةِ الله تعالى وإذا أفطَرَ لمرضه الذي يُرجَى زوالُه، قضَى بعدد الأيَّام التي أفطَرَها ولا كفَّارة عليه.
الثانية: أن يكون المرض لا يُرجَى زوالُه؛ كالسُّلِّ والسرطان والسكر وغيرها من الأمراض -نَعوذُ بالله من عُضال الداء وشرِّ الأسقام- فإذا كان الصوم يشقُّ عليه فإنَّه لا يجب عليه؛ لأنَّه لا يستطيعه، وقد قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا} [البقرة من الآية:286]، بل يُفطِر ويُطعِم عن كلِّ يومٍ مسكينا ولا قَضاءَ عليه؛ لأنَّه ليس له حالٌ يَصِير إليها يتمكَّن فيها من القَضاء، وفي هذا وأمثاله يقول تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة من الآية:184]، قال ابن عباس رضِي الله عنْهما في هذه الآية: "ليست بمنسوخة، هي للكبير الذي لا يستَطِيع الصومَ" (انظر: البخاري برقم [4505] في تفسير القرآن، باب: [25]؛ رواه البخاري).
والمريض الذي لا يُرجَى برؤه في حُكْمِ الكبير، وهذا مذهبُ الجمهور؛ قال ابن القيِّم رحمه الله: ولا يُصارُ إلى الفدية إلا عند اليأس من القضاء.
ج – صوم الكبير:
الكبير الذي لا يستَطِيع الصوم، أو لا يستطيع إتمامَ كلِّ يومٍ لهرمه وضعفه، ولكن معه عقله وتمييزه، ولكن يشقُّ عليه الصِّيام – فهذا أفتى ابن عباس وغيرُه من الصحابة رضِي الله عنْهم أنَّه يُفطِر ويُطعِم عن كلِّ يوم مسكينًا، ولا قضاء عليه؛ إقامةً للإطعام مقام الصِّيام؛ رحمةً من الله وتخفيفًا.
قال ابن عباس رضِي الله عنْهما في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة من الآية:184]: "نزَلَتْ في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يُطِيقان الصِّيام، أن يُفطِرَا ويُطعِما مكانَ كلِّ يومٍ مسكينًا" (أخرجه البخاري برقم [4505] في التفسير، باب [25]، بلفظ: "ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما فليُطعِمان مكانَ كلِّ يومٍ مسكينًا"، وأخرجه أبو داود برقم [2318] بلفظ: "كانت رخصةً للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يُطِيقان الصيام أن يُفطِرَا ويُطعِما مكانَ كُلِّ يومٍ مسكينًا، والحبلى والمرضع إذا خافتا -قال أبو داود: يعني: على أولادهما- أفطرتا وأطعمتا"؛ صحَّحه الألباني في "الإرواء" [4/ 18-25])؛ أي: ولا قضاء عليهما، وثبت في الصحيح أنَّ أنس بن مالك رضِي الله عنْه لما كبر وضعف عن الصِّيام أفطر وأطعم ثلاثين مسكينًا (أخرجه البخاري تعليقًا في التفسير، باب: [25]، عند تفسير قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}[البقرة من الآية:184]).
قال الحافظ في "الفتح" [8/65]: وروى عبدُ بن حميدٍ من طريق النضر بن أنس عن أنس رضِي الله عنه أنَّه أفطر في رمضان وكان قد كبر، فأطعم مسكينًا كلَّ يومٍ، ورُويناه في فوائد محمد بن هشام بن هلاس عن مروان عن معاوية عن حميد قال: ضَعُفَ أنسٌ عن الصوم عام تُوُفِّي فسألت ابنه عمر بن أنس: أطاق الصوم؟ قال: لا، فلمَّا عرف أنَّه لا يُطِيق القضاء، أمَر بجفانٍ من خبزٍ ولحم فأطعم العدَّة أو أكثر، ا.هـ).
أمَّا إذا كان الكبير قد فقَد التمييز، وحصَل منه التخريف والهذيان، فهذا لا يجب عليه صيامٌ ولا إطعامٌ؛ لسقوط التكليف عنه بزَوال تَمييزه وتَخرِيفه، فأشبَهَ الصبيَّ قبلَ التمييز، فإنَّ التكليف مُرتَبِطٌ بالعقل، فإذا أخَذ ما وهَب سقَط ما وجَب.
وأمَّا إذا كان يُمَيِّز أحيانًا ويخرِّف أحيانًا، فإنَّه يجب عليه الصوم أو الإطعام في حالة تمييزه دون حال تخريفه، والصلاة أيضًا كذلك.
د – صوم المرأة:
الحيض من عَلامات البُلُوغ للنساء، فمتى ما رَأتِ الفتاةُ الدمَ على وجهٍ مُعتادٍ ولو كانت سنُّها دون الخامسة عشرة، بل ولو كانت دون عشر سنين – فهو حيضٌ تُصبِح به الفتاة بالغةً، فهي امرأةٌ مكلَّفة يجب عليها الصِّيام، كما تَجِبُ عليها الصلاة وغيرُها من الأحكام، التي يُشتَرَط لها البلوغ، قالت عائشة رضِي الله عنْها: "إذا حاضَتِ الجارِيَة فهي امرأةٌ".
لكن يحرم على المرأة الصِّيام مُدَّةَ الحيضِ، ولا يصحُّ منها حتى تَطهُر كالصلاة؛ قال صلى الله عليه وسلم في النساء: «أليس إذا حاضَتْ لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ» الحديث (أخرجه البخاري برقم [304] في الحيض، باب: "ترك الحائض الصوم" عن أبي سعيد الخدري رضِي الله عنه وأخرَجَه مسلم برقم [79] في الإيمان، باب: "بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات…"، بلفظ: وتمكث الليالي ما تصلي، وتُفطِر رمضان، فهذا نقصان الدين، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما).
فيجب على المرأة أن تُفطِر مُدَّةَ الحيض، فإذا طهرت قَضَتْ بعدد الأيام التي أفطرتها؛ لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة من الآية:184]، وسُئِلت عائشة رضِي الله عنْها: "ما بال الحائض تَقضِي الصوم ولا تَقضِي الصلاة؟ قالت: كان يُصِيبُنا ذلك -تعني: الحيض- فنُؤمَر بقَضاء الصوم ولا نُؤمَر بقَضاء الصلاة" (أخرجه البخاري برقم [321] في الحيض، باب: لا تقضي الحائض الصلاة، بلفظ مختلف، ومسلم برقم [335] – [69] في الحيض، باب: "وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة"، واللفظ له).
وإذا حدَث للمرأة الحيضُ أثناءَ النهار، ولو قبل غروب الشمس بوقت يسير، وهي صائمة صومًا واجبًا – بطل صيامها ذلك اليوم؛ أي: لا تعتدُّ به وأجرُها على الله، ولزمها قَضاؤُه بعد طهرها.
وإذا طهرت المرأة من الحيض قبل طلوع الفجر ولو بيسيرٍ، من أيام رَمضان، وجَب عليها الصِّيامُ، ولا بأس بتَأخِير الاغتِسال إلى ما بعد طلوع الفجر، حتى تَتمَكَّن من السحور، والنُّفَساء كالحائض في جميع ما تقدَّم من أحكام.
وإذا كانت المرأة حاملاً أو مُرضِعًا، وخافَتْ على نفسها الضَّرَرَ من الصِّيام، فإنها تُفطِر وتقضي ما أفطرته من أيامٍ أُخَر.
أمَّا إذا كان فطر المرأة الحامل أو المُرضِع خوفًا على ولدها لا على نفسها، فالجمهور على أنها تُطعِم مع القضاء عن كلِّ يوم مسكينًا؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في الحامل والمرضع تخاف على ولدها الضرر مع الصِّيام: تُفطِر وتَقضِي عن كلِّ يوم يومًا، وتُطعِم عن كلِّ يوم مسكينًا، وذهَب جماعةٌ من أهل العلم أنَّ عليها الصِّيام؛ أي: القضاء فقط دون الكفَّارة، كالمسافر والمريض الذي يُرجَى برؤه، ولعلَّ هذا هو الراجح، ولا يتَّسِع المقام لبسط أدلَّة ذلك
، وهو رأي سماحة والدنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
المسافر في رَمضان يَجُوزُ له أن يُفطِر، ويَقضِي عددَ الأيَّام التي أفطَرَها، سواء دخَل عليه الشهر وهو في سفره أو سافَر في أثنائه؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة من الآية:185].
وفي الصحيحين عن أنس رضِي الله عنه قال: "كُنَّا نُسافِر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المُفطِر، ولا المُفطِر على الصائم" (أخرجه البخاري برقم [1947] في الصوم، باب: "لم يعب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضًا في الصوم والإفطار"، ومسلم برقم [1118] في الصيام، باب: "الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر" عن أنس بن مالك رضِي الله عنه)، وثبَت في السُّنَن أنَّ من الصحابة مَن كان يُفطِر إذا فارَق عامِرَ قريته، ويذكر أنَّ ذلك سنَّة رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
فللمسافر أن يُفطِر ما دام في سفره ما لم يقصد بسفره التحايُل على الفطر، فإنْ قصَد ذلك فالفطر عليه حرامٌ؛ معاملةً له بنَقِيض قَصدِه، والجمهور على أنَّ الشخص إذا قرَّر الإقامةَ في بلدٍ أكثر من أربعة أيَّام فإنَّه يَصومُ؛ لانقِطاع أحكامِ السفر في حقِّه.
وقال بعضُ أهلِ العلم: الأفضل للمُسافِر فعلُ الأسهل عليه من الصِّيام أو الفطر؛ لما في "صحيح مسلم" عن أبي سعيدٍ الخدري رضِي الله عنه قال: -"كانوا يعني: أصحاب رسول الله-، صلَّى الله عليه وسلَّم يرَوْنَ أنَّ مَن وجَد قدرةً فصام فإنَّ ذلك حسن، ويرَوْنَ أنَّ مَن وجَد ضعفًا فأفطر فإنَّ ذلك حسن" (أخرجه مسلم برقم [1116] – [96] في الصيام، باب: "جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر…").
ولما في "سنن أبي داود" عن حمزة بن عمرٍو الأسلمي رضِي الله عنه أنَّه قال: "يا رسول الله، إنِّي صاحبُ ظهرٍ أُعالِجه، أُسافِر عليه وأَكرِيه، وإنَّه ربما صادَفنِي هذا الشهر -يعني: رَمضان- وأنا أَجِدُ القُوَّة وأنا شابٌّ، فأجد بأنَّ الصوم يا رسول الله أهون عليَّ من أنْ أُؤَخِّره فيكون دَيْنًا عليَّ، أفأَصُوم يا رسول الله أعظم لأجري أم أُفطِر؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أيُّ ذلك شئتَ يا حمزة» (أخرجه أبو داود برقم [2403)، واللفظ له، وأخرجه النسائي برقم [2293-2294]، وأخرجه مسلم برقم [1121] بلفظ مختلف).
فإنْ شقَّ عليه الصوم حَرُم عليه ولزمه الفطرُ؛ لما في الصحيح: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما أفطر في سفره حين شقَّ الصوم على الناس، قِيل له: إنَّ بعض الناس قد صام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أولئك العُصَاة، أولئك العُصَاة» (أخرجه مسلم برقم [1114] – [90-91]، في الصيام، باب: "الصوم والفطر للمسافر" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وأخرجه البخاري بنحوه [1948] في الصوم باب: "مَن أفطر في السفر ليراه الناس"، عن ابن عباس رضي الله عنهما).
ولما في الصحيحين عن جابر رضِي الله عنه: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفرٍ، فرأى زحامًا ورجلاً قد ظُلِّلَ عليه، فقال: «ما هذا؟»، فقالوا: صائمٌ، فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس من البرِّ الصِّيامُ في السفر» (أخرجه البخاري برقم [1946] في الصوم، باب: "قول النبي صلى الله عليه وسلم لِمَن ظُلِّل عليه واشتدَّ عليه الحر: «ليس من البر…»، ومسلم برقم [1115] في الصيام، باب: "الصوم والفطر في رمضان للمسافر").
وأمَّا إذا تَساوَى الصوم والفطر بالنسبة له من حيث المشقَّة وعدمها، فالصوم أَفضَلُ؛ اغتِنامًا لشرف الزمن، ولأنَّ صيامَه مع الناس أَنشَطُ له وأَسرَعُ في براءَة ذمَّته، ولأنَّه فعل النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره.
وذهَب الإمامُ أحمد وجماعةٌ من أهل العلم رحمهم الله إلى أنَّ الفطر للمسافر أفضل، وإن لم يجهده الصوم؛ أخذًا بالرخصة {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة من الآية:185]، وفي الحديث: «إنَّ الله يحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه» (أخرجه أحمد في "المسند" [2/108] عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أحمد شاكر [5866]: إسناده صحيح، وصحَّحه الألباني في "السلسلة الصحيحة" [194])، ولأنَّه آخِر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ولما ثبت أنَّ من الصحابة مَن يُفطِر إذا فارَق عامِرَ قريَتِه، ويذكر أنَّ ذلك سنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
ب- صوم المريض:
المريض الذي دخَل عليه شهر رَمضان وهو مريضٌ، أو مَرِضَ في أثنائه له حالتان:
إحداهما: أن يُرجَى زوال مَرضِه، فهذا إذا خافَ مع الصِّيام زيادةَ مرضه، أو طُولَ مدَّته – جازَ له الفطرُ إجماعًا، وجعله بعض أهل العلم مستحبًّا؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة من الآية:185]، ولما رواه الإمام أحمد وغيرُه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله يحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه كما يَكرَه أن تُؤتَى معصيته» (سبق تخريجه ص [34])، فيُكرَه له الصوم مع المشقَّة؛ لأنه خروجٌ عن رخصة الله، وتعذيبٌ من المرء لنفسه.
أمَّا إن ثبَت أنَّ الصوم يَضُرُّه، فإنَّه يجب عليه الفطرُ، وحرّم عليه الصِّيام؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء من الآية: 29]، ولما ثبت في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ لنَفسِك عليك حقًّا» (جزءٌ من حديثٍ أخرجه البخاري برقم [1974، 1975] في الصوم، باب: "حق الضيف في الصوم"، وباب: "حق الجسم في الصوم". ومسلم برقم [1159] في الصيام، باب: "النهي عن صوم الدهر لِمَن تضرَّر به أو فوَّت به حقًّا…" عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما)، فمِن حقِّها ألاَّ تضرَّها مع وجود رخصةِ الله تعالى وإذا أفطَرَ لمرضه الذي يُرجَى زوالُه، قضَى بعدد الأيَّام التي أفطَرَها ولا كفَّارة عليه.
الثانية: أن يكون المرض لا يُرجَى زوالُه؛ كالسُّلِّ والسرطان والسكر وغيرها من الأمراض -نَعوذُ بالله من عُضال الداء وشرِّ الأسقام- فإذا كان الصوم يشقُّ عليه فإنَّه لا يجب عليه؛ لأنَّه لا يستطيعه، وقد قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا} [البقرة من الآية:286]، بل يُفطِر ويُطعِم عن كلِّ يومٍ مسكينا ولا قَضاءَ عليه؛ لأنَّه ليس له حالٌ يَصِير إليها يتمكَّن فيها من القَضاء، وفي هذا وأمثاله يقول تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة من الآية:184]، قال ابن عباس رضِي الله عنْهما في هذه الآية: "ليست بمنسوخة، هي للكبير الذي لا يستَطِيع الصومَ" (انظر: البخاري برقم [4505] في تفسير القرآن، باب: [25]؛ رواه البخاري).
والمريض الذي لا يُرجَى برؤه في حُكْمِ الكبير، وهذا مذهبُ الجمهور؛ قال ابن القيِّم رحمه الله: ولا يُصارُ إلى الفدية إلا عند اليأس من القضاء.
ج – صوم الكبير:
الكبير الذي لا يستَطِيع الصوم، أو لا يستطيع إتمامَ كلِّ يومٍ لهرمه وضعفه، ولكن معه عقله وتمييزه، ولكن يشقُّ عليه الصِّيام – فهذا أفتى ابن عباس وغيرُه من الصحابة رضِي الله عنْهم أنَّه يُفطِر ويُطعِم عن كلِّ يوم مسكينًا، ولا قضاء عليه؛ إقامةً للإطعام مقام الصِّيام؛ رحمةً من الله وتخفيفًا.
قال ابن عباس رضِي الله عنْهما في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة من الآية:184]: "نزَلَتْ في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يُطِيقان الصِّيام، أن يُفطِرَا ويُطعِما مكانَ كلِّ يومٍ مسكينًا" (أخرجه البخاري برقم [4505] في التفسير، باب [25]، بلفظ: "ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما فليُطعِمان مكانَ كلِّ يومٍ مسكينًا"، وأخرجه أبو داود برقم [2318] بلفظ: "كانت رخصةً للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يُطِيقان الصيام أن يُفطِرَا ويُطعِما مكانَ كُلِّ يومٍ مسكينًا، والحبلى والمرضع إذا خافتا -قال أبو داود: يعني: على أولادهما- أفطرتا وأطعمتا"؛ صحَّحه الألباني في "الإرواء" [4/ 18-25])؛ أي: ولا قضاء عليهما، وثبت في الصحيح أنَّ أنس بن مالك رضِي الله عنْه لما كبر وضعف عن الصِّيام أفطر وأطعم ثلاثين مسكينًا (أخرجه البخاري تعليقًا في التفسير، باب: [25]، عند تفسير قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}[البقرة من الآية:184]).
قال الحافظ في "الفتح" [8/65]: وروى عبدُ بن حميدٍ من طريق النضر بن أنس عن أنس رضِي الله عنه أنَّه أفطر في رمضان وكان قد كبر، فأطعم مسكينًا كلَّ يومٍ، ورُويناه في فوائد محمد بن هشام بن هلاس عن مروان عن معاوية عن حميد قال: ضَعُفَ أنسٌ عن الصوم عام تُوُفِّي فسألت ابنه عمر بن أنس: أطاق الصوم؟ قال: لا، فلمَّا عرف أنَّه لا يُطِيق القضاء، أمَر بجفانٍ من خبزٍ ولحم فأطعم العدَّة أو أكثر، ا.هـ).
أمَّا إذا كان الكبير قد فقَد التمييز، وحصَل منه التخريف والهذيان، فهذا لا يجب عليه صيامٌ ولا إطعامٌ؛ لسقوط التكليف عنه بزَوال تَمييزه وتَخرِيفه، فأشبَهَ الصبيَّ قبلَ التمييز، فإنَّ التكليف مُرتَبِطٌ بالعقل، فإذا أخَذ ما وهَب سقَط ما وجَب.
وأمَّا إذا كان يُمَيِّز أحيانًا ويخرِّف أحيانًا، فإنَّه يجب عليه الصوم أو الإطعام في حالة تمييزه دون حال تخريفه، والصلاة أيضًا كذلك.
د – صوم المرأة:
الحيض من عَلامات البُلُوغ للنساء، فمتى ما رَأتِ الفتاةُ الدمَ على وجهٍ مُعتادٍ ولو كانت سنُّها دون الخامسة عشرة، بل ولو كانت دون عشر سنين – فهو حيضٌ تُصبِح به الفتاة بالغةً، فهي امرأةٌ مكلَّفة يجب عليها الصِّيام، كما تَجِبُ عليها الصلاة وغيرُها من الأحكام، التي يُشتَرَط لها البلوغ، قالت عائشة رضِي الله عنْها: "إذا حاضَتِ الجارِيَة فهي امرأةٌ".
لكن يحرم على المرأة الصِّيام مُدَّةَ الحيضِ، ولا يصحُّ منها حتى تَطهُر كالصلاة؛ قال صلى الله عليه وسلم في النساء: «أليس إذا حاضَتْ لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ» الحديث (أخرجه البخاري برقم [304] في الحيض، باب: "ترك الحائض الصوم" عن أبي سعيد الخدري رضِي الله عنه وأخرَجَه مسلم برقم [79] في الإيمان، باب: "بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات…"، بلفظ: وتمكث الليالي ما تصلي، وتُفطِر رمضان، فهذا نقصان الدين، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما).
فيجب على المرأة أن تُفطِر مُدَّةَ الحيض، فإذا طهرت قَضَتْ بعدد الأيام التي أفطرتها؛ لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة من الآية:184]، وسُئِلت عائشة رضِي الله عنْها: "ما بال الحائض تَقضِي الصوم ولا تَقضِي الصلاة؟ قالت: كان يُصِيبُنا ذلك -تعني: الحيض- فنُؤمَر بقَضاء الصوم ولا نُؤمَر بقَضاء الصلاة" (أخرجه البخاري برقم [321] في الحيض، باب: لا تقضي الحائض الصلاة، بلفظ مختلف، ومسلم برقم [335] – [69] في الحيض، باب: "وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة"، واللفظ له).
وإذا حدَث للمرأة الحيضُ أثناءَ النهار، ولو قبل غروب الشمس بوقت يسير، وهي صائمة صومًا واجبًا – بطل صيامها ذلك اليوم؛ أي: لا تعتدُّ به وأجرُها على الله، ولزمها قَضاؤُه بعد طهرها.
وإذا طهرت المرأة من الحيض قبل طلوع الفجر ولو بيسيرٍ، من أيام رَمضان، وجَب عليها الصِّيامُ، ولا بأس بتَأخِير الاغتِسال إلى ما بعد طلوع الفجر، حتى تَتمَكَّن من السحور، والنُّفَساء كالحائض في جميع ما تقدَّم من أحكام.
وإذا كانت المرأة حاملاً أو مُرضِعًا، وخافَتْ على نفسها الضَّرَرَ من الصِّيام، فإنها تُفطِر وتقضي ما أفطرته من أيامٍ أُخَر.
أمَّا إذا كان فطر المرأة الحامل أو المُرضِع خوفًا على ولدها لا على نفسها، فالجمهور على أنها تُطعِم مع القضاء عن كلِّ يوم مسكينًا؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في الحامل والمرضع تخاف على ولدها الضرر مع الصِّيام: تُفطِر وتَقضِي عن كلِّ يوم يومًا، وتُطعِم عن كلِّ يوم مسكينًا، وذهَب جماعةٌ من أهل العلم أنَّ عليها الصِّيام؛ أي: القضاء فقط دون الكفَّارة، كالمسافر والمريض الذي يُرجَى برؤه، ولعلَّ هذا هو الراجح، ولا يتَّسِع المقام لبسط أدلَّة ذلك
، وهو رأي سماحة والدنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
نورتييييييني يا قمر
بارك الله فيكى
واياكي حبيبتي